بعد أكثر من سنتين على احتلال “داعش” مدينة جرابلس السورية الحدودية مع تركيا، اجتاحت الدبابات التركية المدينة يوم 24 أغسطس، وهذا تاريخ ليس من دون معنى بالنسبة لتركيا، ففي مثل هذا اليوم قبل 500 عام أي في 24 أغسطس عام 1516 جرت معركة “مرج دابق” التي قتل فيها السلطان العثماني سليم الأول سلطان المماليك قنصوه الغوري، ومن ثم احتلت الجيوش العثمانية بلاد الشام قبل أن تتجه إلى القاهرة بعد معركة “الريدانية” الشهيرة في عام 1517، وتبدأ حينها السيطرة العثمانية على مصر.
بعيداً عن إسقاطات هذا البعد التاريخي الرمزي، فإن التدخل العسكري التركي في جرابلس يثير أسئلة كثيرة عن الأهداف التركية العلنية والخفية من معركة جرابلس، وعن المواقف الإقليمية والدولية، وكذلك عن التداعيات المستقبلية، والأهم ماذا بعد معركة جرابلس التي كانت سريعة إلى درجة أن كثيرين وصفوها بالمسرحية الجاهزة؟
أهداف تركيا
1- الهدف الأساسي والمُعلن هو محاربة تنظيم “داعش” وطرده من مدينة جرابلس، ومثل هذا الأمر بات حاجة تركية داخلية بعد أن تزايدت العمليات الإرهابية لـ”داعش” داخل الأراضي التركية والقيام بالعديد من التفجيرات في قلب المدن الكبرى، فضلاً عن تعرض المناطق الحدودية التركية إلى سقوط قذائف وصواريخ. وعلى المستويين الدولي والإقليمي، ثمة رسالة سياسية مفادها أن أنقرة جادة في محاربة “داعش”، خاصةً في ظل الاتهامات الكثيرة لها بدعم هذا التنظيم طوال الفترة الماضية.
2- إن توقيت اجتياح جرابلس جاء بعد أيام من تحرير قوات سوريا الديمقراطية، التي يشكل الكُرد عمادها الأساسي، مدينة منبج، فجاء التدخل العسكري التركي بمنزلة رسالة قاطعة مفادها أن أنقرة لن تسمح للكُرد بالتمدد في غرب نهر الفرات، لاسيما مدن الباب وجرابلس وإعزاز، لأن السيطرة على هذه المدن تعني وصول الكُرد إلى عفرين والشيخ مقصود في حلب تلقائياً، وهو ما يعني اكتمال مقومات الإقليم الكُردي في سوريا، كما أن الحدود الجنوبية لتركيا ستصبح بالكامل مع هذا الإقليم وليس مع الدولة السورية بحدودها المعروفة.
3- إن الهدف الأساسي للتدخل العسكري التركي يتجاوز محاربة “داعش” إلى ضرب مشروع الفيدرالية الذي طرحه الأكراد في سوريا، نظراً لقناعة تركيا بأن هذا المشروع سيؤثر على أمنها القومي والوطني، وأن معركة جرابلس وما بعدها هي لوضع نهاية لهذا المشروع، من خلال إعادة قوات سوريا الديمقراطية إلى شرق نهر الفرات، وهو ما يعني منع الربط بين المناطق الكُردية في شرق سوريا وغربها في المنطقة الشمالية من سوريا.
4- في صُلب الأهداف التركية إقامة منطقة عازلة في المنطقة الممتدة بين جرابلس والراعي بطول نحو 70 كيلومتراً وعمق يتراوح بين 7 ونحو 20 كيلومتراً، بهدف إسكان اللاجئين والنازحين فيها، ومثل هذا الأمر له أهمية بالغة في المرحلة المقبلة، لاسيما في ضوء الاستعدادات الجارية لمعركة تحرير الرقة من “داعش” واحتمال حصول موجات نزوح كبيرة من المدينة.
5- تطمح تركيا من وراء إيجاد موطئ قدم عسكري لها في جرابلس، إلى إحياء خططها القديمة في إقامة منطقة أمنية عازلة تكون منطلقاً للفصائل السورية المسلحة، والعمل على إعادة بناء الجيش السوري الحر، والاعتماد على الأخير لاحقاً في محاربة قوات سوريا الديمقراطية ووحدات حماية الشعب الكردية، وإجبار الأخيرة على التراجع عن المناطق التي سيطرت عليها مؤخراً.
6- تسعى تركيا إلى أن يشكل ما سبق توسيعاً للتعاون مع الدول العربية، لاسيما المملكة العربية السعودية، لفرض توازنات جديدة في الشمال السوري خاصةً مع اشتداد المعارك في حلب وصعوبة انتصار أي طرف على آخر بسبب التدخل الكبير للاعبين الإقليميين، وخاصةً إيران.
هل هناك موافقة إقليمية دولية؟
باستثناء الموقف السوري الذي جاء على لسان مصدر في وزارة الخارجية السورية والذي اعتبر التدخل العسكري التركي في جرابلس انتهاكاً للسيادة السورية، فإن معظم المواقف الدولية والإقليمية تبدو متفهمة إن لم تكن موافقة على هذا التدخل في إطار لعبة التوازنات. ولعل اللافت في هذا المجال جُملة المعطيات التالية:
1- جاء التدخل العسكري التركي في جرابلس بالتزامن مع زيارة جو بايدن نائب الرئيس الأمريكي إلى تركيا، وفي ظل توتر العلاقات بين البلدين عقب محاولة الانقلاب العسكري الفاشل في تركيا، وجاءت تصريحات بايدن عقب لقاءاته مع المسؤولين الأتراك مؤيدة للعملية العسكرية التركية، خاصةً عندما طالب بايدن قوات سوريا الديمقراطية بضرورة الخروج من منبج والعودة إلى شرق الفرات، وهو ما أثار الكثير من الاستفهامات عن مدى الدعم الأمريكي للكُرد، وإذ ما كان الأكراد سيكونون ضحية لترميم العلاقات الأمريكية – التركية، بل ثمة من يتحدث عن موافقة أمريكية مُسبقة لأنقرة على هذا التدخل كجائزة ترضية لها بعد أن وقفت طوال المرحلة الماضية ضد مسعى تركيا إلى إقامة منطقة أمنية عازلة في شمال سوريا.
2 – إن تركيا، وفي ظل تحسن علاقاتها مع روسيا، لابد أن تكون قد وضعت القيادة الروسية في صورة معركة جرابلس، ويبدو أن التفاهمات التركية – الروسية، بخصوص الأزمة السورية بدأت تترجم إلى أعمال ملموسة، خاصةً أن المسألة بالنسبة لروسيا ربما تندرج في إطار الصراع مع الجانب الأمريكي على الأوراق في الساحة السورية، خاصةً بعد الدعم الكبير الذي أبداه الجانب الأمريكي للكُرد خلال معارك الحسكة.
3- الصمت الإيراني الذي يثير أكثر من علامة استفهام، وهو صمت يشي في جميع الأحوال بتفاهمات سرية تجري في المطابخ السرية بين البلدين من خلال الزيارات المتبادلة لكبار المسؤولين، حيث يستعد أردوغان لزيارة طهران، وهي زيارة عنوانها الأساسي التوصل إلى تفاهم بشأن الأزمة السورية وكيفية تحديد مصير الرئيس السوري بشار الأسد.
4- على الرغم من أن الاجتياح العسكري التركي لجرابلس هو انتهاك لسيادة مدينة عربية، فإن أحداً لم يسمع مواقف منددة أو مستنكرة لذلك، ولعل سبب ذلك هو توتر علاقات معظم الدول العربية مع النظام السوري، فضلاً عن أنه يشكل إشارة قوية إلى مدى انهيار السيادة السورية بعد أن أصبحت معظم المعابر الحدودية مع دول الجوار الجغرافي خارج سيطرتها.
في جميع الأحوال، ترى تركيا أن معركة جرابلس تحمل لها أهداف استراتيجية كبيرة، وفي المقدمة منها، وقف المشروع الكردي في الشمال السوري والذي تعده خطراً استراتيجياً على أمنها القومي والوطني، فضلاً عن أن مثل هذا التدخل بغطاء دولي يشكل اعترافاً بدورها الأساسي في الأزمة السورية خلال المرحلة المقبلة.
ما بعد جرابلس
لعل ما بعد معركة التدخل العسكري التركي في جرابلس والتي أطلقت أنقرة عليها عملية (درع الفرات)، أهم مما قبلها، والسؤال الأساسي هنا، هو ماذا بعد معركة جرابلس؟ هل فعلاً ستتجه تركيا جنوباً للقضاء على قوات سوريا الديمقراطية ووحدات حماية الشعب؟ وهل ستواصل حملتها وصولاً إلى مدينة الباب التي أصبحت مركزاً لـ”داعش” بعد منبج وجرابلس؟ وهل ثمة غطاء دولي للتوسع التركي أكثر وصولاً إلى دور ملموس في معركة الرقة؟
بالتأكيد أن مسار ما بعد معركة جرابلس ليس سهلاً، إذ إن القضية تدخل في إطار جُملة من الحسابات المحلية والإقليمية والدولية، ففي المقام الأول لابد لتركيا أن تتعامل بواقعية مع المُكون الكُردي في سوريا الذي هو جزء من الواقع السوري مهما كانت حسابات تركيا الكُردية، وغير ذلك يعني الصدام مع هذا المُكون بما يشكله من قوة صاعدة نجح في نسج علاقات مع الجانب الأمريكي وانفتح على اللاعب الروسي.
كما أنه على أنقرة أن تتنبه أن دخول جرابلس لا يعني قطع الطريق أمام المشروع الكُردي، إذ إن طريق “منبج – الباب” يظل يشكل جسراً بين المناطق الكُردية من كوباني (عين العرب) إلى عفرين، كذلك فإن قضية التوغل التركي أكثر في الأراضي السورية تخضع لحسابات اللاعبين الإقليميين والدوليين، ففي النهاية ربما توافق هذه الدول على دور تركي محدود يناسب موقع أنقرة في الأزمة وبما يساعد على الحل السياسي لها، لكن ليس إلى درجة فرض تركيا رؤيتها على الأزمة السورية.
وبناءً عليه، فإن مسار التحرك التركي في الميدان خلال الأيام المقبلة يشكل مؤشراً مهماً لمعرفة تداعيات التدخل العسكري التركي في جرابلس.
خورشيد دلي
مركز المستقبل للابحاث والدراسات المتقدمة