لا تخلو ندوة ولا يكتمل لقاء على المستويين الخاص والعام، في الدول العربية وخارجها، من الحديث عن حوادث تركيا وانعكاساتها على المنطقة والحروب الساخنة والباردة والمرشحة للاشتعال التي تأكل الأخضر واليابس وتقلب الأوضاع رأساً على عقب وتهدد بالتقسيم والتفتيت واختفاء دول ومسح حدود وفناء شعوب بين قتل وتطهير عرقي وديني وتهجير.
فمن يتعمق في الحدث الكبير يدرك جيداً أن الخطر لم يعد يهدد تركيا وحدها، بل هو شامل وحارق ومدمر للمنطقة بأسرها وقابل لنقل عدوى الانفصال والتقسيم إلى العالم من دون استثناء. والواقع يشهد على ذلك.
ففي القرن الماضي جلس ديبلوماسيان (سايكس البريطاني وبيكو الفرنسي) في أحد فنادق لندن ووضعا خريطة المنطقة العربية أمامهما وأعملا فيها تقسيماً وتمزيقاً، وفق المطامع والأهواء والنيات الخبيثة المبيتة لزرع صواعق التفجير والألغام في كل مفصل من مفاصل الأمة لتكون جاهزة للتفجير في أي لحظة بهدف إثارة الفتن والاضطرابات عند بروز أي اتجاه لتوحيد الصف أو بناء وسائل القوة والصمود.
واكتملت المؤامرة بـ «وعد بلفور» الظالم أولاً، ثم بتسليم فلسطين العربية إلى الصهاينة في العام 1948 وزرع إسرائيل شوكة في خاصرة العرب وسداً فاصلاً بين المشرق العربي ومصر من جهة، وبينه وبين المغرب العربي من جهة ثانية.
في تلك المرحلة، سيق العرب كالغنم إلى مقصلة التقسيم بعد خيانتهم بوعود زائفة مثل إقامة خلافة ودعم ما سمي بـ «الثورة العربية الكبرى» ضد دولة الخلافة العثمانية، ومن ثم الانقضاض عليها وتفكيكها وتقاسم تركة ما سمي بـ «الرجل المريض» وتدجين العرب لحملهم على قبول الحدود المشبوهة أمراً واقعاً تحول مع الزمن إلى شأن مقدس لا مجال فيه لتغيير شبر واحد أو الاتفاق على رسم حدود جديدة، ويتسبب بالويل والثبور وعزائم الأمور ويهدد بنشوب حرب تقصم ظهور البعير.
لكن الوضع تغير خلال السنوات الخمس الماضية من الحروب والثورات وأعمال العنف والإرهاب والانقلابات، وكان آخرها الانقلاب التركي الفاشل وما نجم عنه من إعادة حسابات وانقلاب معادلات وقرارات وإجراءات تطهير شاملة لا يمكن إلا أن تسفر عن ردود فعل وأخطار ونتائج وخيمة على تركيا ودول المنطقة.
وبات من المؤكد أن سكين التقسيم الذي وُضع على رقاب العرب لقرن من الزمان سيطاول العالم كله، وفق ما يمكن استخلاصه من سلسلة الحوادث المتلاحقة. بل إن أمر التحذير من الأخطار التي تتهدد العالم لم يعد يقتصر على السياسة والأمن، إذ سمعنا أخيراً تحذيرات من علماء فضاء وغيرهم من حدوث انفجارات شمسية تهدد الكرة الأرضيّة، بينما تتزايد تحذيرات رجال الدين والعلماء من قرب حلول يوم القيامة، مستندين إلى مؤشرات دينية مستمدة من القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة والأدبيات الإسلامية. وهذا كله في علم الغيب، ولا يعلم به إلا الله عز وجل. أما في الواقع الراهن، فإن الحوادث تشير إلى امتداد أعمال العنف والاضطرابات إلى شتى أنحاء العالم، وتثير قلاقل تنتج عنها بدايات تفكك دول وانهيار منظومات قائمة أو تقسيم مجتمعات، إن لم تقسم دولاً، بسبب تزايد الشرخ بين التيارات المعتدلة والتيارات المتطرفة والعنصرية.
وبالعودة إلى تركيا لا بد من تأكيد أن كل ما جرى تحقيقه في شأن تكريسها قوة إقليمية فاعلة ووازنة في المنطقة وعلى صعيد دورها في حلف الأطلسي، اهتز مع أول رصاصة أطلقت ليلة الانقلاب الفاشل وما تبعه من حملات الاعتقال والتسريح التي لم تطاول الجيش وجنرالاته وحسب، بل امتدت إلى كل مفصل من مفاصل الدولة من قضاء ومؤسسات وإعلام وأمن.
قد يتمكن الرئيس التركي رجب طيب إردوغان من الإمساك بزمام الأمور، أو أن يبسط سيطرته على الأوضاع لفترة قصيرة، لكن الحتمية التاريخية وتجارب الآخرين تؤكد أن المشاكل ستتوالى، وأن الجيش لن يسكت على الإهانات التي لحقت بجنرالاته وجنوده، لأن العسكري سيظل ناقماً على مشهد زملائه وهم راكعون وعراة مجردين من ثيابهم العسكرية التي تمثل شرفهم، كما أن الأعداد الهائلة من المعتقلين والمفصولين والفارين تؤكد أن تركيا بعد الانقلاب لن تكون كما كانت، إن من حيث وحدة الأراضي والشعب أو من حيث قوة جيشها وقدراته، إضافة إلى وزنها ودورها الإقليمي والدولي.
ولو أضفنا انعكاسات الحوادث على الوضع الاقتصادي الذي شهد هزات عدة في عام واحد، ومن ثم فهم أبعاد التركيبة السكانية وتفاصيلها والخلافات والتباينات والطموحات الانفصالية والتوازنات بين الأتراك والأكراد والعلويين والعرب، لأدركنا تماماً دقة المرحلة مع إضافة انعكاسات الوضعين السوري والعراقي والمؤامرة الدولية لتقسيم البلدين العربيين من «سايكس- بيكو» المنتهية الصلاحية إلى «طبعة جديدة» بتوقيع «كيري- لافروف».
وبات واضحاً أن هناك خطة يعمل عليها بدعم الأكراد لإقامة دولتهم مع بناء قواعد عسكرية أميركية في مناطقهم في مقابل غض الطرف عن القواعد العسكرية الروسية على الساحل السوري. كما لم يعد سراً ما تعمل عليه إيران لبسط نفوذها على المنطقة ضمن طموحاتها التوسعية لإحياء الامبراطورية الفارسية.
إلا أن التباينات بين «المقسِّمين» مازالت كبيرة، إن من حيث أساليب التنفيذ والفرض أو من حيث الانعكاسات المرتقبة وارتداداتها عليهم وعلى مصالحهم وعلى الاستقرار في دول المنطقة والعالم بأسره.
كما أن إيران، التي تعمل على تكريس نفوذها كدولة إقليمية كبرى وفاعلة، قد تبدو سعيدة لاهتزاز موقع تركيا، منافستها الإقليمية الأقوى، لكنها تدرك جيداً أن ما يدبر سيصيبها بارتداداته وأنها لن تنجو من سكين التقسيم، فالدولة التي تبدو موحدة ومستقرة تعيش على براكين موزاييك الطوائف والمذاهب والأعراق المختلفة التي ستشتعل من جراء حساسيات الوضع وسياسة القمع والتعتيم والخلافات مع دول المنطقة وشبح الفتنة السنية- الشيعية.
ورغم ندرة المعلومات المسرّبة من الداخل الإيراني، فإن من المؤكد وجود حساسيات في مناطق عدة تمتد من مناطق البلوش السُنة المعارضين للنظام، وغيرهم من المحرومين من بناء مسجد أو ممارسة شعائرهم الدينية وحقوقهم (تم أخيراً إعدام 20 معارضاً سنياً، بينهم دعاة، دفعة واحدة). والوضع ذاته ينطبق على الأكراد الطامحين إلى اللحاق بأبناء جلدتهم من السوريين والعراقيين، وأيضاً على الأذريين الذين يتحدون السلطة المركزية وصولاً إلى عرب «عربستان» أو ما يسمى بالأهواز الغنية بالنفط، وهم محرومون من أبسط حقوق الإنسان والمواطنة.
ولا حاجة إلى شرح أكثر عن إرهاصات التقسيم في سورية والعراق ولبنان والفتنة المدبرة بين السنة والشيعة وكل مكونات الأمة، وعن ليبيا وحروب القبائل إلى محاولات الهيمنة والتدخلات الأجنبية والمطامع التي كشر أصحابها عن أنيابهم دفعة واحدة، مع عدم إغفال الإرهاب بكل أشكاله وألوانه «الداعشية»، ومن ثم إلى مصر والمؤامرات المتواصلة على سيادتها وأمنها واستقرارها، وعن السودان المقسم والمرشح لمزيد من الانقسامات والحروب.
أما اليمن، فحربه الدامية ستكون لها انعكاسات خطيرة على دول الخليج وغيرها، وعلى مستقبله في مواجهة مؤامرة تقسيمه. كما أن نتيجتها ستحسم مصير المطامع الأجنبية والمحاولات الإيرانية المتكررة للهيمنة عليه بعد دعم الحوثيين، بهدف التحكم بمضيق باب المندب وطريق النفط عبر البحر الأحمر.
وتبقى فلسطين الجرح النازف منذ 67 سنة، والقضية التي كانت الأولى في الاهتمام العربي فأصبحت الأخيرة في زمن الفتن والحروب العبثية، فقد نجحت سكاكين الصهاينة من جهة وسكاكين الخلافات الفلسطينية- الفلسطينية من جهة ثانية في فرض أمر واقع تقسيمي مؤسف بين عرب الداخل والضفة الغربية وقطاع غزة.
هذه الأخطار الماثلة أمام أعيننا لن ينجو منها أي دولة أو منظمة، فنحن نشهد اليوم تحولات كبرى في العالم ينطبق عليها وصف «طابخ السم آكله» وأولها قرار بريطانيا الخروج من الاتحاد الأوروبي والتهديدات القائمة بانفصال اسكتلندا وإرلندا، إضافة إلى عزم دول أخرى على الانسحاب من الاتحاد، ما سيؤدي إلى إضعافه وتحجيم دوره لمصلحة الولايات المتحدة وروسيا، ظناً منهما أنهما ستنجوان من التقسيم، فيما يدلنا الواقع على أن هناك انتفاضات قريبة للجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطى التي فرضت روسيا هيمنتها عليها، إضافة إلى التداعيات الناجمة عن ضم القرم والتدخل في شؤون أوكرانيا والتدخل الروسي في سورية الذي ستكون له تداعيات مهمة.
أما الولايات المتحدة، فأوصلها الرئيس باراك أوباما إلى الحضيض وحجّم دورها ونفوذها مع توقع تضاعف هذا الاتجاه في حال فوز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية المنتظرة في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل، أو حتى في حال فوز هيلاري كلينتون إذا لم تسارع إلى اتخاذ قرارات جوهرية ومبادرات على مختلف الاتجاهات لتصحيح المسار.
ويمتد خط سكين التقسيم إلى حد ما إلى الداخل الأميركي، مع تفاقم حدة الاحتقان العنصري وتجدد الاضطرابات بين السود والبيض. ويُضاف إليها تصاعد التهديدات العنصرية ضد المسلمين والعرب في استغلال فاضح لعمليات إرهابية استنكروها قبل غيرهم.
إنها حقائق لا يمكن إنكارها، فمنظر العالم اليوم تحول من الحديث عن قرية صغيرة آمنة إلى واقع مناقض لمعانيها المأمولة من حيث الأخطار والتهديدات بعدما وُضعت رقاب جميع سكانها تحت سكين، أو مقصلة التقسيم والإرهاب.
عرفان نظام الدين
الحياة اللندنية