على الرغم من التراجع الملحوظ في الدور الذي تمارسه الولايات المتحدة عالمياً، فإن التطورات المختلفة أثبتت حاجة العالم إلى استمرار وجود الولايات المتحدة وممارستها دورها القيادي في الأقاليم المختلفة، خاصةً أن القوى الصاعدة لن تستطع ملء الفراغ الذي قد تتراجع عنه واشنطن، كما أنها لن تستطيع الحفاظ على النظام الليبرالي العالمي والقيم واسعة الانتشار الخاصة به، سواء الديمقراطية أو حرية التجارة وغيرها.
ما سبق يمثل خلاصة تقرير نشره المنتدى الاقتصادي العالمي تحت عنوان: “تقوية النظام الليبرالي العالمي”، حيث أعده كل من “روبرت كاجان” Robert Kagan، وهو زميل أول في معهد بروكنجز، و”بولا جيه دوبريانسكي” Paula J. Dobriansky، وهي دبلوماسية سابقة وزميل أول في مشروع مستقبل الدبلوماسية بمركز بلفر للعلوم والشؤون الدولية. واستعرض التقرير أربعة محاور يمكن من خلالها للولايات المتحدة العودة لدورها القيادي والحفاظ على عناصر النظام الليبرالي العالمي.
1- تعزيز النظام الاقتصادي الليبرالي:
يشير الكاتبان إلى أنه أمام الولايات المتحدة فرصة لإعادة التركيز والاستثمار في النظام الليبرالي الاقتصادي الذي ساهمت في تشكيله بعد الأزمة الاقتصادية العالمية، خاصةً أن المؤسسات المالية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي مازالا يعتمدان بشكل مركزي على الولايات المتحدة. ومن ثم ينبغي على السياسة الخارجية الأمريكية العمل على ضمان استمرار المعايير الاقتصادية الليبرالية بما يحافظ على المصالح المختلفة لشركائها. وسيتحقق للولايات المتحدة ذلك الأمر من خلال العمل في اتجاهات ثلاثة، هي:
الاتجاه الأول: تدعيم اتفاقية الشراكة مع دول عبر المحيط الهادئ (TTP) والتي تشمل 12 دولة تمثل 40% من الناتج الإجمالي العالمي، وثلث التجارة العالمية، وكذلك تعزيز اتفاقية الشراكة الاستثمارية والتجارية مع دول عبر الأطلسي (TTIP) والتي تضم الولايات المتحدة وحلفاءها في الاتحاد الأوروبي، والذين يمثلون تريليون دولار سنوياً في التجارة العالمية، حيث إن هاتين الاتفاقيتين ستساعدان الولايات المتحدة على تشكيل مستقبل النظام التجاري العالمي.
بالإضافة إلى ذلك، ينبغي أن تستمر الولايات المتحدة في دعمها المبادرات الإنتاجية بمنظمة التجارة العالمية، بما يضيف لكفاءة هذا النظام العالمي، فضلاً عن الحفاظ على حرية وأمن قنوات وطرق التجارة العالمية سواء في بحر الصين الجنوبي أو مياه القطب الشمالي، علاوة على أهمية الحفاظ على مبدأ حرية الملاحة، الذي يمثل محوراً أساسياً في النظام التجاري العالمي.
الاتجاه الثاني: تدعيم نظام “بريتون وودز” والذي لعب دوراً محورياً في تأسيس قواعد النظام الاقتصادي الليبرالي العالمي، وذلك من خلال إصلاح وتقوية مؤسسات هذا النظام، مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وعلى أن تعكس الواقع الاقتصادي المتغير بما فيه الاعتراف بالنمو الاقتصادي الكبير لكلِ من الصين والهند، على سبيل المثال ودورهما في النظام الاقتصادي العالمي.
أيضاً، يؤكد التقرير على ضرورة قيام الولايات المتحدة بتوفير الموارد المالية الكافية لهذه المؤسسات الدولية، لضمان قيامها بدورها المطلوب، بالإضافة إلى وجود حضور قوي وتمثيل مهم لواشنطن على رأس تلك المؤسسات لممارسة دورها القيادي المعتاد، والعمل على إشراك القطاع الخاص وفتح القنوات المناسبة له، والذي يعد أحد التحديات والضرورات للنظام الاقتصادي الليبرالي العالمي.
الاتجاه الثالث: العمل مع المؤسسات الجديدة، مثل بنك التنمية الجديد، والبنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية، والتي تأسست استجابةً لظهور قوى صاعدة في النظام العالمي تسعى لممارسة نفوذ أكبر، بهدف دعم المعايير العالية للنظام الاقتصادي، بل ويجب على الولايات المتحدة التعاون والتكامل مع تلك المؤسسات ليس فقط لما تمثله من تهديد للمؤسسات القائمة والنظام الاقتصادي برمته، بل أيضاً لإحراجها ودفعها للتعاون المباشر بدلاً من المنافسة مع المؤسسات الحالية في النظام الدولي.
2- تقوية النظام الأمني الدولي:
تنخرط الولايات المتحدة أمنياً، منذ الحرب العالمية الثانية، في ثلاثة أقاليم رئيسية؛ أوروبا، شرق آسيا، والشرق الأوسط. وقد لعبت الولايات المتحدة دور الحليف في هذه المناطق والحارس الأمني لها، بالإضافة إلى دور الوسيط في بعض الأحيان لإنهاء الخلافات والحروب بها، وقد ساهم ذلك في الحفاظ على السلام الدولي لفترة طويلة، بيد أن التطورات التي وقعت في السنوات الأخيرة، سواء من روسيا أو إيران وغيرها، بالإضافة إلى تحدي الإرهاب، كل ذلك ساهم في تهديد السلام الدولي.
وعلى الرغم مما يُثار بشأن عدم رغبة الولايات المتحدة في ممارسة دورها القيادي المعتاد، وبُغية الحفاظ على النظام الليبرالي الدولي، يشير التقرير إلى أهمية قيام الولايات المتحدة بعدد من الخطوات؛ لعلَّ أبرزها ما يلي:
أ- طمأنة الحلفاء والأصدقاء بشأن استمرار الدور الأمريكي كحافظ للأمن والاستقرار الدولي؛ خاصةً أن الدول التي بدأت تشكك في هذا الدور ستعتمد بالضرورة على دول أخرى بما يحافظ على مصالحها، لكنها قد تختار حلفاء معادين للنظام الليبرالي الدولي. وتتحقق هذه الطمأنة عن طريق تقوية القدرات العسكرية والسياسية والاقتصادية للحلفاء واستمرار الدعم لهم، لردع احتمالية أي عدوان عليهم، مع التأكيد على قدرة الولايات المتحدة على تقديم حلول دبلوماسية للمشكلات وجمع كل الفرقاء على طاولة واحدة من دون التحيز لأحد، بما يبرز قيادتها الحقيقية للنظام الدولي.
ب- تأسيس طرق جديدة للتعامل مع الدول غير الحليفة للولايات المتحدة، مثل الهند والبرازيل، من أجل تعزيز المصالح المشتركة؛ وذلك عن طريق اتباع سياسة ذات شقين؛ الاحتواء الفعَّال من ناحية، والردع من ناحية أخرى للدول التي تهدد الأمن العالمي، مع ضرورة تأكيد واشنطن على أهمية وفائدة الصعود السلمي لبعض القوى عن طريق التكامل داخل النظام الاقتصادي والسياسي القائم، لا عن طريق تحدي قواعد ذلك النظام والمؤسسات القائمة فيه.
ج- زيادة القدرات الدفاعية الأمريكية من خلال زيادة إنفاقها الدفاعي، والتوقف عن الاستقطاع من ميزانية الدفاع، خاصة أن ذلك لا يهدد الأمن الأمريكي فحسب، بل يهدد أيضاً النظام الليبرالي العالمي برمته.
3- الاستفادة من ثورة الطاقة:
تُعد الولايات المتحدة، في الوقت الحالي، أكبر مُنتج للنفط والغاز في العالم من خلال تكنولوجيا الصخر الزيتي، ويرى الكاتبان أنه يمكن لواشنطن الاستفادة من ذلك في تقوية الحلفاء وإضعاف الخصوم والحفاظ على النظام الليبرالي الدولي، من خلال ما يلي:
أ- مساعدة الحلفاء الأوروبيين والآسيويين، لتنويع مصادر الطاقة خاصةً من الغاز من الولايات المتحدة، حتى على المدى البعيد بدلاً من اعتماد أوروبا بشكل أساسي على روسيا في هذا الأمر.
ب- السعي إلى تخفيض أسعار براميل البترول، لزيادة الضغط على الدول المصدرة للطاقة والمعادية للنظام الليبرالي الدولي، وتشمل هذه الدول كل من روسيا وإيران وفنزويلا، والتي يعتمد اقتصادها بشكل أساسي على تصدير الطاقة إلى الخارج بأسعار عالية. ومن ثم، فإن تصدير الولايات المتحدة للزيت الخام سيعزز تنويع مصادر الطاقة في سوق الطاقة العالمي.
ج- خلق بيئات استثمارية لدعم زيادة إنتاج النفط، وتنويع الإمدادات في السوق العالمية، والعمل مع المنتجين الآخرين لدعم السياسات الاقتصادية الليبرالية.
4- الاستثمار في القوة الناعمة الأمريكية:
يسلط الكاتبان الضوء على التعليم، والإبداع، وريادة الأعمال، باعتبارها السلع الأكثر رواجاً للولايات المتحدة، فهي قائدة عالمية في التعليم العالي، ولديها أعظم ثقافة للابتكار في العالم، وتدعم التعاون بين كافة المؤسسات بما يؤدي لازدهار ريادة الأعمال بشكل كبير.
ولدعم استمرار النظام الليبرالي العالمي، يمكن للولايات المتحدة توظيف قوتها الناعمة للحفاظ على دورها القيادي في الساحة العالمية، وذلك من خلال بعض الخطوات، وهي:
أ- زيادة أعداد الطلاب الأجانب المميزين الذين يدرسون في الولايات المتحدة، وتشجيع برامج التبادل الطلابي، وزيادة الدعم المقدم لمنح الدراسة داخل الولايات المتحدة والتي يسعى إليها الكثير من طلاب الدول الأخرى، وتسهيل إجراءات استخراج التأشيرة والأوراق المطلوبة لتحقيق ذلك الأمر.
ب- تمكين روَّاد الأعمال العالميين، والعمل على تقديم دعم مادي للمشروعات الصغيرة والمتوسطة والتدريب، من خلال مساعدة الدول النامية على إنشاء مراكز تدريب مهنية متخصصة بما يساعد على تطوير قدرات الأفراد فيها بما يعود بالنفع على المجتمع.
ج- تدعيم المشاريع البحثية المشتركة بين عدد من البلدان، بما يحقق المنفعة لجميع الأطراف، ويعزز العلاقات، ويزيد من عناصر بناء الثقة.
د- محاولة ربط المبتكرين الأجانب بالشركات الأمريكية، وتوفير التمويل اللازم لابتكاراتهم، بما يتيح لهم فرص التدريب المناسب واكتساب الخبرات المهنية التي تساعدهم على تطوير إبداعهم المستقبلي.
ختاماً، يقدم التقرير تصوراً شاملاً لطبيعة الدور الأمريكي في استقرار النظام الليبرالي العالمي، وعلى الرغم من أن هذا الدور يظل مرهوناً بالتعاون بين مختلف الدول، نظراً لما يتعرض له هذا النظام من تهديد لا يمكن لأي دولة منفردة مواجهته مهما كانت قوتها، بيد أن محورية دور ومسؤولية الولايات المتحدة هو الذي يجعلها تقوم بالدور الأكبر في تعزيز وتقوية هذا النظام بطريقة ذكية ومنفتحة في الوقت ذاته؛ ليس فقط دفاعاً عن مصالح الشعب الأمريكي المتحققة في ظل النظام الليبرالي، بل أيضاً دفاعاً عن مصالح العالم – على حد ذكر التقرير.
Robert Kagan and Paula J. Dobriansky
* عرض مُوجز لتقرير نشره المنتدى الاقتصادي العالمي تحت عنوان: “تقوية النظام الليبرالي العالمي”، في أبريل 2016.
المصدر:
Robert Kagan and Paula J. Dobriansky, “Strengthening the Liberal World Order“, (Switzerland: A World Economic Forum, April 2016).
إعداد: باسم راشد
مركز المستقبل للابحاث والدراسات المتقدمة