عربستان هي الاسم الذي أطلقه الفرس على مملكة يقطنها العرب، كانت تقع في جنوب غرب إيران الحالية. وقد تحول اسمها إلى محافظة “خوزستان” بعد القضاء على آخر حاكم عربي فيها. وتوصف حالياً أيضاً بإقليم عربستان أو الأهواز أو الأحواز.
قد يصفها العرب بإمارة عربستان، غير أن الفرس يصفونها بمملكة عربستان. والمملكة عادة أهم من الإمارة. وتؤدي الهجرة الاستيطانية إلى هذه المملكة إلى توطن المهاجر، وسيطرته على الأرض التي يملكها الآخر؛ ونعني هنا العرب الأهوازيين.
لقد حدد ميرزه محمد تقي الأنصاري الكاشاني، المُوفَد من قِبل الشاه ناصر الدين الغاجاري إلى عربستان في عام 1881 حدودها، كالتالي؛ مدينة المحمرة وجزيرة الخضر (عبادان حالياً) وشط العرب في جنوبها، ومدينة رامز ومدينة الفلاحية (وما يتبعها أي قضائي معشور وهنديان) في شرقها، ومدينة الحويزة (وما يتبعها)، والأراضي العثمانية وعراق العرب في غربها، وبلدة الحسينية (التي تحدها لورستان) في شمالها.
3
وثائق فارسية تتحدث عن حدود “مملكة عربستان”
يذكر أنصاري الكاشاني، أن طول مملكة عربستان يبلغ 100 فرسخ تقريباً، وعرضها 40 فرسخاً (ميرزا محمد تقي خان أنصاري كاشاني، گنج شايگان (عربستان)، مخطوطة لعام 1229 ه ق، إصفهان، مكتبة فرهنگ إصفهان).
ويعادل الفرسخ الواحد نحو 24-6 كم، إذ يبلغ طول المملكة 624 كم، وعرضها 250 كم، ومساحتها 156 ألف كم٢. وبذلك تبلغ مساحة مملكة عربستان، مرتين ونصف مساحة محافظة “خوزستان” البالغة 64055 كم٢.
هناك نوعان من الهجرة؛ الأولى الهجرة غير الطبيعية، والأخرى الطبيعية التي تتم دون قصد وغرض.
في مقاربتنا للجذور التاريخية للهجرة إلى مملكة عربستان نرى أنها كانت جد شحيحة في عهد ملك عربستان، الحاج جابر بن مرداو (1780 – 1881)، الذي حكمها لمدة 50 عاماً (1831 -1881). وقد هاجر بعض التجار الفرس من بهبهان وتستر ودسبول إلى المحمرة في عهد الأمير مزعل الحاج جابر (حكم 1881 -1897)، ونعلم أن زوجته كانت بهبهانية. وفي عهد الأمير خزعل (حكم 1897 -1925) زادت الهجرة غير العربية، خصوصاً بعد إنشاء مصفاة النفط في مدينة عبادان، كأكبر مصفاة في الشرق الأوسط آنذاك، إذ نتعرف في عهده على تجار كمحمد علي الريس، رئيس التجار ووزير ماليته، ومعين التجار البوشهري القاطن في الأهواز، ودشتي وعجم وآخرين.
غير أن الحكم العربي كان مسيطراً على أمور الهجرة، ولم تستفحل كما استفحلت في العهد البهلوي؛ أي بعد سقوط هذا الحكم على يد الشاه رضا البهلوي، ومن ثمّ في عهد الجمهورية الإسلامية.
فشيخ خزعل رغم دهائه السياسي ارتكب أخطاءً خطيرة، إذ حال دون انبثاق طبقة وسطى عربية في المملكة، كما كانت في طهران وإصفهان وتبريز، إذ لم يقم بإنشاء المدارس في أنحاء القُطر، كما لم يسمح بنشر الصحف والكتب، ولم يُوفد الشباب الأهوازي إلى الجامعات في بيروت أو الدول الأوروبية، كما كانت تفعل السلطة الغاجارية. وناصب العداء لأهم القبائل النافذة آنذاك، وهي آل كثير، وآل ناصر، وبني طرف، وأهمل بذلك لملمة صفوف شعبه أمام سلطة طهران المركزية المتربصة له، رغم أنه تحالف مع رؤساء القبائل البختيارية واللورية المجاورة أمام السلطة المركزية.
في عهد الشاه رضا البهلوي كان التأكيد على تغيير الرموز العربية واسم المملكة وأسماء المدن؛ فعلى سبيل المثال قام النظام في عام 1935 بتغيير أسماء المدن الكبرى كالمحمرة وعبادان والفلاحية والخفاجية ومناطق أخرى إلى الفارسية، بُعيد اغتيال الشيخ خزعل، الذي كان يرزح في الإقامة الجبرية بطهران. كما قامت أجهزته الأمنية بمكافحة الزي القومي العربي، ما أثار انتفاضات قبلية في عربستان، وتعد هذه الفترة برزخاً بين فترتين.
وفي الفترة (1941 -1953) وبسبب عدم استقرار الأوضاع في البلاد والتغيير السريع للحكومات، انشغل شاه إيران السابق محمد رضا البهلوي بقضايا تخص وجوده من عدمه، حيث سادت حالة شبه ديمقراطية في إيران. غير أن الشاه تحول إلى ديكتاتور بعد سقوط حكومة مصدق في 1953؛ إذ أخذ يخطط لتغيير التركيبة السكانية للشعب العربي الأهوازي. كانت البداية من مدينة عبادان بعد إنشاء “السافاك” في 1957، إذ تولى الجنرال تيمور بختيار كأوّل رئيس لهذه المؤسسة الأمنية المخيفة بتوظيف نحو 2000 شخص من القومية البختيارية في مصفاة عبادان خلال أعوام (1957 – 1960)، وهو ما يعني أن نحو 10 آلاف شخص غير عربي تم استيطانهم بشكل مبرمج في هذه المدينة العربية. بعدما سادت أجواء استعمارية معادية للعرب بسبب تعيين رئيس بختياري لإدارة “السافاك” في عبادان، وتنصيب شخص بختياري لمجلس بلدية عبادان، وانتخاب مندوب بختياري للمدينة في البرلمان. وهي التي تضم أغلبية عربية، ونحن نعرف معنى الانتخابات المهزلة في ذلك العهد.
ركّز نظام الشاه السابق على مدينة الأهواز بعد أن كشف جهازه الأمني “السافاك” منظمةً سرية تسعى لاستقلال عربستان، تُوصف بمنظمة تحرير عربستان (اللجنة القومية العليا). وأدرك أن هناك حركات تحررية يمكن أن تلعب دوراً في بحر الجماهير العربية، محاولين تغيير هذا البحر إلى بحيرة.
انطلقت حملة لشراء الأراضي بواسطة أثرياء في طهران، وأصبحت هذه الأراضي والعقارات في سوق البورصة بواسطة نشر الإعلانات الواسعة حول ابتياع الأراضي والعقارات في الأهواز. كما نفّذ السافاك خطة لنقل المعلمين والمدرسين العرب من مدن الخفاجية والحويزة والبسيتين إلى بهبهان ودسبول وعبادان، ليُحلَّ محلَّهم معلمين فرساً، ويرمي بذلك عصفورين: تفريس المعلمين العرب، والعمل على تفريس التلاميذ في المدن الثلاث.
كشاهد على عداء النظام الشاهنشاهي للعرب أنقل هنا مقتطفاً من مذكرات أسد الله علم، رئيس وزراء الشاه السابق يقول فيها، “يوم الاثنين 9-11-1951 (29-1-1973): كرمني الشاه بالدخول عليه. تحدثت عن مقال نشرته لوموند، مدعية أن خوزستان هي عربستان، والشعب هناك عربي والأزياء واللغة عربية. غضب الشاه جداً، وتفضل بالقول بأن يتم الرد على ذلك بمقال حاد. قلت إن مقالاً واحداً لا يكفي، بل يجب أن يكون لدينا مخططٌ قصير الأمد، وآخر طويل الأمد، لنتمكن في الحقيقة أن نغير الوضع هناك، وأعني تغيير اللغة والتقاليد والأزياء والقومية وكل شيء. قلت له، في عهد الشاه نادر والشاه عباس كان ترحيل الناس يتم بسهولة، كما نشهد حالياً الأرمن في أصفهان والترك القشقائيين في (محافظة) فارس، فلماذا لا نفعل نحن ذلك؟ تفضل قائلاً، كلامك صحيح، اذهب وادرس الأمر، قلت إني وعند إنشاء مركز مكافحة الأمية (في إيران) كنت مسؤولاً عن مكافحة الأمية، بخاصة عند الكهول. فعندما شاهدت أن مخططنا وطاقاتنا لا تستطيع أن تشمل جميع البلاد، فخلال سنتين حصرت المخطط على دشت ميشان (منطقة دست ميسان وتشمل مدن الخفاجية والحويزة والبسيتين)، وخرم شهر (المحمرة)، وآبادان (عبادان)، وجزيرة مينو (جزيرة صلبوخ)، حيث حالياً يتحدث الفارسية أكثر من 70 في المئة من الناس، خصوصاً الأطفال والنساء هناك. أي يمكن أن نقوم بأعمال أخرى. تفضل قائلاً، ينبغي أن تفعلوا ما يجب فعله”.
من مذكرات رئيس الوزراء الإيراني الأسبق أسد الله علم يشرح فيها أن الشاه محمد رضا أمره بتنفيذ إجراءات لقلب التركيبة السكانية في المناطق العربية
هذا اعتراف صريح لأعلى مسؤولين سياسيين في عهد الشاه بارتكابهم تطهيراً عرقياً ناعماً ضد العرب في عربستان. هذا غيض من فيض. وثيقة واحدة فقط من المخططات الشيطانية المسؤولين الإيرانيين، فيما هناك الآلاف من الوثائق مخبئة في أرشيفات الجمهورية الإسلامية، لا سيما في وزارات الداخلية، والخارجية، والدفاع، ومراكز الوثائق في المكتبة المركزية لجامعة طهران، ومكتبة البرلمان، ومؤسسات أخرى.
وفي عينة أخرى يمكن الإشارة إلى الضغوط التي مارسها “السافاك” ضد مكي الفيصلي، مندوب المحمرة في البرلمان الإيراني في الفترتين (1963 -1967) و(1971 -1975)، وأحد المقاولين العرب الكبار في تلك المدينة والمقرب لنظام الشاه، حيث أجبروه ألا يوظف عمالاً أهوازيين، بل يوظف عمالاً كُرداً، تم تشجيعهم على الهجرة من كردستان إيران إلى المحمرة للعمل في مينائها، في إطار الهجرة الاستيطانية لازدياد نسبة غير العرب في العاصمة السابقة لعربستان.
كما يمكن الإشارة إلى ظاهرة بين بعض الفئات في المجتمع الأهوازي، وهي أن التفريس لا يشمل فقط أطفال العائلات التي لديها أم أو أب غير عربي، بل يشمل أيضاً عائلات الآباء العرب؛ لكن رغم تفريس نحو مليون إلى مليون ونصف المليون أهوازي خلال العهدين البهلوي والإسلامي، فإني أُخمن أن عدد العرب حالياً بنحو 7-8 في المئة من كل نسمة إيران؛ هذا يعني أن جهود نظام الشاه لم تتمكن من استئصال وجودهم نهائياً، وإنْ كان له تأثير سلبي لمسناه بعد قيام الثورة.
وخلال الثورة الشعبية ضد الشاه، شارك العرب بكثافة وقدموا ضحايا قرباناً للحرية، للمرة الأولى في تاريخ إيران المعاصر حيث كانوا شبه غائبين في ثورة الدستور (1906 – 1909) بسبب استقلالهم الداخلي عن إيران آنئذ.
فبعد قيام الثورة عارضت الأقلية غير العربية، التي أنشأها الشاه في المحمرة، منح أي حقوق للشعب العربي الأهوازي، بل حملت السلاح وتحالفت مع الحاكم العسكري الفارسي الجنرال أحمد مدني في قمع الحراك السياسي والثقافي السلمي لأبناء هذا الشعب. وبالطبع كانت مدينة المحمرة رائدة في هذا المجال. وقد لعبت الأقلية غير العربية دوراً مهماً في مذبحة المحمرة في 30 مايو (أيار) 1979 وما بعده. إذ قضت على حلم العرب في إقامة حكم ذاتي في عربستان.
4
وما يخشاه الشعب العربي الأهوازي من الهجرة الاستيطانية هو خلق بؤر استيطانية تهدد حاله ومستقبله. ويجب التنويه هنا أن وضع عربستان، رغم الاضطهاد القومي كقاسم مشترك مع كردستان وأذربيجان، يختلف في بعض الأمور، إذ كانت لدينا دولة شبه مستقلة لفترات ومستقلة لفترات أخرى منذ الفتوحات الإسلامية للإمبراطورية الساسانية. فلم تكن عربستان في فترات تبعيتها، تابعة لإيران فحسب، بل وخلال فترتين تم احتلالها، مع كردستان وأذربيجان، من قبل العثمانيين.
وتمادت إيران في مشروع الهجرة الاستيطانية في إقليم عربستان الذي يضم إلى جانب الأغلبية العربية، أقليات تسترية ودسبولية وما شابه ذلك.
لقد ركزت الأنظمة الإيرانية، بخاصة بعد الثورة، على الأهواز العاصمة. ونحن نعلم أن وقائع الثورة والحرب مع العراق أدت إلى هجرة معاكسة لغير العرب من عبادان إلى مدنهم، حيث يمكن القول إن نسبة السكان غير العرب إزاء العرب في عبادان حالياً يبلغ من 25 إلى 30 في المئة.
وحول المشروعات الاستيطانية في الأهواز العاصمة، أشير إلى خبر تسرّب قبل سنوات نقلاً عن الأدميرال علي الشمخاني، أمين المجلس الأعلى للأمن القومي، ونُشر على شبكات التواصل الاجتماعي والإعلام المحلي بالأهواز، يفيد بأنه تم توظيف 4 آلاف موظف وعامل من القومية البختيارية في شركة “حفاري للنفط” في مدينة الأهواز، فيما لم يتم توظيف إلا سبعة أشخاص من الأغلبية العربية في المدينة، وذلك في الفترة 2006 -2016.
أضف إلى ذلك إنشاء مستوطنات داخل الأهواز كـ”شهرك نفت”، و”شهرك آغاجري”، وأخرى في محيط المدينة كـ”شيرين شهر”، و”شهرك رامين”، وما شابه ذلك. كما لا ننسى أن أكثر من 200 اسم مدينة وبلدة وقرية ونهر وأمكنة جغرافية أخرى تم تغييرها إلى الفارسية في العهدين البهلوي والإسلامي والحبل على الجرار إلى اليوم.
وقد تم تقسيم مقاطعة الأهواز التاريخية إلى 3 مقاطعات؛ الأهواز، كارون وكوت عبدالله؛ وذلك للادعاء بأن الأهواز العاصمة غير عربية بسبب وجود أقلية غير عربية شبه واسعة، لكن رغم ذلك لا يزال يشكل العرب أكثر من 75 في المئة من مقاطعة الأهواز، وهي أرضهم وبلدهم التاريخيين.
ومن المستجدات في هذا السياق، تجدر الإشارة إلى الأوامر الأخيرة للمرشد الإيراني علي خامنئي بضرورة توطين الفرس في جزر الخليج، التي يقطنها سكان عرب منذ القدم ومعظمهم من قبيلة بني تميم العريقة. فاستراتيجية السلطات الإيرانية منذ العهد الغاجاري أواسط القرن التاسع عشر إلى يومنا هذا قائمة على تفريس مملكة عربستان وطمس الهوية العربية بشتى الطرق.