ارتفعت أسعار النفط العالمية خلال شهر أغسطس 2016، حيث لامس خام برنت في الأسبوع الأخير من هذا الشهر حاجز 50 دولاراً للبرميل لأول مرة منذ ستة أسابيع، وبزيادة حوالي عشرة دولارات مقارنة ببداية أغسطس. وقد فُسر هذا الارتفاع بالأنباء التي تواترت عن أن منظمة الدول المصدرة للنفط “أوبك” ومنتجين رئيسيين آخرين ربما يحيون محادثات لتثبيت مستويات الإنتاج عندما يجتمعون في الجزائر نهاية شهر سبتمبر الجاري على هامش المنتدى الدولي الخامس عشر للطاقة الذي سيُعقد خلال الفترة من 26 إلى 28 سبتمبر 2016، بمشاركة وزراء الطاقة لـ 73 بلداً عضواً في المنتدى، فضلاً عن مسؤولين وخبراء وممثلين عن شركات بترولية وغازية ومنظمات عالمية مهمة، مثل منظمة أوبك والوكالة الدولية للطاقة ومنتدى الدول المصدرة للغاز.
ويبقى السؤال: هل يستطيع منتجو النفط الاتفاق في اجتماع الجزائر القادم على اتخاذ إجراءات وتدابير، مثل تثبيت الإنتاج، من شأنها إعادة الاستقرار إلى أسعار النفط؟
فشل المحاولات السابقة
لا شك أن عدداً من المعطيات الاقتصادية العالمية أدى إلى تراجع أسعار النفط منذ يونيو 2014، من مستوى 115 دولاراً للبرميل، نزولاً إلى مستوى 26 دولاراً في يناير الماضي، مثل قوة الدولار التي تجعل من النفط الخام أغلى تكلفة لحائزي العملات الأخرى، وتباطؤ الاقتصاد العالمي، والتي تقل معها الأنشطة والطلب على النفط. غير أن فشل الدول المنتجة للنفط، وعلى رأسها دول أوبك، في التوصل إلى اتفاق لخفض أو تجميد الإنتاج ساعد أيضاً كثيراً في التراجع الكبير الذي طرأ على أسعار النفط عالمياً خلال السنتين الماضيتين. وربما كان آخر مثال على ذلك هو ما حدث في الدوحة في أبريل الماضي، عندما انهار اتفاق لتجميد إنتاج النفط بين الدول المُنتجة بـأوبك، بعد أن طالبت السعودية بضرورة مشاركة إيران فيه، بينما تمسكت طهران حينها برفض تثبيت الإنتاج سعياً لاستعادة حصتها السوقية بعد رفع العقوبات الدولية التي كانت مفروضة عليها في مطلع العام الجاري.
ويمكن القول إن شبح إخفاق الدول المُنتجة للنفط في التوصل إلى اتفاق لتجميد الانتاج، وبالتالي دفع أسعار النفط عالمياً إلى أعلى، قد تبدد قليلاً مؤخراً نتيجة تصريحات كل من وزير الطاقة والصناعة السعودي خالد الفالح، ووزير الطاقة الروسي ألكساندر نوفاك، حيث أبدى كلاهما انفتاحاً على أي إجراءات قد تساهم في إعادة الاستقرار للسوق النفطية التي عاشت منذ منتصف 2014 أسوأ اضطراب منذ الثمانينيات. وهو ما أدى إلى نوع من التفاؤل بشأن إمكانية نجاح اجتماع الجزائر القادم في التوصل إلى اتفاق بشأن تجميد الإنتاج. فهل هذا الاتفاق فعلاً ممكن في ظل الأوضاع الحالية؟
فرص التوصل إلى اتفاق في اجتماع الجزائر
أصبح اتفاق تجميد إنتاج النفط أشبه بـ”كرة النار” التي تتقاذفها العواصم والمدن المختلفة. فمن الرياض إلى موسكو، إلى كاراكاس والدوحة ثم طهران، وصولاً إلى الجزائر، الكل يتقاذف الفكرة بين التأييد والرفض، وبين التفاؤل واليأس.
1- الفريق المتفائل بالتوصل إلى اتفاق لتجميد الإنتاج في اجتماع الجزائر، يشير إلى عدد من الأمور المهمة، لعل من أبرزها ما يلي:
أ- وصول إنتاج كبار المُنتجين بالفعل إلى المستويات القصوى، وهو ما قد يجعل فكرة التجميد تلقى ارتياحاً وقبولاً من الجميع. فالسعودية، على سبيل المثال، أنتجت في شهر يوليو الماضي نحو 10.67 مليون برميل يومياً وهو أعلى مستوى شهري لها على الإطلاق. وفي الوقت ذاته تنتج روسيا حوالي 10.9 مليون برميل يومياً.
ب- الوضع المالي الصعب لكثير من الدول المُنتجة للنفط، خاصةً دول أوبك. ففي يونيو الماضي، توقعت إدارة معلومات الطاقة الأمريكية هبوط إيرادات الصادرات النفطية لأوبك في عام 2016 بكاملها بنسبة 15% لتصل إلى 341 مليار دولار، وبذلك تواصل تراجعها للعام الثالث على التوالي، ومن المحتمل تسجيل أدنى مستويات لها في أكثر من 10 سنوات. ومع بقاء النفط عند متوسط 45 دولاراً هذا العام في أحسن الأحوال، فإن مسألة التجميد أصبحت ضرورة مُلحة حتى تتحسن الأسعار قليلاً ويخف عجز الموازنات في هذه الدول، حيث كان غالبية وزراء منظمة أوبك يتوقعون وصول النفط إلى 60 دولاراً هذا العام.
ج- مع اقتراب الرُبع الرابع من العام الحالي، سيرتفع الطلب من قبل المصافي عالمياً استعداداً لفصل الشتاء. وستلقى أسعار النفط دعماً قوياً بفضل الطلب المتزايد، ولهذا فإن تجميد الإنتاج سيشكل دعماً أقوى للأسعار ويجعلها ترتفع فوق مستوى 50 دولاراً في الفترة المتبقية من العام.
2- المتشائمون تجاه إمكانية التوصل إلى اتفاق لتجميد الإنتاج في اجتماع الجزائر المنتظر، يؤكدون على عدة اعتبارات مهمة، منها الآتي:
أ- أن كل ما يُقال حالياً بشأن تثبيت الإنتاج هو مجرد تصريحات عامة حول الرغبة في التعاون، وهو تكرار للمواقف المُعلنة السابقة، بينما عندما يصبح الحديث “أكثر تحديداً” عن خفض الإنتاج، فإن الكلام يتحول إلى “كرة نار” يلقي بها الجميع من بلد إلى آخر. ويشير هؤلاء المتشائمون بالتحديد إلى أن إيران لم تظهر أي علامات على تغيير موقفها حول عدم رغبتها في الدخول في أي اتفاق. وبالفعل، فإن طهران هادئة جداً فيما يتعلق بما يحدث حالياً من تصريحات، ولا يبدو أن المسؤولين النفطيين في إيران يفكرون في شيء حالياً أبعد من الحصول على حصة أكبر من السوق البترولية تتواكب مع طموحاتهم في زيادة إنتاجهم إلى مستويات ما قبل الحظر البترولي الغربي عليها الذي انتهى مطلع العام الجاري.
وسبق وأن أعلن وزير النفط الإيراني بيجن زنجنه، في اجتماع “أوبك” الأخير في يونيو الماضي، أنه لا يفضل فكرة “التجميد”، بل يؤيد أن تعود “أوبك” إلى نظام “الحصص”. ومؤخراً، أعلن زنجنه في البرلمان الإيراني أن وزارته ماضية في خطة لرفع الإنتاج العام للبلاد إلى 4.6 مليون برميل يومياً خلال خمسة أعوام، أي بزيادة مليون برميل يومياً على إنتاجها الحالي.
ومن ناحية أخرى، يشير المتشائمون أيضاً إلى عدم إمكانية انضمام كل دول أوبك في أي اتفاق للتجميد. فثمة دول في أوبك تريد زيادة إنتاجها مثل العراق ونيجيريا وليبيا؛ إذ إن العراق لديها وزير نفط جديد تم تعيينه مؤخراً وعازم على الوصول إلى اتفاق مع إقليم كردستان، ما يعني أن صادرات العراق من حقول كركوك إلى ميناء جيهان في تركيا سترتفع بنحو 5% تقريباً. كما أعلن رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي أن بلاده لم تصل إلى إنتاج النفط الكافي والملائم لقدراتها، ما يمثل مؤشراً قوياً على استمرار التسابق الإنتاجي بين كبار المنتجين وذلك على الرغم من أن العراق حقق أخيراً مستويات قياسية في تصدير النفط الخام وكانت المسبب الأول لعودة حالة تخمة المعروض واستمرار انخفاض الأسعار.
وفي نيجيريا، هناك بوادر بتوصل الحكومة إلى اتفاق مع المتمردين في دلتا النيجر، وهو ما قد يؤدي إلى استعادة نيجيريا إنتاجها السابق. كما أن ليبيا تعمل حالياً على زيادة إنتاجها من النفط بعد اتفاق القوى السياسية المتصارعة في شهر يوليو الماضي على إنشاء هيئة موحدة لإدارة أعمال التصدير. وبدأت السلطات الليبية تنفيذ أعمال صيانة في ميناء السدرة، الذي يعد أكبر منفذ لتصدير البترول الليبي، ضمن جهود زيادة الإنتاج من ليبيا التي تحتفظ بأكبر احتياطيات بترولية في أفريقيا. وسيتم استئناف التصدير فور تلقي أوامر رسمية بإعادة فتح الميناء الذي تم إغلاقه منذ ديسمبر 2014 عندما قامت جماعات مسلحة بمهاجمة الميناء.
ب- تحسن أسعار النفط العالمية حالياً عما كانت عليه بداية العام الجاري، فضلاً عن الارتفاع المتوقع لها في الشهور القادمة، وهو ما يعني تراجع الحافز على تجميد الإنتاج نسبياً. فعندما بدأت الدول المُنتجة، في فبراير الماضي، التفاوض حول اتفاق تجميد الإنتاج كانت الأسعار قد وصلت إلى 30 دولاراً وهو سعر مؤلم لجميع المُنتجين، ولكن الأسعار تحسنت واستقرت بين 40 و50 دولاراً في الشهور الأخيرة.
ومن جهة أخرى، من المتوقع أن تشهد الشهور القادمة حتى النصف الأول من العام القادم، تحسناً في الأسعار مع وجود علامات بانخفاض المعروض من خارج أوبك، إضافة إلى تقلص كمية مخزونات النفط عالمياً مع ارتفاع تكاليف تخزينه. ويتزامن هذا التحسن في ميزان العرض مع تحسن متوقع في ميزان الطلب. وإذا ما كانت الأسعار ستتحسن بمفردها، والإنتاج من خارج أوبك سينخفض، فلماذا إذن تقوم الدول بتجميد إنتاجها؟!
ج- يدخل منتجو النفط اجتماع الجزائر، وعينهم ليس فقط على رفع أسعار النفط عالمياً من خلال تثبيت الإنتاج، وإنما أيضاً على النفط الصخري، الذي يمثل مستوى أربعين دولاراً حافزاً قوياً على بدء عودته من جديد إلى الأسواق. وبالتالي ربما ترى بعض الدول المُنتجة خطورة في ارتفاع أسعار النفط عالمياً حتى لا تستعيد صناعة النفط الصخري عافيتها في الفترة المقبلة.
على أية حال، تبرز مقولات الفريق المتشائم صعوبة التوصل إلى اتفاق لتجميد الإنتاج في اجتماع الجزائر القادم. وإذا ما تعثر التوصل إلى هذا الاتفاق فسوف تكون لذلك نتائج سلبية وخيمة على أسعار النفط الخام عالمياً، لأنها ببساطة ستعكس بوضوح فقدان الثقة بين دول أوبك من ناحية، وبينها وبين الدول المنتجة من خارجها من ناحية أخرى، وذلك في الوقت الذي أصبح فيه التعاون بين المُنتجين مهماً جداً وأكثر إلحاحاً من أي فترة سابقة في ضوء عدم بلوغ السوق حالة الاستقرار والتعافي المنشودة. وفي هذا السياق، ثمة مخاوف من أنه في حالة عدم التوصل إلى توافق في الجزائر بشأن تثبيت الإنتاج، أن تعود أسعار النفط إلى مسارها الانحداري لتبلغ سقف 27 دولاراً للبرميل.
المطلوب لإنجاح اجتماع الجزائر
يتعين أن يكون اجتماع الجزائر القادم بمنزلة رسالة جيدة للسوق عن التنسيق والتعاون بين المُنتجين، وبالتالي دفع أسعار النفط إلى الاستقرار في مسار الصعود. ولن يتحقق ذلك من دون أن يسفر هذا الاجتماع عن قرارات وإجراءات فاعلة لدعم تعافي واستقرار سوق النفط.
ولتحقيق ذلك، يجب إقناع روسيا وإيران بالدخول في اتفاق تجميد الإنتاج. فالسعودية، أكبر مُصدر للنفط في العالم، وحسبما أكد ولي ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، لن توافق على تثبيت مستويات إنتاج الخام ما لم تفعل ذلك إيران والمنتجون الكبار، في إشارة إلى روسيا التي سجلت أعلى مستوى لإنتاجها النفطي في ثلاثين عاماً.
ومن ناحية أخرى، لن يكون تخطي عقبة “الأنانية” الروسية و”التعنّت” الإيراني كافياً لإنجاح اجتماع الجزائر، بل من الضروري أيضاً الاتفاق بين الدول المُنتجة حول آلية وبرنامج تنفيذ اقتراح تثبيت الإنتاج، وكيفية ضمان التزام جميع الدول الأعضاء بالاتفاق في حالة إقراره.
د. أحمد قنديل
مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة