مقدمة
منذ بداية الثورة السورية في مدينة درعا، 18 مارس/آذار 2011، شهدت سوريا وإقليم الشرق الأوسط وخارطة السياسة الدولية تحولات نتيجة تطور الحرب السورية، بالتوازي مع تحولات عنيفة ودموية شهدتها الحركات الإسلامية المختلفة، والتنظيمات الجهادية منها خاصة، على مستوى الأيديولوجيا والبنية والتحالفات، ولئن لم يكن ثمة مجال عام في سوريا ما قبل الثورة يسمح بنشوء “حركات إسلامية” أو حتى “إسلاميين” خارج إطار المؤسسة الدينية التقليدية، فإن انفجار المجال العام بعد الثورة أتاح مساحة استثنائية لنشوء وتمدد وتحولات الإسلاميين الجدد أو التيارات الإسلامية الوافدة، منذ بداية الثورة السلمية وبدرجة أكبر بعد تحولها للسلاح، وتضاعف ذلك مع توسع المناطق المحررة وظهور المشاريع المتنافسة على الأرض أو شرعية تمثيل الإسلام الصحيح داخليًّا أو صراعات السياسة حول سوريا خارجيًّا. تدرس هذه الورقة أهم الحركات الإسلامية في سوريا وتحولاتها الأيديولوجية والبنيوية.
انفجار الأيديولوجيا
بدأت الثورة السورية كانتفاضة شعبية للمجتمعات المحلية ضد السلطة، بلا أيديولوجيا ناجزة؛ حيث يتماهى الدِّين مع الحراك الثوري كأساس روحاني وهوياتي دون أن يحيل بالضرورة إلى أيديولوجيا أو مشروع سياسي، وتشكَّلت فصائل الجيش الحر الأولى كامتداد مسلح للمجتمع المحلي في القرية أو المدينة، وهي التشكيلات نفسها التي بقيت أساس الحراك المسلَّح بالعموم وتغذَّت منها الحركات الإسلامية والجهادية المختلفة، ولكن أسهمت عدَّة عوامل في تمدد الأيديولوجيا أو الخطاب الجهادي خاصة ضمن الثورة السورية، نذكر أهمها:
- توسُّع الثورة السورية لتشمل المظاهراتُ السلمية معظمَ المحافظات السورية.
- الكلفة البشرية العالية أمام القمع العنيف الذي اعتمده نظام الأسد كطريقة وحيدة لمواجهة الثورة.
- الطابع الطائفي لنظام الأسد، سواء في بنيته العامة، أو من خلال سلسلة المجازر الطائفية في مناطق الاحتكاك والحساسية الطائفية عام 2012، أو بطبيعة تحالفاته الإقليمية مع حزب الله اللبناني أو مع إيران والتي تم فهمها شعبيًّا كتحالفات ذات طابع طائفي ضد الأغلبية السنية، وهو ما يفرز خطاب مواجهة مشابهًا.
- الإفراج عن معتقلي صيدنايا خلال عام 2011، والذين سُجِن أغلبهم باتهامات عن علاقاتهم بتنظيمات جهادية، وأصبح عدد منهم قياديين في الفصائل المقاتلة الكبرى بعد ذلك.
- نشوء المناطق المحررة، منذ الربع الأخير لعام 2011 والتي بلغت أوْجَ توسعها في الربع الأول من 2013، كمناطق تمثِّل “حالة استثناء” بلا سلطة مركزية بحكم الضعف الهيكلي والفكري لتنظيمات وفصائل الثورة السورية في بدايتها الشعبية؛ حيث أتاحت المنطقة الشمالية والشرقية خاصة مساحات عمل لتنظيمات جهادية معولمة كتنظيم القاعدة وتنظيم “دولة العراق الإسلامية” والذي تحوَّل لاحقًا إلى “الدولة الإسلامية في العراق والشام” ثم إلى “الدولة الإسلامية” (داعش).
وباستثناء “جبهة النصرة” والتنظيمات الجهادية المعولمة ذات البنية الأيدولوجية المحضة، فإن الفصائل الإسلامية الصاعدة حافظت على بنيتها المحلية وانتمائها للثورة السورية، مع اختلاف درجة تأثرها بالأدبيات الجهادية أو حرصها على التمايز عن الخطاب الثوري العام، حيث تعتبر حركة أحرار الشام المثال الأوضح للتأثر بالأدبيات الجهادية، والذي تغيرت درجته مع الوقت، وتعتبر ذات بنية محلية وأيديولوجية مركبة؛ حيث تعمل الأيديولوجيا كإطار مرجعي للفصائل المحلية المشكِّلة للحركة، بينما حافظ جيش الإسلام على بنيته المحلية في الغوطة ومرجعيته المذهبية التي تمثِّل خصمًا تقليديًّا للإسلام السياسي والتيار الجهادي.
محطات التحول والمواجهة
- بداية التمايز: شهد نصف السنة الأول من الثورة المسلحة وتأسيس الجيش السوري الحر (29 يوليو/تموز 2011) بداية تشكُّل التنظيمات ذات البنية والخطاب الأيديولوجي المعلن والتي تحاول إظهار التمايز عن الجسد الثوري العام بفصائله المحلية أو بطابعه الشعبي أو مؤسساته المعارضة أو خطابه الرسمي (لواء الإسلام وكتائب أحرار الشام وجبهة النصرة)، وتوسعت هذه الفصائل مع الوقت على مستوى الجغرافيا والعدد والعتاد وعلى مستوى الخطاب والفكر أيضًا.
- التحالفات القُطْرية: لم يمنع التمايز الرمزي عن اسم الجيش الحر من قيام تحالفات على مستوى قُطْري بين الفصائل في الربع الأخير من عام 2012 والذي شهد قيام “جبهة تحرير سوريا الإسلامية” و “الجبهة الإسلامية السورية”؛ الأمر الذي كثَّف تفكير ونقاشات الإسلاميين الجدد حول الدولة، ومحاولة بناء مشاريع تتجاوز العمل العسكري في المجتمع المحلي إلى مستوى قُطري وفعاليات إدارية مدنية.
- تنظيم الدولة: في 9 إبريل/نيسان 2013، أعلن أبو بكر البغدادي تشكيل “الدولة الإسلامية في العراق والشام”، وهو ما شكَّل التحدي ومحطة التحول الأهم بالنسبة للتيار الجهادي العالمي عامة، وبالنسبة للفصائل الثورية والجهادية في سوريا خاصة، حيث يمثِّل عام 2013 مرحلة “هيمنة الخطاب الأقصى” أو هيمنة الخطاب السلفي الجهادي على الفضاء العام (1)، وبلغ التمايز الرمزي عن الثورة السورية أقصاه، خاصة علم الثورة واسم الجيش الحر، كردة فعل أو أسلوب مواجهة أو خضوع أمام تمدد وهيمنة الخطاب الجهادي ومزايداته على الفصائل الثورية.
- الجبهة الإسلامية: في 22 أكتوبر/تشرين الثاني 2013، أُعلن عن تشكيل “الجبهة الإسلامية” كتجمع لسبع فصائل ثورية كبيرة (2)، تجمع ما بين حركة أحرار الشام وجيش الإسلام وعدَّة فصائل من الجيش الحر، ويظهر ميثاق الجبهة الإسلامية (مشروع أمة) -والذي نصَّ على هدف إقامة “دولة إسلامية”- مثالًا واضحًا لهيمنة الخطاب الجهادي –خاصة ما يُصدره تنظيم الدولة- ومحاولة الفصائل السورية الدفاع عن نفسها بوجه مزايداته ولكن عبر تبني سقف وشعارات مشابهة له.
- حرب تنظيم الدولة: في 3 يناير/كانون الثاني 2014، أعلن “جيش المجاهدين”، الذي ينتمي للجيش السوري الحر، الحرب على تنظيم الدولة في الشمال السوري، والتحقت به سريعًا فصائل الجيش الحر والجبهة الإسلامية لتتمكن من طرده من معظم مناطق حلب وريفها وريف إدلب، ولكن حركة أحرار الشام (وهي جزء من الجبهة الإسلامية) لم تستطع أن تستنفر إلا عددًا قليلًا من مقاتليها في البداية رغم موقفها من التنظيم، بحكم تأثر العناصر المسبق بالأدبيات الجهادية والخوف من “الفتنة”، وهو التأثر الذي سيتغير مع الوقت وتشارك الحركة في حرب التنظيم بقوة. أما جبهة النصرة فقد التزمت الحياد في الشمال بينما شارك فرع المنطقة الشرقية بقيادة أبي مارية القحطاني بقوة في قتال التنظيم إلى حين سقوط دير الزور بيد التنظيم (3)، وتغيرت خارطة السيطرة الميدانية لتصبح المساحة التي تسيطر عليها الفصائل الثورية في الشمال (يوليو/تموز 2014) منحصرة في حلب وريفها (باستثناء الشرقي) إضافة إلى ريف إدلب وأجزاء من ريف حماة الشمالي وريف اللاذقية. وأتاح طرد التنظيم والانفصال الجغرافي عنه، مع تصنيفه كعدو من قِبل الفصائل عامة، درجة أكبر من المراجعات والمرونة لدى الفصائل في هذه المرحلة.
- مرحلة المراجعات: في 17 مايو/أيار 2014، قرأ حسان عبود، قائد حركة أحرار الشام الإسلامية، بيانًا موقَّعًا من عدة فصائل ثورية كبيرة باسم: ميثاق شرف ثوري (4)، تضمن عدَّة بنود أكدت على وطنية الفصائل من حيث عناصرها أو أهدافها في إسقاط النظام وبناء “دولة العدل والقانون والحريات”، وأكَّد على التزام حقوق الإنسان، وهو ما تسبَّب بموجة اتهامات وجدالات عنيفة طالت حركة أحرار الشام بشكل رئيس باعتبارها الأكثر قربًا من التيار الجهادي بين الفصائل الثورية، ورغم تلميح البعض إلى ضغوط إقليمية وراء البيان، فإن قادة ومنظِّري الحركة كانوا يقومون بحملة مراجعات وتحولات فكرية في الفترة ما قبل المواجهة مع تنظيم الدولة، وتكثف نشاط حملة المراجعات بعد ميثاق الشرف، وركزت حملة المراجعات على نقد التيار السلفي الجهادي ورفض الغلو والتكفير والتأكيد على الانتماء للثورة السورية والبُعد المحلي، وقد انتهت هذه الحملة بالقتل الجماعي لقيادات الحركة إثر تفجير غامض في بلدة رام حمدان في ريف إدلب في 9 سبتمبر/أيلول 2014 (5).
- حملة الإمارة: في 29 يوليو/تموز 2014، ظهرت خطبة بصوت زعيم جبهة النصرة (أبو محمد الجولاني) يعلن فيها إقامة إمارة إسلامية أمام جنوده، وهو ما نفته جبهة النصرة، وقالت: إن المقصود إقامة محاكم شرعية ومحاربة المفسدين، وقد شهدت المرحلة اللاحقة، خاصة ما بين أكتوبر/تشرين الأول 2014-فبراير/شباط 2015، سلسلة هجمات شنتها جبهة النصرة بالتحالف مع تنظيم جند الأقصى ضد عدة فصائل من الجيش السوري الحر في ريف إدلب وريف حلب (6)، استطاعت تفكيك معظمها، وهو ما ضاعف من قوة ونفوذ جبهة النصرة في الشمال السوري، ولكنه ضاعف من مساحة الحساسية ما بينها وبين الفصائل الثورية عامة، وحركة أحرار الشام الإسلامية خاصة؛ حيث أصبحت جبهة النصرة تمثِّل القوة الميدانية والأيديولوجية المنافسة للحركة في الشمال، في ظل تفرق تشكيلات الجيش الحر، وقد هاجمت جبهة النصرة في وقت لاحق أيضًا فصائل أخرى من الجيش الحر كان أبرزها الفرقة 13 (مارس/آذار 2016).
- مؤتمر الرياض: في 8-10 ديسمبر/كانون الأول 2015، عُقد مؤتمر الرياض للمعارضة السورية، بهدف التوصل إلى جسم سياسي موحد للتفاوض، وهو ما مثلته “الهيئة العليا للتفاوض”، وقد دُعيت عامة الفصائل الثورية إلى المؤتمر والمشاركة في الهيئة، ومن ضمنها جيش الإسلام وحركة أحرار الشام، إلا أن الأخيرة انسحبت بسبب مشاركة هيئة التنسيق، حيث اعتبرته تنازلًا عن الثوابت (7)، بعد تعرضها لموجة من التشكيك والاتهامات من قبل التيار الجهادي أيضًا، دون أن تلغي الحركة خيار العملية السياسية، وعلى الأرجح فإن المشاركة مع “علمانيين” ضمن مؤسسة واحدة كان خطوة لم تتهيأ لها الحركة بعد، خاصة بالنسبة لتبرير الأمر لعناصرها، بينما كانت مشاركة جيش الإسلام مهيمنة على المشهد بحكم تعيين محمد علوش القيادي في الجيش ككبير للمفاوضين. وقد غدت العملية السياسية بعد مؤتمر الرياض مركز الاهتمام الدولي ومنطقة تصنيف للفصائل الثورية ومساحة جدل كبير في الفضاء العام، وهو ما ضاعف من حضور السياسة في نقاشات ونشاط الإسلاميين.
- جيش الفتح: في 24 مارس/آذار 2015، تأسس “جيش الفتح” كغرفة عمليات تجمع عدة فصائل ثورية وجهادية، أهمها: أحرار الشام، وجبهة النصرة، وفيلق الشام (8). وقد تحول جيش الفتح إلى أهم تحالف عسكري في الشمال السوري مع تحقيقه إنجازات عسكرية مهمة في محافظة إدلب وحلب.
ورغم اقترابه من التفكك عدة مرات، وخروج فيلق الشام وجند الأقصى منه، وحرص أحرار الشام على تسميته غرفة عمليات ونفي كونه جيشًا، إلا أنه تحول إلى “أيقونة” لدى جمهور الجهاديين والإسلاميين، وشكَّل جيش الفتح مساحة اختبار لتوافقات واختلافات “الإسلاميين” وقدرتهم على تشكيل مؤسسة مشتركة، وهو ما أظهرته تجربة إدارة إدلب التي شهدت صراعات متكررة ما بين أحرار الشام وفيلق الشام من جهة وجبهة النصرة وجند الأقصى من جهة أخرى، ولعل أهم نتائج جيش الفتح هو أنه أصبح يمثِّل تصنيفًا مستقلًّا وتحالفًا يفرض نفسه على الساحة، في مقابل تفكك وتفرق فصائل الجيش الحر، وأنه يقدِّم نفسه كسلطة إدارة مدنية وقضائية على الأرض لا كمجرد تحالف عسكري. - فك الارتباط: في 28 يوليو/تموز 2016، ظهر أبو محمد الجولاني كاشفًا وجهه لأول مرة ليعلن انتهاء العمل باسم جبهة النصرة وتشكيل “جبهة فتح الشام” دون أي ارتباط خارجي (9)، وهو ما اعتُبر إعلانًا لفكِّ الارتباط بتنظيم القاعدة، ليفتح مرحلة جديدة من التكهنات حول مستقبل الجهاديين في سوريا، وإن كان التغيير أقرب للتحولات الأيديولوجية والاستراتيجية أم مجرد تكيفات شكلية لتجنب الاتفاق الروسي-الأميركي والقدرة الأكبر على التجنيد والتحالفات المحلية، ولكن التنظيم أظهر تحولات خطابية مهمة في المرحلة التي سبقت فكَّ الارتباط والتي تلته في اتجاه التموضع المحلي لاهتمامات التنظيم وخطابه، ويؤثِّر فكَّ الارتباط على صورة “الجهاديين” أو “الإسلاميين” في سوريا باعتباره قلَّص الفوارق بينها، وهو ما قد يدفع لمزيد من التحالفات البينية، ولكن لمزيد من محاولات التمايز وتأكيد الفوارق أيضًا بين الإسلاميين، خاصة حركة أحرار الشام.
الإسلاميون الجدد بين الميدان والسياسة
1- المؤسسة الدينية التقليدية
لم يكن للمؤسسة الدينية التقليدية في المدن دورٌ دافع أو تنظيمي للحراك الثوري في بدايته، رغم أن العديد من الرموز المعروفين اتخذوا مواقف معارضة للنظام، خاصة “جماعة زيد”، ورغم تمثيل هذه المؤسسة لنمط التدين السائد في المجتمع السوري، إلا أن تمدد الخطاب الجهادي وهيمنة الفصائل المقاتلة قد قلَّص من مساحة تأثير المؤسسة التي نشط رموزها خارج سوريا، وهذه المسافة ظهرت من خلال تأسيس “المجلس الإسلامي السوري” حيث انسحبت الفصائل “الإسلامية” الكبرى لأنها لم تحصل على تمثيل (10).
وإن كان للرموز المعارضة من المؤسسة دور مرجعي وداعم لعدد من الفصائل في دمشق (الاتحاد الإسلامي لأجناد الشام سابقًا) وحلب، ولكن بقيت الغلبة بين الفصائل للشرعي الميداني، ورغم انتماء غالب الشرعيين لمرجعية المؤسسة التقليدية نفسها، ولكن يمكن بسهولة ملاحظة تغير في نسب وخارطة الخطابات الشرعية السائدة لصالح التيار الجهادي والتيار السلفي. وتغلب على المؤسسة التقليدية مواقف إيجابية بخصوص النظام السياسي الحديث والعلاقات الدولية والأقليات، ويصعب القول بأن تأثيرها انتهى، ولكن دورها كمرجعية دينية ومجتمعية سيكون مؤثرًا بشكل أكبر في وضع السلم أو عودة الأولوية للسياسي أو المشروع الوطني على حساب الواقع الفصائلي.
2- الإخوان المسلمون
رغم أن لجماعة الإخوان المسلمين جذورًا قديمة في المجتمع السوري قبل أحداث الثمانينات، فإن القواعد الاجتماعية للجماعة تقلَّصت مع غياب ثلاثة عقود، مع انتقال الجماعة نفسها إلى العمل السياسي في الخارج، ولكن يمكن قراءة وجود تيار متأثر بفكر الإخوان المسلمين بغضِّ النظر عن العلاقة التنظيمية بالجماعة، وهذا التأثير يمتزج بالمؤسسة التقليدية أحيانًا (مثل الاتحاد الإسلامي لأجناد الشام) أو بالأدبيات الجهادية (مثل حركة أحرار الشام أو جبهة النصرة التي تستلهم من رمزية الطليعة المقاتلة)، باعتباره يمثِّل تجربة إسلامية حركية سياسية وجهادية معًا (بالنظر لتجربة الطليعة المقاتلة).
وقد حاول الإخوان المسلمون تأسيس ذراع مسلحة من خلال تجربة “الدروع” بدايات 2013 سرعان ما فشلت، بينما يعتبر “فيلق الشام” حاليًّا الأكثر تمثيلًا لمدرسة الإخوان المسلمين، رغم النفي المشترك للعلاقة ما بين الفيلق والجماعة، ويعتبر الفيلق من أكبر فصائل “الجيش الحر” في الشمال السوري ويحظى بعلاقات إقليمية ودولية جيدة إضافة لتحالفاته المحلية مع الفصائل الثورية والجهادية، باعتباره كان أحد المؤسسين لجيش الفتح.
ولا شك أن أفكار الإسلام السياسي ما زالت الأكثر إيجابية بما يتعلق بالنظام السياسي الحديث والعلاقات الدولية والتعددية، ورغم الأزمة التنظيمية والإعلامية للتيارات الإسلامية خارج إطار السلفية والجهادية في سوريا فإن حظوظها في التوسع قائمة، بحكم عدم تمايزها عن نمط التدين السائد ورموز الثورة السورية (مثل علم الثورة واسم الجيش الحر) وكونها تحظى بأيديولوجيا متماسكة في الوقت نفسه، عدا عن تأثير هذه الأفكار المتزايد في الجماعات الإسلامية والجهادية المختلفة مع تزايد حضور “السياسي” في الفضاء العام.
3- جيش الإسلام
نشأ جيش الإسلام كامتداد مسلح للمجتمع المحلي في دوما والغوطة الشرقية، أسوة بتشكيلات الجيش الحر المختلفة، وكان هذا الأساس المحلي مدعومًا بمرجعية مذهبية حنبلية تقليدية في “دوما” تنتمي للسلفية العلمية، وبقي هذا البعد المذهبي والمحلي حاضرًا في بنية الجيش وخطابه وعلاقته بالخصوم والحلفاء المحليين، وإن لم ينعكس على علاقاته السياسية والخارجية، رغم تصريحات قائد الجيش الراحل “زهران علوش” ضد الديمقراطية، فإن الجيش كانت له مشاركة إيجابية في مؤسسات المعارضة السياسية والعسكرية، خاصة في الهيئة العليا للمفاوضات.
ولئن شارك جيش الإسلام في موجة التمايز عن الجسد الثوري العام، بعدم تبنِّيه عَلَم الثورة واسم الجيش الحر في البداية، ومشاركته في ميثاق الجبهة الإسلامية الذي تضمن سقفًا عاليًا من الشعارات المتأثِّرة بالتيار الجهادي، فإنه حسم خياره المحلي والثوري والسياسي بشكل مبكر، عدا عن مفاصلته المبكرة للتيار السلفي الجهادي وتحصين عناصره من التأثر به بحكم بنيته وأيديولوجيته المتماسكة.
ويمكن إرجاع انحسار تأثير المرجعية المذهبية إلى عوامل التعبئة والتجنيد وقضايا الأخلاق الاجتماعية والنقاشات العقدية، رغم تأثيرها الواضح في خلافات الجيش مع فصائل الغوطة الشرقية، ولكن دون أن تفرض نفسها كأيديولوجيا مشروع سياسي، وهو ما يقلِّل من التمايز بينه وبين بقية الفصائل الثورية المحلية بالنسبة للمشروع السياسي والعلاقات الدولية.
4- أحرار الشام
تعتبر حركة أحرار الشام أغنى التجارب الإسلامية في سوريا، بحكم تأثرها وتشكلها من تيارات إسلامية متعددة، ومرورها بتحولات وتحديات مختلفة، وقدرتها على التموضع ضمن الفصائل الثورية والجهادية معًا، بما تسبِّبه هذه “الشرعية المزدوجة” من صعوبات المواءمة ما بين المجالين، والتي تظهر كاختلاف داخلي في الحركة أحيانًا ما بين تيارات إصلاحية أو أقرب للتشدد، ويمكن ملاحظة حرص الحركة على أن تظهر كهوية فكرية متمايزة، رغم ضعف التنظير الفكري اللازم لتأسيس هوية كهذه بعد مقتل معظم المنظِّرين الأوائل، والذين لا تزال مراجعاتهم الأخيرة والنقدية للتيار الجهادي هي المرجعية الفكرية الأولى للحركة.
وقد حظي النشاط السياسي باهتمام مبكر لدى الحركة، تزايد بعد رحيل القادة وتوسع الجناح السياسي مع انضمام عدة فصائل إليها، وكان لهذا الجناح السياسي نشاط مكثف ومبكر مقارنة باهتمام الفصائل الثورية المتأخر والأقل تركيزًا بعملها السياسي. وأظهرت الحركة عبر بياناتها المختلفة، وعبر مقالات لبيب نحاس، خطابًا وطنيًّا وثوريًّا وتقبلًا للعملية السياسية وللدولة الوطنية، ولكن مع تحفُّظ على الديمقراطية والعلاقة بالعلمانيين، رغم أن الحركة تعتمد نظام التصويت داخليًّا، وهو ما يُظهر أن الخلاف حول الديمقراطية أشبه بنقاش هوياتي لفظي أكثر مما هو اعتراض على انتخاب وتداول النظام السياسي، عدا عن أن الحركة مارست علاقات إقليمية ودولية مختلفة.
ورغم غلبة التحالفات الميدانية العسكرية مع التنظيمات الجهادية على الحركة، فإنها بالمقابل في مشروعها الفكري والسياسي تحرص على التموضع ضمن الفصائل الثورية المحلية، وتُظهر انزياحًا مستمرًّا في خطابها نحو الهوية المحلية والاهتمام بالسياسة والدولة وتقبل الاختلاف ونقد التيار السلفي الجهادي، عدا عن اعتبارها القوة العسكرية الأكبر في الشمال السوري، وقدرتها على تشكيل منافس للتنظيمات الجهادية الأكثر تشددًا.
تمثِّل حركة أحرار الشام المثال الأهم عن تجارب وتحولات الإسلاميين السوريين الجدد والصاعدين بعد الثورة، وعن التيار الإسلامي المحلي الذي يجمع ما بين الشق السياسي والجهادي مع توفره على حواضن شعبية وبنية تنظيمية ومشروع سياسي.
5- جبهة النصرة
مرَّت جبهة النصرة بتحولات عدة عبر تجربتها في سوريا، على مستوى الاستراتيجية والخطاب في محاولة المواءمة ما بين المحلية والعالمية، وما بين الاقتصار على العمل العسكري أو تأسيس إمارة إسلامية، وما بين التحالفات والصراعات مع الفصائل والمجتمعات المحلية. ويُظهر فكُّ الارتباط الأخير والتحول إلى جبهة فتح الشام، عدا عن مرونة وبراغماتية التنظيم نسبيًّا، قدرة الجولاني على قيادة تحولات مفصلية ضمن تنظيمه بقدر محدود من الصراعات والخسائر الداخلية، وإن كانت هذه الخطوة لا تعني انتهاء الصراع مع القوى الثورية المحلية المختلفة، أو التطور نحو ممارسة سياسية وعلاقات دولية معلنة في المدى القريب، أو الاقتصار على العمل العسكري والتخلي عن ممارسة السلطة الإدارية، أو تحولًا أيديولوجيًّا بعيدًا عن مرجعية السلفية الجهادية، ولكنه يحسم خطاب واستراتيجية التنظيم ضمن الإطار المحلي، ويختصر الفوارق الشكلية أو الخطابية ما بين التنظيم والفصائل الإسلامية والجهادية الأخرى، ويمكن أن يوسِّع إطار تحالفات جبهة فتح الشام مع فصائل محلية متأثرة بالأدبيات الجهادية إضافة إلى المتطوعين الجدد كأفراد، ويسهم في تأكيد محلية القوى المقاتلة لنظام الأسد والحلف الإقليمي والدولي الداعم له.
مآلات الظاهرة الإسلامية والجهادية في سوريا
نشأت الظاهرة الإسلامية في سوريا من واقع الصراع والفوضى والتجريب المستمر، ولم تختبر نفسها في بيئة مستقرة أو نظام سياسي، واتسمت بالتالي بدرجة كبيرة من المرونة والتحولات والصراعات البينية، ولكن الزخم الشعبي والميداني والرمزي للثورة السورية كان دافعًا دائمًا لتحولات أيديولوجية وخطابية واستراتيجية في الحركات الإسلامية الناشئة أو حتى لدى الحركات الجهادية الوافدة، كتنظيم القاعدة أو الجهاديين السلفيين، ويمكن قراءة التحولات المستمرة للظاهرة ضمن التحدي والاستجابة المستمرة في واقع صراع معقد ومتطور دومًا. وتمثِّل حركة أحرار الشام الإسلامية تجربة سياسية عسكرية محلية وأيديولوجية صاعدة ومنظمة وقابلة للمشاركة السياسية ضمن مشروع وطني، بينما تمثل جبهة فتح الشام تحولات وتكيفات الجهادية السلفية المستمرة ومحاولتها تأسيس مشروعها الخاص الذي اختار التموضع في الإطار المحلي بعد فك الارتباط عن القاعدة، ويحاول توسيع أطر تحالفاته لتأسيس مشروع جهادي محلي هدفه تطبيق الشريعة يقطع الطريق على العملية السياسية الديمقراطية، بينما يمثِّل جيش الإسلام فصيلًا عسكريًّا محليًّا بمرجعية مذهبية سلفية ولا يختلف ببنيته أو خياراته السياسية عن فصائل الجيش الحر.
وتستفيد “الحركات” الجهادية من الضعف التنظيمي لفصائل الجيش الحر، وغياب الأطر الهيكلية الجامعة، وهو ما يتيح لها التوسع المستمر في الشمال السوري خاصة، وهو الضعف نفسه الذي يعانيه التيار الإسلامي غير المنتمي للتيار الجهادي أو السلفي، وهو الأقرب للمؤسسة التقليدية أو لأفكار الإسلام السياسي والحركي، ولكنه ضعف تفرضه هيمنة الواقع الفصائلي، أكثر مما يعكس خارطة الأيديولوجيا والتدين السائد.
وتتجه الخارطة الفصائلية في سوريا عامة، وفي الشمال السوري خاصة، نحو تشكيلات أقل واندماجات أوسع، يُرجَّح أن تكون لصالح “جيش الفتح” فيما لو لم تحل فصائل الجيش الحر أزمتها الهيكلية ضمن مظلة جامعة.
________________________________
أحمد أبا زيد -مركز الجزيرة للدراسات
مراجع
1- أبا زيد، أحمد، “سياسة الدين المخبأ”، مركز نماء للبحوث والدراسات، 3 ديسمبر/كانون الأول 2015، (تاريخ الدخول: 15 أغسطس/آب 2016)،
http://nama-center.com/ActivitieDatials.aspx?id=30525
2 سبع فصائل سورية تندمج بـ”الجبهة الإسلامية، الجزيرة نت، 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2013، (تاريخ الدخول: 15 أغسطس/آب 2016)،
3 أبا زيد، أحمد، “المشهد السوري بعد دير الزور”، منتدى العلاقات العربية والدولية، 22 يوليو/تموز 2014، (تاريخ الدخول: 15 أغسطس/آب 2016)،
4 فصائل سورية مقاتلة توقِّع ميثاق شرف ثوريًّا، الجزيرة نت، 17 مايو/أيار 2014، (تاريخ الدخول: 17 أغسطس/آب 2016)،
5 مقتل قيادات أحرار الشام بغاز سام واتهامات للنظام، الجزيرة نت، 10 سبتمبر/أيلول 2014، (تاريخ الدخول: 17 أغسطس/آب 2016)،
6 أبا زيد، أحمد، “أحرار الشام بعد عام طويل”، مركز عمران للدراسات، 30 سبتمبر/أيلول 2015، (تاريخ الدخول: 18 أغسطس/آب 2016)، إضغط هنا.
7 حركة أحرار الشام تنسحب من مؤتمر الرياض، عنب بلدي، 10 ديسمبر/كانون الأول 2015، (تاريخ الدخول: 18 أغسطس/آب 2016)،
http://www.enabbaladi.net/archives/55710
8 أبا زيد، أحمد، “استرداد المبادرة: إنجازات المعارضة السورية المسلحة وتحدياتها”، مركزالجزيرة للدراسات، 17 يونيو/حزيران 2015، (تاريخ الدخول: 19 أغسطس/آب 2016)،
http://studies.aljazeera.net/ar/reports/2015/06/2015617112026189503.html
9 جبهة النصرة تنفصل عن القاعدة وتغيِّر اسمها، الجزيرة نت، 28 يوليو/تموز 2016، (تاريخ الدخول: 20 أغسطس/آب 2016)، إضغط هنا.