ربما لا يختلف اثنان من مراقبي الشأن الإيراني على أن الرئيس حسن روحاني كان يراهن بقوة على الاتفاق النووي الموقع مع مجموعة “خمسة زائد واحد” لتحقيق هدف التقارب مع الولايات المتحدة والانفتاح على الغرب، ولكن يبدو أن هذا الحلم بات يواجه مصيرا غامضا في ظل التقارب الإيراني- الروسي اللافت خلال الآونة الأخيرة.
لم يكن أحد يتوقع أن تسمح إيران لروسيا باستخدام قاعدة جوية حيوية في تنفيذ ضرباتها العسكرية في سوريا، كما لم يكن أحد يتوقع أن ينجح الرئيس فلاديمير بوتين في كسب ثقة الملالي المتشددين وقادة الحرس الثوري الإيراني إلى هذا الحد. صحيح أن للملالي علاقات خاصة مع روسيا منذ قيام ثورتهم عام 1979، ولكنهم حرصوا دائما على إبقاء العلاقات مع موسكو عند حدّ معين لا تتجاوزه.
المؤكد أن علاقات إيران مع روسيا تحديدا هي علاقات كاشفة لطبيعة النظام الإيراني، وانتهازيته الشديدة التي تفضح شعاراته الأيديولوجية المخصصة للبيع والشراء في سوق السياسة لا أكثر ولا أقل.
قرار إيران بوضع قاعدة “همدان” تحت تصرف روسيا، يوحي بأن الأمور في طهران تميل لمصلحة كفة المتشددين، وقد حسمها علي شمخاني، أمين عام المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، حين قال إن بلاده تضع “كل بنيتها التحتية العسكرية” تحت تصرف روسيا في الحرب ضد “الإرهاب”، ما يعني أن المسألة ليست سلوكا تكتيكيا مؤقتا، ولكننا بصدد قرار استراتيجي يبدو أن له خلفيات أعمق بكثير من مسألة انطلاق القاذفات الاستراتيجية الروسية من “همدان”.
لم تكن روسيا بحاجة ملحة إلى قاعدة عسكرية في إيران لتنسيق عملياتها في سوريا، فروسيا موجودة على الأرض في قواعد عسكرية ومناطق عدة في عمق سوريا ذاتها، وقد سحبت معظم قواتها التي تمركزت هناك لفترة بإرادتها الذاتية، ومن دون أي ضغوط إقليمية أو دولية تذكر، وبالتالي تبدو مسألة استخدام قاعدة إيرانية في قصف أهداف في سوريا مجرّد إشارة أو بالأحرى “تأكيد حالة” وإشهار زواج استراتيجي بين موسكو وطهران، ولا سيما أن القاذفات الروسية قادرة على القيام بمهامها القتالية بكفاءة عملياتية متقاربة سواء انطلقت من إيران أو من الأراضي الروسية ذاتها.
التفاهم الإيراني- الروسي ينطوي حتما على دلالات وأبعاد تفوق مسألة التسهيلات العسكرية للمقاتلات الروسية، فروسيا باتت حاضرة بقوة في منطقة الخليج العربي بموجب هذه التفاهمات، بل إن هناك جدلا حول احتمالية استخدام روسيا لقاعدة “أنجرليك” التركية التي يستخدمها حلف شمال الأطلسي حتى الآن.
اللغز في هذه التفاعلات الاستراتيجية يكمن في وجود حالة من التنافس أو السباق التركي- الإيراني على تعزيز شبكة التحالفات الإقليمية والدولية، بما في ذلك تعزيز علاقات الدولتين ببعضهما البعض؛ ولا شك أن سوريا ستكون الساحة الرئيسية لاستعراض نتائج هذا التنافس أو السباق الاستراتيجي، الذي يثير تساؤلات عدة مشروعة.
داخليا، يبدو أن معسكر الرئيس حسن روحاني قد تلقى ضربة قوية عقب خيبة الأمـل التي منيت بها السيـاسة الإيـرانية على خلفية مماطلة الولايات المتحدة الأميركية في تنفيذ بنود الاتفاق النووي، ناهيك عن المصير الغامض للاتفاق ذاته عقب انتخاب رئيس أميركي جديد في نوفمبر المقبل.
روحاني ليس على خلاف مع روسيا، ولا رافضا لها، ولكنه كان يريد لها دورا وظيفيا محسوبا في مناكفة الغرب، وما حدث على ما يبدو أن الحرس الثوري حسم الأمر وانتصر لتحالف كامل مع روسيا، ولو على حساب المجازفة بالعلاقات المأمولة مع الغرب.
إسلاميو إيران الذين يهتفون دوما برفض الجهوية السياسية، وسبق أن أعلنوها في العام 1979 “لا شرقية ولا غربية” بل جمهورية إسلامية، لم يكونوا يوما مقتنعين بجدية هذه الشعارات، فقد تقلبوا في صفقاتهم السرية بين الغرب والشرق، بل لم تستبعد صفقاتهم أو تتجاهل إسرائيل، التي يكيلون لها التهديد والوعيد ليل نهار.
الحرس الثوري بات يشعر أنه على مقربة من تحقيق حلمه الكبير بتقنين نفوذ إيران في سوريا، وانتزاع اعتراف دولي بهذا النفوذ ضمن لعبة تقاسم مصالح ونفوذ تمضي على قدم وساق، وإن لم تتضح معالمها بعد بانتظار الجولات الميدانية الأخيرة لترجح الموقف التفاوضي لهذا الطرف أو ذاك.
يعتقد البعض أن إيران تتحالف مع روسيا من أجل الضغط على الغرب لتنفيذ بنود الاتفاق النووي، وفي ذلك قدر من الوجاهة والمنطقية السياسية، ولكنني أعتقد أن الفترة المقبلة ستكشف عن جوانب أخطر وأهم من ذلك، ولا سيما في ما يتعلق بتبعات هذا التحالف على المعادلات الإقليمية والترتيبات الأمنية في منطقة الخليج العربي والشرق الأوسط.