على الرغم من أن عودة موسكو إلى المنطقة بدأت، ومستمرة منذ أكثر من خمس سنوات، إلا أنها كانت تتبلور بهدوء، وبشكل تدريجي، عبر عدة ملفات، لعبت موسكو فيها دوراً محورياً، إن لم يكن دور الراعي الرئيس. فروسيا هي الشريك الأساس لطهران في مشروعها النووي، وطالما وقفت أمام محاولات الغرب وقف هذا البرنامج، ونجحت في تمرير الوقت، حتى حققت إيران نووياً ما مكَّنها سياسياً من فرض إرادتها على الغرب. وفي كل من ليبيا واليمن والحرب على داعش في العراق، لم يكن للولايات المتحدة والدول الغربية أن تباشر تحركاتها التي قامت بها من دون موافقةٍ كاملة من روسيا. ولا حاجة، بالطبع، إلى ذكر المسلسل السوري الذي تلعب فيها موسكو دور البطولة بامتياز.
انفردت واشنطن، تقريباً، بإدارة شؤون الشرق الأوسط فترة امتدت عقدين (1990 – 2010)، بينما انشغلت روسيا، في تلك الفترة، بشؤونها الداخلية، وترميم اقتصادها وإعادة بناء المؤسسات والكيانات الأساسية للدولة التي تقلصت من إمبراطورية اتحادية كبرى إلى جمهوريةٍ واحدةٍ، تواجه مشكلات حيوية، وتصارع من أجل استعادة مجد قيصري ضائع. وبفضل هذا الخلل في ميزان القوة، لصالح واشنطن عالمياً وإقليمياً، كانت نتيجةً منطقيةً أن ترتبط معظم دول المنطقة عضوياً بالولايات المتحدة الأميركية، ليس فقط على مستوى المصالح والعلاقات الثنائية، لكن أيضاً بالتماهي مع السياسات والتوجهات الأميركية تجاه قضايا المنطقة وأوضاعها.
لذا، لا يمكن تفسير العودة الروسية إلى الشرق الأوسط، فقط باستعادة موسكو بعض قدراتها السابقة، خصوصاً في مجال صادرات الأسلحة وتوثيق النفوذ والتحالفات مع بعض دول المنطقة. وإنما يجب الإقرار بأن موسكو لم تكن لتستطيع التحرّك قيد أنملة في أيٍّ من قضايا المنطقة، ما لم تكن واشنطن قد سمحت لها بذلك، أو لا تبالي أصلاً بما تتركه خلفها من قضايا وتفاعلات شرق أوسطية. وليس أدلّ على ذلك من التراجع الأميركي المتزايد عن الاهتمام بقضايا المنطقة، فضلاً عن تخليها الواضح عن الاضطلاع بدور الراعي الرسمي لمحاولات تسوية النزاعات الإقليمية. لذا، عندما تسمح إيران لروسيا بنصب قواعد صواريخ، والاستفادة من تسهيلاتٍ عسكريةٍ مهمة في منطقة همدان، فذلك ليس تحولاً في التعاون الروسي والإيراني، وليس مفاجئاً لواشنطن التي أعلنت، صراحةً، علمها المسبق بهذه الخطوة. تماماً كما كان التدخل العسكري الروسي في سورية مرتباً ومنسقاً بشكل كامل مع واشنطن.
الجديد الذي يستحق الانتباه إليه في الزحف الروسي نحو الشرق الأوسط هو ذلك التكالب من دول المنطقة على التقارب مع موسكو، أو بالأحرى التقرّب إليها. فالعلاقة مع إيران قديمة وواضحة الدوافع والأهداف، وكذلك بالنسبة للتحالف مع سورية. أما التقارب الروسي التركي فيعكس قراءةً تركيةً للخروج الأميركي من المنطقة ومقتضياته، خصوصاً بعد تبلور مفاعيل التفاهم الإيراني الغربي نووياً وسياسياً. غير أن تلك القراءة ليست تركية فقط، حيث تعكس تحرّكات بعض الدول العربية الإدراك نفسه. وإن كان في ذلك ما يثير الخشية من إعادة إنتاج نموذج الارتباط بواشنطن، إلا أنه، في الوقت نفسه، يشير إلى تطور غير مسبوق في العقلية العربية، حيث لم تعد منغلقةً على العامل الأميركي، خصوصاً أن فك الارتباط العربي بواشنطن، ونقل الرهانات إلى الحصان الروسي، سيكون باهظ التكلفة اقتصادياً وعسكرياً على دول منخرطة مع واشنطن في اتفاقاتٍ سياسيةٍ وأمنيةٍ ومنظومات تسليح وتعاون عسكري ممتدة عقوداً. لكن، يبدو أن السعي العربي نحو إحداث التوازن المفقود في العلاقة مع القوى الكبرى، لم يعد منه بُد. بعد أن فرضه الأميركان بتجاهلهم المنطقة، وتوريث شؤونها لموسكو، ولو إلى حين.
انفردت واشنطن، تقريباً، بإدارة شؤون الشرق الأوسط فترة امتدت عقدين (1990 – 2010)، بينما انشغلت روسيا، في تلك الفترة، بشؤونها الداخلية، وترميم اقتصادها وإعادة بناء المؤسسات والكيانات الأساسية للدولة التي تقلصت من إمبراطورية اتحادية كبرى إلى جمهوريةٍ واحدةٍ، تواجه مشكلات حيوية، وتصارع من أجل استعادة مجد قيصري ضائع. وبفضل هذا الخلل في ميزان القوة، لصالح واشنطن عالمياً وإقليمياً، كانت نتيجةً منطقيةً أن ترتبط معظم دول المنطقة عضوياً بالولايات المتحدة الأميركية، ليس فقط على مستوى المصالح والعلاقات الثنائية، لكن أيضاً بالتماهي مع السياسات والتوجهات الأميركية تجاه قضايا المنطقة وأوضاعها.
لذا، لا يمكن تفسير العودة الروسية إلى الشرق الأوسط، فقط باستعادة موسكو بعض قدراتها السابقة، خصوصاً في مجال صادرات الأسلحة وتوثيق النفوذ والتحالفات مع بعض دول المنطقة. وإنما يجب الإقرار بأن موسكو لم تكن لتستطيع التحرّك قيد أنملة في أيٍّ من قضايا المنطقة، ما لم تكن واشنطن قد سمحت لها بذلك، أو لا تبالي أصلاً بما تتركه خلفها من قضايا وتفاعلات شرق أوسطية. وليس أدلّ على ذلك من التراجع الأميركي المتزايد عن الاهتمام بقضايا المنطقة، فضلاً عن تخليها الواضح عن الاضطلاع بدور الراعي الرسمي لمحاولات تسوية النزاعات الإقليمية. لذا، عندما تسمح إيران لروسيا بنصب قواعد صواريخ، والاستفادة من تسهيلاتٍ عسكريةٍ مهمة في منطقة همدان، فذلك ليس تحولاً في التعاون الروسي والإيراني، وليس مفاجئاً لواشنطن التي أعلنت، صراحةً، علمها المسبق بهذه الخطوة. تماماً كما كان التدخل العسكري الروسي في سورية مرتباً ومنسقاً بشكل كامل مع واشنطن.
الجديد الذي يستحق الانتباه إليه في الزحف الروسي نحو الشرق الأوسط هو ذلك التكالب من دول المنطقة على التقارب مع موسكو، أو بالأحرى التقرّب إليها. فالعلاقة مع إيران قديمة وواضحة الدوافع والأهداف، وكذلك بالنسبة للتحالف مع سورية. أما التقارب الروسي التركي فيعكس قراءةً تركيةً للخروج الأميركي من المنطقة ومقتضياته، خصوصاً بعد تبلور مفاعيل التفاهم الإيراني الغربي نووياً وسياسياً. غير أن تلك القراءة ليست تركية فقط، حيث تعكس تحرّكات بعض الدول العربية الإدراك نفسه. وإن كان في ذلك ما يثير الخشية من إعادة إنتاج نموذج الارتباط بواشنطن، إلا أنه، في الوقت نفسه، يشير إلى تطور غير مسبوق في العقلية العربية، حيث لم تعد منغلقةً على العامل الأميركي، خصوصاً أن فك الارتباط العربي بواشنطن، ونقل الرهانات إلى الحصان الروسي، سيكون باهظ التكلفة اقتصادياً وعسكرياً على دول منخرطة مع واشنطن في اتفاقاتٍ سياسيةٍ وأمنيةٍ ومنظومات تسليح وتعاون عسكري ممتدة عقوداً. لكن، يبدو أن السعي العربي نحو إحداث التوازن المفقود في العلاقة مع القوى الكبرى، لم يعد منه بُد. بعد أن فرضه الأميركان بتجاهلهم المنطقة، وتوريث شؤونها لموسكو، ولو إلى حين.
سامح راشد
صحيفة العربي الجديد