هل تبدأ الحرب النووية المحتملة من الشرق الأوسط؟ هذا ليس ضربًا في الغيب، بل محاولة لقراءة ما يحيط بنا اليوم من تعقيدات دولية غير مسبوقة، وتطور احتمالاتها، فالعالم يسير نائمَا نحو صراعه الأخير، وساحة المعركة قد هُيئ لها منذ فترة، إنها فقط بانتظار الصاعق، وقد يكون في منطقتنا! ساحة المعركة بدأ التحضير لها في الفترة الأخيرة بتسارع، وبقرار من الإدارة الأميركية الحالية بالتخلي عن مسؤولياتها الدولية، كدولة عظمى تتشارك مع الدول، على الأقل الأربع الأخرى نظريا، مسؤولية الحفاظ على الأمن الدولي. هذا التراجع عن الاشتباك الإيجابي الذي يبرر بعدد من المبررات، أدى إلى ظهور الفراغ في بعض المناطق، من بينها الشرق الأوسط وشرق أوروبا، الأمر الذي أغرى الاتحاد الروسي، لأسباب كثيرة أخرى من جانبه، بأن يتقدم لملء ذلك الفراغ، خصوصًا أن الإدارة الروسية قرأت التخلي الأميركي على أنه ضعف وتوخٍ للحذر من نتائج الاشتباك الإيجابي، خصوصًا بعد تطورات سلبية في ساحات أفغانستان والعراق. راهنت إدارة فلاديمير بوتين من البداية على أن أفضل طريقة للدفاع، وتعويض خسارة «ممتلكات الاتحاد السوفياتي»، هي الهجوم، وهكذا تدخلت روسيا الاتحادية في جورجيا، فيما عرف بحرب الغوغاز 2008، عندما اعتقد الرئيس الجورجي ساكشفيلي أن الولايات المتحدة سوف تقدم له العون في استعادة ما يعتقد أنه جزء من جورجيا، وهو إقليم أوسيتيا الجنوبية، ثم استولت على شبه جزيرة القرم عام 2014، ثم شرق أوكرانيا في نفس العام، ثم مدت قوة نيرانها السياسية والدبلوماسية والعسكرية إلى الشرق الأوسط، وسوريا بالذات، بالتحالف مع طهران بعد ذلك بعام. على المقلب الآخر، فإن التراجع الأميركي أضعف قدرة حلفاء الولايات المتحدة على المواجهة في أكثر من مكان، من جورجيا إلى أوكرانيا إلى الشرق الأوسط إلى بحر الصين.
أقصى ما فعلته الولايات المتحدة وحلفاؤها ضد الهجمة الروسية هو مزيد من العقوبات، ويعرف المسؤول الأميركي أيًا كان مستواه، كما يعرف غيره، أن حزمة العقوبات يكفي أن تخترقها دولة واحدة لتشكل «ثقبًا أسود يتسرب منه كل ما أريد له أن يمنع»!
أيقظ هذا التقدم الروسي كثيرًا من القلق في الداخل الأميركي، وما صعود دونالد ترامب غير المنطقي لكثيرين إلى سدة السباق في إطار الجمهوريين باتجاه البيت الأبيض، إلا مؤشر لذلك الشعور الغامض لدى الجمهور الأميركي بأن التراجع يعني الهزيمة. ليس بين رجال ترامب حتى الآن من ينظر بشكل عقلاني للأحداث، ولكن مجرد صعوده يعني للمتابع أن ثمة قلقًا شعبيًا واسعًا حول الأمن الوطني الأميركي، الذي لا تتوقف حدوده عند الشواطئ. تمثل ذلك القلق في مزايدة كلامية من قبل ترامب أطلقها بقوله إن من «خلق (داعش) ليس إلا السيد أوباما والسيدة هيلاري كلينتون»! لا يدافع فلاديمير بوتين عن الحدود السوفياتية القديمة من خلال الآيديولوجيا، بل من خلال الفخر القومي، وهو يرى أن التوسع من منظور استراتيجي لمصالح روسيا (الأم) يكسبه شعبية، ويطيل عمره السياسي، وبالتدريج يعيد النفوذ الروسي إلى المناطق المتخلى عنها، من القرن الأفريقي إلى أوروبا الشرقية.
المعادلة تتمثل في فهم السيد بوتين «للعقلانية الأوبامية»، التي ترى تارة «توريط روسيا في صراعات محلية»، وتارة ترى ضرورة التخلي عن الخسائر المحتملة بالعزوف عن الدخول في أي صراع نشط، والتوجه إلى الأدوات الناعمة، مثل المقاطعة أو قرارات مجلس الأمن. ومعادلة «تعقل» أوباما هذه تقف في مواجهة «فتوة» الكرملين، وهي فتوة تحمل القليل من الاحترام للمبادئ الديمقراطية أو حقوق الإنسان. والأمر كذلك، بدأ كثيرون في الغرب يحذرون من طموحات بوتين غير المنضبطة، ويذكرون المعادلة على أنها تكرار لموقف رئيس وزراء بريطانيا نيفل شامبرلين أمام أدولف هتلر، عندما قدم الأول كل التنازلات على أمل تعقيل هتلر! إلا أن ذلك التعقل كان يأخذ العالم، وهو نائم، إلى حرب ضروس كان ضحيتها في العالم بين خمسين إلى خمسة وثمانين مليون إنسان! الإدارة الأميركية المقبلة أمامها طريقان لا غير في مواجهة التمدد الروسي، إما السير في سياسة «العقلنة»، والمخاطرة بخسارة مصالح أكثر وأكبر، تقوض في النهاية نفوذها في العالم، وإما مواجهة هذا التمدد بكل الطرق المتاحة، ومنها احتمال أخذ العالم إلى صراع نووي، والمواجهة – أيًا كان الرئيس القادم – هي الأكثر احتمالا.
يبدو أن الأمر للبعض مبالغ فيه، لكن دعونا نقرأ بتأنٍ كتاب السيد وليام بيري، الذي صدر الشهر الماضي بعنوان «رحلة على الحافة النووية»، والرجل هو الأكثر معرفة بالأمور الخلفية للصراع النووي واحتمالاته في العالم، فقد كان وزيرًا للدفاع في إدارة بيل كلينتون، ونائبا لوزير الدفاع في إدارة جيمي كارتر قبل ذلك، إلا أن أهمية الرجل كونه «من رجال الحجرة الخلفية» في العمل السري القديم والطويل للتحضير ومتابعة السباق النووي، وقد قضى هناك جل عمره العملي، فهو الأكثر معرفة بالملف. يقول في الكتاب: «اليوم، فرص حدوث شكل من أشكال الكوارث النووية هي أعظم وأقرب مما كانت حتى أيام الحرب الباردة»! هذا الكتاب المثير والمليء بالحقائق حتى قراءته تثير المخاوف، فقد ذكر بالتفصيل أحداث ما عرف تاريخيا «بأزمة صواريخ كوبا – أكتوبر (تشرين الأول) 1962»، وكيف وصل العالم إلى حافة الصراع النووي، وأنقذ بالصدفة البحتة، وتنازل الطرفان بعد ذلك بسحب متبادل للصواريخ من كوبا (السوفياتية)، ومن تركيا (الأميركية)، لقد كان في كلا المعسكرين (الأميركي والروسي وقتها) رجال شغوفون بالحرب، كما يرى وليام بيري. اليوم، ليس أكثر من السيد بوتين وجماعته شغوفين بالحرب، إلى درجة إبادة شعب شبه أعزل!
التحذير الصارم الذي أوضحه وليام بيري في كتابه يجب ألا يتجاهل، فهو يرى أن كارثة نووية يمكن أن تحدث من خلال إطالة الصراع المناطقي وتفاقمه، كما يحدث في سوريا اليوم. وبالتالي، فالاحتمالات متعددة، منها حصول مجموعة متشددة على نوع من أنواع القنبلة القذرة التي يمكن أن تقتل ملايين، أو وقوع صراع بين دولتين في العالم الثالث لكل منها قدرة نووية، أما وهو الأهم أن ترى مجموعة من السياسيين في معسكر ما أن الضغط على مصالح دولته لم يعد يطاق!
لا يجب أيضًا تجاهل التفكير باحتمال الصدفة في وقوع صدام غير مبرمج على ساحة قتال بين قوتين عُظميين (كما في الساحة السورية اليوم) كي تنطلق الشرارة. المهم في ذلك الكتاب أنه ينتهي بالإشارة إلى السباق الجديد في الحقل النووي بين الولايات المتحدة والاتحاد الروسي غير المسبوق، فالعالم ليس أكثر أمنًا، ولن يكون، مع احتدام الصراعات، وتراجع القيادات التاريخية، وشهوة الغلبة، وقد تكون الأسباب التي تشعل العالم بكارثة نووية شرارة عنوانها التعنت القومي، والفخر الشخصي، أو التقييم الخطأ لموقف الآخر.. وبؤرة الصراع اليوم هي الشرق الأوسط!
آخر الكلام:
الرجال الذين يعتقدون أنهم أذكياء قد يقومون بأفعال غبية!!
*نقلاً عن “الشرق الأوسط”