تأثرت العلاقات الإيرانية التركية إيجابيا بالمحاولة الانقلابية الفاشلة التي هزت تركيا. ولم تتردد طهران في دعم حكومة حزب العدالة والتنمية؛ فقد أجرى وزير الخارجية الإيراني ثلاثة اتصالات بنظيره التركي ليلة حدوث الانقلاب الفاشل، مؤكدا دعم طهران لشرعية الحكومة التركية أمام المحاولة الانقلابية.
وعند وضع طريقة تعاطي طهران مع الانقلاب الفاشل في تركيا إلى جانب تصاعد حدة الخلاف بين البلدين على المستوى الإقليمي، سنواجه بإلحاح الأسئلة حول كيفية جمع “الموقفين” في سياسة واحدة.
فما الذي يجعل طهران تدعم حكومة تركية وقفت طيلة سنوات الربيع العربي أمامها إقليميا على الأقل، وهل لذلك علاقة بالتطورات الإقليمية والدولية المتعلقة بالملف السوري، أم أنها أبعد من الواقع والتطورات الإقليمية. وكيف ستكون العلاقات الثنائية بعد الانقلاب والموقف الإيراني منه وتطورات العلاقات الروسية التركية. سنحاول في هذه الورقة الإجابة على هذه الأسئلة.
بين السياسة والاقتصاد
مع الربيع العربي بدأ خريف العلاقة الإيرانية التركية. وقفت الدولتان على طرفي نقيض في الملفات الإقليمية وفرقتهما الحرب السورية. وفي خضم التطورات المتلاحقة على المستوى الإقليمي، دخلت الدولتان معادلات جديدة تبلورت على شكل تحالفات أو تفاهمات إقليمية. فقد ظهرت تركيا إلى جانب قطر والسعودية في محور يدفع لإسقاط النظام السوري، بينما برز الحلف الإيراني السوري الروسي بغية إيقاف تطور كهذا.
بيد أن التدافع الإقليمي والدولي حول سوريا لم يؤثر على قاعدتين ذهبيتين في العلاقة الإيرانية التركية: إبعاد السياسي عن الاقتصادي بغية الذود عن العلاقة الاقتصادية أمام تدهور العلاقة السياسية، وعدم الخلط بين الثنائي والإقليمي بهدف النأي بالعلاقة الثنائية عن المواجهات الإقليمية. هكذا حافظت تركيا وإيران على علاقة ثنائية عالية المستوى خاصة على المستوى الاقتصادي والتبادل التجاري رغم المناكفات والمجابهات السياسية على المستوى الإقليمي.
وأدى استمرار الخلافات والمجابهات الإقليمية إلى دخولها مستوى غير مسبوق من الصراع غير المباشر. إلا أن الوضع تغيّر مع دخول روسيا القوي المعادلة السورية وخاصة بعد إسقاط تركيا لمقاتلة روسية نوفمبر/تشرين الثاني الماضي. تراجع دور تركيا في الملف السوري بعد إسقاط المقاتلة مباشرة.
فعلى المستوى العملياتي، أضعف تكثيف الطيران الروسي طلعاته بغية الرد على أي تحرك تركي إلى جانب دخول منظومة الدفاع الصاروخي إس 400، قدرة تركيا على أي تحرك. بل وظهر الأكراد -الهاجس الأمني والعسكري الأكبر لدى تركيا- كأكبر فائز في الحرب السورية.
وعلى المستوى السياسي، أدى استئثار الرياض بقادة المعارضة السورية واستضافتهم بالرياض إلى ظهور تركيا كلاعب بديل لم تحن ساعة دخوله الميدان. ومع التطورات المستجدة بعد دخول روسيا الحرب السورية، فقهت أنقرة واقع أن دخولها الميدان كلاعب أساسي بات مهمة مستحيلة. وقد أدى ذلك إلى تغيير السياسة التركية. أبرزت تصريحات كل من أردوغان و رئيس وزارئه بن على يلدريم في الأشهر التالية لفرض روسيا عقوبات اقتصادية على أنقرة توجها جديدا ليس في الملف السوري فقط بل على المستوى الإقليمي أيضا.
دوافع إيرانية
وُلد الخطاب الإيراني النابذ للانقلاب من رحم تغيير السياسة التركية؛ فقد أدركت طهران أن التغيير التركي واقع خاصة بعد زيارة أحمد داوود أغلو طهران في مارس/آذار الماضي. لذلك بدأت تستعد لمرحلة ما بعد التغيير وتستبين الطريقة الأمثل للتعاطي مع تركيا فيها. لذلك زار ظريف أنقرة نهاية مارس/آذار وبرز التناغم الإيراني التركي بعد ذلك بشكل لا لبس فيه. ولكن رغم هذا التطور، هل يبرّر التطور المذكور نبذ إيران للانقلاب ودعمها لأردوغان. يعطينا التغيير سالف الذكر إطارا يمكن طرح أربعة أسباب من خلاله حول سياسة إيران تجاه الانقلاب:
أولا رحّبت إيران بتغيير السياسة الإقليمية لتركيا والتي انتهت بعد الانقلاب الفاشل إلى زيارة أردوغان لروسيا كتطور يمكن البناء عليه لتفاهم وتعاون إقليمي أكبر يساعد على إنهاء الحرب السورية والقضاء على داعش (تنظيم الدولة الإسلامية). لذلك لم تشأ طهران المراهنة على انقلاب قد يغيّر السياسة التركية إلى اتجاهات غير معروفة. فـ”عصفور في اليد ولا عشرة على الشجرة”، أعطى تغيير سياسة أردوغان عصفورا لإيران وما كان الإستراتيجي الإيراني ليتركه مراهنا على عصافير شجرة الانقلاب.
ثانيا حاولت إيران أكثر من مرة تسريع التطورات البادية في السياسة التركية عبر تكثيف الزيارات الرسمية والتركيز على التهديدات المشتركة الناتجة عن الأزمة السورية. لذلك جاء الانقلاب كفرصة لتساعد إيران في تسريع التغيير التركي عبر دعمها لحكومة الرئيس أردوغان. والواضح أن الانقلاب أدى لتسريع التغيير وبلورته في السياسات سواء افترضنا دورا لإيران فيه أم لم نفترض ذلك.
ثالثا أدى تصاعد التهديدات الإقليمية الناجمة عن الأزمة السورية وتمدد داعش إلى استشعار أخطار جسيمة في طهران من مآلات تلك التطورات. ورغم أن مستوى الشعور بالتهديد من الأكراد يختلف من أنقرة إلى طهران، فإن الهواجس المشتركة باتت تحرك الدولتين لتنسيق أكبر. وتشير شعبية الرئيس التركي ودعم جزء كبير من الشعب التركي له إلى أنه لو كتب للمحاولة الانقلابية النجاح، كانت ستُدخل تركيا حالة من الضعف والمواجهات الداخلية. ومن الواضح أن ذلك أيضا يصب في نفس اتجاه ازدياد الشعور بالتهديد من مخاطر تقسيم دول الإقليم. لذلك رجّحت إيران بقاء حكومة متماسكة على حكومة كانت أحد سيناريوهاتها المستقبلية تتمثل في عدم الاستقرار والمجابهات الداخلية.
ورابعا، لإيران خمسة عشر جارا بين بحري وبري؛ وتتسم أهم الدول المجاورة لإيران برا بعدم الاستقرار وتسيّب الحالة الأمنية وزيادة في حضور وتأثير التنظيمات المتطرفة. فعلى الشرق من إيران تقع كل من أفغانستان وباكستان وعلى غربها العراق. تعيش إيران بسبب هذا الواقع هواجس أمنية يقل نظيرها في الإقليم. لذلك تعطي إيران اليوم مكافحة الإرهاب والتطرف أولوية باعتباره المحور في عدم استقرار محيط إيران الإقليمي. وغني عن القول إن الحدود الإيرانية التركية تعتبر من أكثر حدود إيران أمنا رغم وجود أقليات كردية على الجانبين. لذلك يمكن اعتبار الحفاظ على الحدود الآمنة مع تركيا أحد دوافع طهران الرئيسية في نبذها للمحاولة الانقلابية في تركيا.
لتلك الأسباب دعمت طهران الرئيس أردوغان والحكومة المدنية أمام الانقلاب. وبالنظر لمستقبل العلاقات الإيرانية التركية في ظل تطورات الشهرين الأخيرين، يمكن اعتبار تحسن العلاقة الروسية التركية وتغيير رؤية أنقرة للأزمة السورية، إلى جانب سياسة إيران وروسيا تجاه الانقلاب الفاشل، أهم دعامات أدت وتؤدي لتبلور واقع إقليمي جديد تلعب فيه كل من إيران وحلفائها وروسيا وتركيا دورا محوريا، بينما تبقى الدول الداعية لإسقاط النظام السوري خارج إطار الصورة إلى حين.
المستقبل السوري
على مستوى الأزمة السورية؛ هناك نقطتان رئيستان في رسم صورة ذلك المستقبل:
رقي التعاون العسكري الروسي الإيراني في سوريا إلى مستوى لا يمكن للاعب محلي أو حتى الإقليمي التصدي له. وقد تبلور ذلك في دخول قاذفات إستراتيجية خط المواجهة. من المهم الأخذ بعين الاعتبار أن هذا التطور غير مسبوق في تاريخ العلاقة العسكرية والإستراتيجية بين إيران وروسيا، ويشير فيما يشير إليه أن الدولتين تصران على إحداث تغيير يؤدي إلى إنهاء الأزمة، وأن تركيا قرأت هذا الواقع بدقة واستجابت له في الآونة الأخيرة.
أما النقطة الثانية فهي تغيير رؤية تركيا بشكل جذري في مبادرتها الأخيرة (أغسطس/آب 2016) التي ركزت على وحدة أراضي سوريا أولا، ومواجهة إرهاب داعش ثانيا، وحكومة غير طائفية في سوريا ثالثا. والملاحظ أن المبادرة الأخيرة لم تأتي على ذكر ضرورة تنحي الرئيس الأسد كما جرت العادة. إذن يمكن القول بأن التغيير التركي واقع، والأولوية التركية اليوم هي محاربة الإرهاب وكسر شوكة الأكراد في شمال سوريا. وهي أمور تتفق فيها مع إيران.
لذلك شهدت العلاقات التركية الإيرانية بحضور روسي مؤثر، طفرة على المستوى الإقليمي. ومن المتوقع أن يزداد التعاون الإقليمي للدولتين في الأشهر المقبلة. فقد اتضح من تصريحات خرجت من أنقرة أن الحكومة التركية ستدخل الحرب من باب مكافحة داعش هذه المرة.
وإن كان عزل الإقليمي عن الثنائي قد أدى لاستمرار التعاون الاقتصادي بين إيران وتركيا، فمن المتوقع أن يؤدي تعاون الدولتين الإقليمي إلى رقي العلاقة الاقتصادية والسياسية الثنائية أيضا. فقد وقفت إرادة الدولتين أمام تراجع العلاقة الثنائية عندما تواجهت سياسات الدولتين الإقليمية، ومن المتوقع أن تؤدي نفس الإرادة إلى الرقي بالعلاقة الثنائية اليوم وبعد هذا الكم من التطورات في الاتجاه المعاكس لسياسة تركيا السابقة.
حسن أحمديان
الجزيرة نت