تؤكد المزاوجة بين عمليات إرهابية وإعلان بنيان التنظيم أن العنف الداعشي يتجه إلى تطوير آلياته في العمل، على الرغم من كل الضربات التي تلقَّتها “داعش” في العراق وفي سورية. وما يحصل اليوم من مواجهاتٍ مع الدواعش، في جغرافياتٍ متعدّدةٍ، لم ينتج في نظرنا ما ينهي الحضور العنيف الذي ما زالت تمارسه بمختلف صوّر عنفها المباغت وأنماطه.
تواصل “داعش” إنجاز خططها الإرهابية، مستهدفةً بلوغ غاياتٍ مُحَدَّدَة، وتشكِّل الفوضى الضاربة في المشرق العربي أرضيةً مُسَاعِدَة لكل من يقف وراءها في عمليات مواصلة تخريب الأنظمة والمجتمعات وتفكيكها وزرع الفِتَن.
لا بد من الإشارة، هنا، إلى أن بروز دولة الخلافة تَمَيَّز، منذ إطلاقه شراراته الإرهابية الأولى، بنوعٍ من الغموض الذي نفترض أنه حصل، في جوانب كثيرة منه، بطريقة مرغوبٍ فيها، وحصل، من جهةٍ أخرى، نظراً لتناقض مواقف الدول والتحالفات التي انخرطت في التنظيم المذكور من منطلقاتٍ متعدِّدة، الأمر الذي اسْتَنْبَت، في قلب المجتمعات العربية، كثيراً من التوتُّر والتناقض والفوضى، وساهم في تعزيز وتيرة العنف العقائدي والصراع الطائفي في مجتمعات المشرق العربي.
تولَّد عن كل ما سبق، اختلاط وتضارب في المواقف بين الأنظمة ومعارضيها وبين القِوَى الإقليمية والدولية، ما أنتج ما ساعد “داعش” على توظيف جوانب من التناقضات القائمة، حيث رَكِبَت دُرُوب المآزق والأزمات قديمها والمستجدّ، وصنعت لنفسها مكانةً قابلةً للتوظيف، بكثير من المكر والدهاء.
ساهم وصول بعض تيارات الإسلام السياسي إلى الحكم، بعد انفجارات 2011، في كل من
تونس ومصر، ثم اتساع تداعيات ما حصل في بلدانٍ عربيةٍ كثيرة، في مضاعفة غموض مواقف داعش وشعاراتها، كما ساهم تناقض (وغموض) مواقف المناصرين لخططها والمناهضين لمشروعها، في بناء حالةٍ اجتماعية سياسية مركَّبة، ومستعصية على الفهم والتَّعَقُّل.
لا يرفع صَرْح الخلافة الذي أعلنته داعش، وسط ضرباتها الأخيرة، الغموض عن التنظيم، إنه يستخدم مفرداتٍ لا علاقة لها بنظام الدولة في العالم، ولا علاقة لها بتنظيم الدولة الإسلامية في التاريخ، إن متخيِّل الخلافة في الخطاب الداعشي مجرّد آليةٍ في عمليات التجييش الهادف إلى ما هو أبعد من عملية بناء دولة الخلافة المأمولة.
تكشف بنود الإعلان المُعَمَّم أن التنظيم يتكوَّن من 35 ولايةٍ موزَّعةٍ على دول عديدة، وعدد الولايات الأكبر موجود في سورية والعراق (19 ولاية)، وأن نسبة صغيرة من هذه الولايات موجودة في دول عديدة. كما يشير هيكل تنظيمها إلى الهيئات الرسمية التي تتكوَّن منها، مُبْرِزاً الدور الكبير الذي يقوم به مجلس الشورَى، حيث يقوم مقام أمير التنظيم.
يتحدّث الهيكل أيضاً عن هيئاتٍ داخل التنظيم، فيشير إلى هيئة الهجرة ومكتب البحوث والدراسات، ومكاتب العلاقات العامة والعشائر. كما يتحدّث عن هيئة شؤون الأسرى والشهداء، وإدارة الولايات البعيدة. أما دواوين التنظيم، فقد حصرها في ديواني الجند وبيت المال، ثم ديوان الْفَيْء والغنائم وديوان الزكاة، ثم ديواني الإعلام المركزي والتعليم… إلخ. وكشف صَرْح الخلافة أن التنظيم يحمل، من دون شك، الناس على الالتزام بأحكام الشَّرْع وتطبيق الحدود، وإقامة الدين ونشره، ثم تجهيز الجيوش، والهدف حماية البيضة.
لا يبدو أن التفصيلات الهيكلية المعلنة من التنظيم تفيد شيئاً، ولا علاقة للأحكام المتضمنة فيها
بالإسلام ورسالته. فالإرهاب الداعشي موظفٌ لإصابة أهدافٍ سياسية مُحَدَّدَة. اختلاط الأوضاع في سورية والعراق وليبيا واليمن، وتواطُؤ القوى الإقليمية والدولية وتناقُض مصالحها ومواقفها وحساباتها، وعجز المعارضات التي استنفذت قدراتها على الفعل والعمل، وانخراط كثير منها في بُؤَر الجهاد والسلفية والإسلام السياسي، وكذا عجز الأنظمة الاستبدادية على رفع حالة التفكُّك الجارية في مجتمعاتها. كل هذا دفعها إلى التنكيل بشعوبها وتهجيرها، فَتَمَكَّنَت القوى الدولية المتربِّصة بالجغرافية العربية من بناء مداخل جديدة، قصد الإعداد لمشاريع تدخلُّها وتحَكُّمِها في المنطقة العربية.
لا ينبغي أن يجعلنا نظام صَرْح الخلافة، بمفرداته العتيقة، أن نربط بين الحروب المشتعلة وصور الإرهاب ورسالة الإسلام. عمق ما يجري يضعنا أمام حالةٍ كاشفةٍ عن استمرار توظيف الدين لمجابهة إشكالاتٍ تتعلق بالصراع الدولي والإقليمي على المنطقة العربية، ذلك أننا أمام حروبٍ جديدة، وهذا الأمر بالذات يضعنا أمام حالةٍ مركَّبَةٍ ومُعَقَّدَة، يحصل فيها ما يحصل عادة في حالات الحروب بالوكالة. وبناء عليه، الحالات المماثلة لما يحصل اليوم أمامنا تتطلب معارك عديدة في جبهاتٍ مختلفة، نفترض أن تُفْضِي، عند حصولها، إلى توسيع مساحة فهم ما جرى ويجري، وقد تؤدي إلى رفعه وتجاوزه.
كمال عبداللطيف
صحيفة العربي الجديد