في تطور تاريخي ملحوظ، تستخدم روسيا قاعدة جوية إيرانية لشن عمليات عسكرية تستهدف أراض أجنبية، للمرة الأولى على ما يبدو منذ الحرب العالمية الثانية. ففي 16-17 آب/أغسطس، أقلعت الطائرات الروسية من قاعدة “نوجة” الجوية في غرب محافظة همدان لاستهداف مواقع في سوريا.
وتحرّم المادة رقم 146 من الدستور الإيراني “إقامة أي نوع من القواعد العسكرية الأجنبية على الأراضي الإيرانية، حتى لأغراض سلمية”، ولكن الظاهر أن هذا الأمر لا ينطبق على مسألة السماح للأجانب باستخدام قاعدة إيرانية. وفي هذا الصدد، أشار علاء الدين بروجردي، رئيس “لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية” في البرلمان، إلى أن “قاعدة همدان الجوية لن تصبح قاعدة روسية، ولن يتم نشر طائرات مقاتلة أجنبية في القاعدة الجوية “نوجة”؛ فالنشاط الوحيد المسموح به يقتصر على تزويد الطائرات المقاتلة الروسية بالوقود في القاعدة”. ومع ذلك، فحتى لو توافرت بعض القيود القانونية، سيجيز الدستور للمرشد الأعلى علي خامنئي أن ينقضه بما فيه خير لـ “مصلحة النظام”.
وفي ما يتعلق بالتداعيات الأوسع نطاقاً الخاصة بالقرار، صرّح الأمين العام لـ “المجلس الأعلى للأمن القومي” وممثل خامنئي، علي شمخاني، أن “التعاون الإيراني الروسي لمكافحة الإرهاب في سوريا هو تعاون استراتيجي، ونحن نتبادل القدرات والإمكانات مع بعضنا البعض”. كما شدّد على أن “عقيدة مقاومة الشعب” هي السبيل الوحيد لمواجهة “التهديدات الإرهابية” و”حماية الإستقلالية والأمن في البلدان الإسلامية…. فالتعاون البنّاء والواسع النطاق بين كل من إيران وروسيا وسوريا وجبهة المقاومة جعل الوضع صعباً على الإرهابيين، وستسمر هذه العملية عبر إطلاق حملة جديدة واسعة النطاق تهدف إلى إبادتهم تماماً”. كما رفض شمخاني أي عرض لاستئناف المفاوضات السياسية مع المعارضة السورية، حيث قال: “لا يعقل [اتخاذ قرار يقضي] بوقف إطلاق النار بيننا وبين المجموعات التي تفتقر إلى هوية واضحة، وتتخذ اسماً جديداً لها بشكل مستمر لتتجنب إدراجها في لوائح الإرهاب ولا تلتزم بأي وعد.”
وبالمثل، ذكر المتحدث باسم “المجلس الأعلى للأمن القومي” الإيراني كيوان خسروي في 16 آب/أغسطس أن التعاون مع نظام الأسد وروسيا ضد “التيار التكفيري الحالي في سوريا” قد بدأ منذ فترة وأنه ينتشر على نطاق أوسع. وأشار إلى أنه “منذ بداية هذا التعاون، يتبادل مسؤولون سياسيون وأمنيون رفيعو المستوى وكذلك قادة عسكريون العديد من الزيارات من كل بلد إلى البلدين الآخرين، للاجتماع وتبادل الأفكار من أجل تركيز جهودهم بصورة صحيحة ودقيقة على خدمة المصالح المشتركة لهذه الدول الثلاث. ويشارك كلّ بلد من هذه البلدان الثلاثة قدراته وإمكانياته العسكرية والاستخباراتية والقيادية والتدريبية والإقليمية مع البلدين الآخرين. وسيتم اتخاذ قرارات أخرى وفقاً للتقدم المحرز على الأرض والإنجازات التي تنجم عن هذا التعاون.”
وفي 12 آب/أغسطس، زار وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف تركيا، حيث التقى بالرئيس رجب طيب أردوغان ومسؤولين آخرين. وخلال زيارته، كرر الرسالة التي أفصح عنها في لقائه السابق مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ووزير الخارجية سيرغي لافروف في سان بطرسبرغ – حيث قال أن “إيران وتركيا وروسيا هي الجهات الفاعلة المهمة في المنطقة وتحتاج إلى مناقشة خلافاتها والعثور على حلول لها عن طريق الحوار.”
أما بالنسبة إلى العمليات الفعلية التي انطلقت من قاعدة “نوجة”، فقد ضربت أربع قاذفات “توبوليف” روسية مواقع في ثلاث مناطق: (1) شمال سوريا، حيث شملت أيضاً وفقاً لبعض التقارير منطقة الراموسة في حلب، التي لا تسيطر عليها قوات تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» («داعش»)، بل وحدات متمردة أخرى تحارب نظام الأسد – ومن المفترض أن يكون تنظيم «داعش» الهدف الرئيسي لكل من روسيا وإيران في سوريا، على الأقل وفقاً لحملاتهما الدعائية المحلية، (2) دير الزور، حيث يقاتل النظام تنظيم «الدولة الإسلامية»، و (3) منطقة إدلب. وادعت طهران وموسكو أن هذه الطائرات استهدفت تنظيم «داعش» و «جبهة النصرة» [التي غيّرت اسمها لـ «جبهة فتح الشام» بعد فك ارتباطها بـ تنظيم «القاعدة»]. ويردد هذا المنطق ادعاءات إيران المتكررة على مدى العام الماضي بأنها اكتشفت وأبطلت مفعول العديد من المؤامرات الإرهابية لـ تنظيم «الدولة الإسلامية» التي كانت تحاك على أراضيها. وفي التصريح الأخير الذي ألقاه وزير الاستخبارات محمود علوي في 16 آب/أغسطس، أعلن أن قواته قد دمّرت مؤخراً “خلية إرهابية” تسللت إلى غرب إيران، الأمر الذي أدّى إلى مقتل أربعة عناصر من الخلية واعتقال ستة آخرين.
ومن جانبهم، فسّر الخبراء السياسيون الإيرانيّون تعزيز التحالف بين طهران وموسكو وتكثيف عملياتهما العسكرية في سوريا على نحوين مختلفين. فبعض المصادر (على سبيل المثال، الموقع الإلكتروني “الدبلوماسية الإيرانية” الذي يديره صادق خرازي) تنظر إلى التغير الملحوظ كمؤشر على أن إيران قد نقلت المزيد من الصلاحيات التي كانت قد منحتها إلى “المجلس الأعلى للأمن القومي” حول الشؤون السورية إلى وزارة الخارجية، على غرار ما حصل في السياسة النووية في بداية ولاية الرئيس حسن روحاني.
إلا أن بعض الخبراء الآخرين يؤيدون فكرة أن التكلفة السياسية لتعزيز التعاون العسكري مع روسيا لن يخدم أجندة روحاني المركزية، المتمثلة بجعل إيران منفتحة اقتصادياً عبر تطبيق الاتفاق النووي بسلاسة وبناء الثقة مع المجتمع الدولي. وعلى وجه التحديد، لن يؤدي توطيد العلاقات العسكرية مع موسكو إلا إلى تعميق عدم الثقة في الغرب، ولاسيما في الولايات المتحدة؛ وبدوره قد يؤدي هذا الأمر إلى زرع المزيد من الأشواك على الطريق التي تسلكها إيران نحو الاندماج في الاقتصاد العالمي وزيادة حدة العزلة التي تعاني منها البلاد. كما أن تعزيز التعاون العسكري والإقليمي مع روسيا يتماشى مع سياسات طهران العدوانية المناهضة للسعودية، لاسيما في اليمن؛ ومن المرجح أن يؤدي هذا الأمر إلى تدهور العلاقات السعودية – الإيرانية وتقويض احتمالية تخفيف حدة التوترات بين هاتين القوتين الإقليميتين الرئيسيتين.
الوجود العسكري الروسي المتزايد في إيران – فرزين نديمي
عندما أكدت موسكو أن الطائرات الروسية كانت تستخدم قاعدة “نوجة” كمنصّة لانطلاق عمليات القصف التي استهدفت خمسة مواقع للمتمردين في سوريا، فإنها قدّمت بعض التفاصيل المهمة. ورافق الإعلان شريط فيديو وصور تُظهر ما لا يقل عن أربع قاذفات توبوليف من طراز “تي يو-22 إم3 باكفاير – سي” بعيدة المدى وطائرة سوخوي “سو 34” وطائرة نقل تحمل على متنها طاقماً من المشاة والمعدات.
وبعد فترة وجيزة من إعلان موسكو، نفى رئيس البرلمان الإيراني علي لارجاني أي تقارير مفادها أن بلاده قد منحت روسيا قاعدة عسكرية دائمة في “نوجة”، واستشهد بالمادة 146 من الدستور. وعلى ضوء هذا النفي السريع، من غير المرجح أن تتواجد روسيا بشكل دائم في قاعدة “نوجة”. إلا أنها قد تزيد بشكل كبير من استخدامها للطرق والخدمات الإيرانية لشن غارات وعمليات إنقاذ في الطرق المؤدية إلى سوريا والتي تخرج منها.
وفي ما يتعلق بالتأثير العسكري، يُعتبر إنطلاق القاذفات الروسية من غرب إيران قرار لم يسبق له مثيل لأنه يسمح لموسكو بتسجيل زيادة كبيرة في وتيرة ونطاق حملات القصف المكثّفة التي تشنها على المناطق السورية المحتدمة إذا ما اختارت هذا المسار، وذلك تمشياً مع تصعيد حملة القصف في الآونة الأخيرة على مدى معظم أرجاء البلاد. ويقيناً، أن الطائرات الروسية ستستمر في حمل أقل عدد ممكن من القنابل الكاتمة للصوت في محاولة واضحة لإبقاء تكاليف التدخل منخفضة، لذلك فحتى لو استخدمت [قاعدة] همدان بشكل مستمر، قد لا تحمل بالضرورة أوزاناً أكثر ثقلاً. ومع ذلك، فإن الوزن الرمزي والسياسي لهذه الخطوة مهم بحد ذاته، بغض النظر عن العوامل العسكرية.
ووفقاً لقاعدة البيانات الخاصة بالقوات الجوية العالمية للطيران الدولي، تشغّل روسيا حالياً ما يصل إلى 70 من قاذفات توبوليف من طراز “تي يو-22 إم”، تم تحديث 6 منها إلى “إم 3” بالإضافة إلى 60 من طراز “سو-اس34” جاهزة للاستخدام. وتعتبر طائرات التوبوليف من طراز “22 إم3” واحدة من أكثر القاذفات البعيدة المدى المتعددة الاستخدام في الترسانة الروسية، فهي قادرة على نقل 9 إلى 12 طن من القنابل إلى ما يصل إلى مسافة 2400 كلم (1500 ميل)، أو نقل 24 طن على مسافة أقصر. ويعني استخدام “نوجة” كقاعدة انطلاق أن القاذفات التي تتجه إلى حلب ستقطع مسافة 1000 كلم أقل مما لو كانت تتجه مباشرة من “قاعدة مزدق الجوية” في شمال أوسيتيا، منبع معظم الغارات الأخيرة. وهذا يسمح للطائرات بنقل حمولات أكثر ثقلاً ويجعلها أكثر مرونة من خلال السماح بالتحليق فوق المواقع لبعض الوقت، والاستجابة بصورة أسرع للمهام الطارئة.
وتحمل كل قاذفة توبوليف “22 إم3” أربعة من أفراد الطاقم وتستطيع أن تتسع لـ 118000 رطل (53000 كيلوغرام) من الوقود. ويزداد موقع “نوجة” أهمية عندما يفكر المرء أنه تم الإستغناء عن معدات التزويد بالوقود الخاصة بهذه القاذفات في ثمانينيات القرن الماضي تمشياً مع اتفاقيات نزع السلاح “ستارت”، بحيث لا يمكن لهذه القاذفات استخدام ناقلات تزودها بالوقود في الجو. وتعتبر طائرة سوخوي “سو 34” الأصغر حجماً ولكن ذات القدرة نفسها، طائرةً روسيا الجديدة المقاتلة من العيار الثقيل، حيث باستطاعتها نقل حوالي ثمانية أطنان من القذائف. إلا أن قطرها القتالي يقتصر على 1000 كلم، لذلك تحتاج إلى التزود بالوقود في الجو أو على الأرض في قاعدة متقدمة مثل “نوجة” لشن حملات قصف فعالة في سوريا.
وتُعتبر قاعدة “نوجة”، الأقرب إلى الممر الجوي بين طهران ودمشق، أبرز قاعدة جوية قتالية إيرانية، إذ تحتوي على أربعة أسراب من الطائرات القديمة من طراز “فانتوم إف-4”. وقد تم تصميم هذه “القاعدة الجوية الاستراتيجية” من قبل الولايات المتحدة وأُكمل بناؤها في الستينيات، عندما كانت إيران وواشنطن حليفتان، وذلك كجزء من برنامج لمنح المعونات لمواجهة التهديدات المحتملة من غزو الاتحاد السوفياتي لممرات جبال زاغروس والعدوان العراقي من الغرب. وخلال الحرب بين إيران والعراق، شكلت قاعدة “نوجة” المركز الرئيسي لشن حملات القصف المكثفة داخل العراق إلى بُعد يصل إلى موقع القاعدة الجوية “اتش 3” القريبة من الحدود الأردنية.
وقد أكملت القاعدة حالياً حلقة كاملة، حيث تستخدم القاذفات الروسية مدارجها التي يبلغ طولها ثلاثة أميال وسلالمها الواسعة لشن الغارات واستعادتها. وفي حين يستطيع طول المدرج في أبرز منشأة جوية روسية في الحملة في سوريا، في قاعدة “حميميم” في اللاذقية، أن يتحمل إقلاع التوبوليف “22 إم3” وهبوطها، إلا أن مجاله الضيق جداً يعيق تنفيذ عمليات القصف المستمرة. ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى أنه إذا حاولت إيران تحسين قاعدة “نوجة” بطريقة تجعلها أكثر ملاءمة لعمليات قاذفات توبوليف “22 إم3″، فمن المحتمل أن يعتبر هذا الأمر انتهاكاً لقرار مجلس الأمن رقم 2231.
وعلى كل حال، حتى لو توقفت القاذفات الروسية لبضع ساعات فقط في قاعدة “نوجة” ليتم تزويدها بالوقود على النحو الذي اقترحه بعض المسؤولين الإيرانيين، فسيعتبر مثل هذا النشاط بداية لعلاقة استراتيجية أكثر راحة ومبنية على قدر أكبر من الثقة بين البلدين. وقد أكدت إيران مجدداً عزمها على تعزيز العلاقات مع الجهات الفاعلة مثل روسيا والصين، فيما يبدو أن موسكو تبعث رسالة علنية لواشنطن بأنها باقية في الشرق الأوسط
مهدي خلجي
معهد واشنطن