بمناسبة ومن دون مناسبة يعيد رئيس وزراء العراق حيدر العبادي ما حرص عليه قادة العراق بعد الاحتلال الأميركي بتأكيدهم على سيادة العراق وإرادتهم الحرة في الموافقة أو عدمها على استقدام القوات الأجنبية لأداء المهمات المكلفين بها.
تصريحه جاء بعد نشر خبر إرسال 400 جندي أميركي إلى قاعدة القيارة الجوية بأوامر مباشرة من الرئيس الأميركي باراك أوباما، وصفت بأنها “القوة الجاهزة للضرب” نظرا لنوعية تدريبها ومهاراتها وخبراتها القتالية.
تأكيدات المعرفة المسبقة تنفيها التصريحات المضطربة لحكومة العراق لتوضيح الخبر، دون أن تكون الحكومة مصدرا للأخبار ذات المساس بالأمن الوطني السيادي لها.
الشيء الآخر إن الدول في مثل هذه الحالات، والمقصود هنا الاستعدادات لخوض معركة الموصل الفاصلة مع الإرهاب، تسعى إلى الكتمان ضمن سياقات عسكرية لمباغتة العدو بحجم التهيئة والتشديد على السرية كشرط لوضع الخطط؛ لكننا في زمن انقلاب المعايير الدبلوماسية والعسكرية، نتابع أدق التفاصيل وبالأرقام من خلال المؤتمرات الصحافية الرسمية للبيت الأبيض، أو وزارتي الخارجية والدفاع الأميركيتين.
القيادة الأميركية لم تتطرق إلى أي حديث عن مباحثات عراقية أميركية تمت فيها المصادقة على إرسال “القوة الجاهزة للضرب”، إنما تحدثت عن الأوامر المباشرة للرئيس، وفي هذا إحراج متكرر للمسؤولين العراقيين الذين يدافعون عن بقايا ماء وجوههم كقادة وزعماء لدولة “مستقلة”.
الأميركان من جانبهم بعد كل مطب يوقعون به حلفاءهم العراقيين يذهبون إلى صحة التصريحات العراقية بما يعطي الانطباع بالإهانة المتعمدة التي يراد منها التذكير دائما بأن أميركا هي من صنعت منهم قادة في معامل مخابراتها ومنطقتها الخضراء فيما بعد، وأن كل ما يجري من غزل معلن مع العشيق الإيراني إنما هو تحت إشرافها وما تسمح به وما تريده أيضا.
من زاوية أخرى يتلاءم السلوك الأميركي مع لغة العقاب المفترض أن تكون ناجزة بحق الحكومة العراقية، وهي امتداد لحكم حزب الدعوة وحكومة نوري المالكي التي وفرت لتنظيم داعش إمكانية الاستيلاء على المعدات المتطورة والأسلحة الأميركية في عار هزيمة الموصل في العام 2014 وتسليم المدينة وأقضيتها ونواحيها وأهلها وأقلياتها الدينية والإثنية، بما في ذلك من جرائم وإبادات وتفاصيل، وأيضا تسليم قاعدة القيارة الجوية دون قتال.
كلها عوامل ضغط سياسي تجد لها في فترة الانتخابات الرئاسية الأميركية نوافذ مهشمة يدخل منها معارضو السياسة الخارجية لأوباما أو لسياسة الحزب الديمقراطي عموما، لشن هجومهم الانتخابي وهي إدانات موجبة يحاول الرئيس أوباما، كما يبدو، بقرار الإسراع في حسم معركة الموصل، فرش السجادة الحمراء لمرشحة حزبه هيلاري كلينتون في طريقها إلى رئاسة البيت الأبيض بثقة ونجومية تحت قوة الضرب والردع الأميركية الجاهزة.
العبادي من جانبه يتابع بنشاط فائض وحيرة ما يجري أمام مرمى سيادته الوطنية، ليكون جاهزا للرد، لإقناع الأميركيين أولا بحجم ورطة حكم العراق في ظل حقيقة لا يمكن أن تغيب عن ذاكرة العراقيين وتاريخهم وهي أن التغيير الذي حصل في 2003 كان بإرادة الاحتلال، وأن العملية السياسية بأحزابها وشخوصها كانوا مجرد عملاء ولصوص صغار وكبار وخونة ومنتفعين.
هذه الحقيقة لا يمكن أن يتناساها أي حاكم يخضع لمجموعة تحالفات أدت إلى الاحتلال وما تلاه من ويلات استهدفت حياة وكرامة المواطنين ومصيرهم المشترك.
هل ستكون قاعدة القيارة، بمثابة أنجرليك العراقية، لأهمية موقعها وقربها من مركز الموصل، بما يخص العمليات العسكرية وكذلك مساحتها ومدرجاتها وبرج المراقبة وكافة المنشآت التي ستعاد إلى الخدمة بعد وصول طاقم المهندسين والشركات المختصة بالترميم وبناء القواعد.
قاعدة القيارة هي واحدة من مجموعة قواعد جوية كانت منتشرة في معظم الأراضي العراقية وساهمت بإدامة زخم السلاح الجوي في الحرب الإيرانية العراقية، وتعرضت للتدمير في حرب الخليج عام 1991 وحرب احتلال العراق عام 2003.
ماذا لو كانت لأميركا قواعد عسكرية في العراق، على غرار قواعدها في 130 دولة ويقارب عددها الألف، هل كان حصل ما حصل من تداعيات ما قبل الاحتلال ثم الاحتلال، وهل كان يشكل ذلك خرقا لسيادة العراق وكرامته الوطنية؛ ومنها ما أفرزته نتائج الحرب العالمية الثانية، كالقواعد الأميركية في اليابان وألمانيا وكوريا الجنوبية، ورغم الاستياء الذي يولده الشعور القومي أو بعض آثار وجود القواعد، لكننا لمسنا قبل فترة قصيرة ردة الفعل السلبية لتلك الحكومات بعد ما تردد في الأوساط الأميركية من رغبة في إلغاء تلك القواعد لكلفتها على الاقتصاد الأميركي؛ وضمن القياسات الوطنية التقليدية كان المتوقع أن ترحب تلك الدول بإزالة القواعد من أراضيها، لكنها شعرت بالصدمة لفقدان حجم الضمانات الأمنية وأثرها في التوازنات الدولية.
السفارة الأميركية في العراق هي أكبر قاعدة عسكرية في العالم يعمل فيها 17 ألف موظف، ومبرراتهم جاهزة “لأغراض وتطوير الكوادر العراقية”.
أميركا تضع الجمل المناسبة التي تملأ الفراغ المناسب في قراءة ما يغضب الشعوب ويستفزها، وهي تعلم تاريخ البغض للاستعمار والإمبريالية في العراق والمنطقة، وكلمة قاعدة عسكرية أميركية في العراق إلى وقت قريب، وربما حتى الآن، تثير مشاعر الاشمئزاز عند الشعب، وهذا ما يجعل الحكام حتى من عملاء الاحتلال وخدم ولاية الفقيه يتوجسون لأسباب مختلفة من إنشاء القواعد العسكرية، رغم أنهم يعلمون أن منطقتهم الخضراء، في حقيقة الأمر، قاعدة عسكرية أميركية أو مركب الإنقاذ وفريق النجدة في الملمات المحتملة المحيطة بهم.
العراق حسب خارطة توزيع النفوذ للبنتاغون يقع ضمن القيادة العسكرية الوسطى وهي واحدة من خمس قيادات تنتشر على مساحة الأرض، لكن العراق بعد الاحتلال الأميركي أصبح بكل حدوده الجغرافية قاعدة عسكرية تنطلق منها أطماع ومخططات التقسيم ورسم سياسات المستقبل وما أخطرها؛ وكانت لخروج المحتل بالاتفاقية الأمنية مع حكومة المالكي نتائج مروعة لتعدد الولاءات وتقاسمها بين أميركا وإيران.
القواعد العسكرية تؤدي مهمات لا حصر لها، ولا تظن دولة ما أنها تحتفظ بسيادتها الوطنية والقومية وأسرارها الخاصة لأنشطتها بمجرد أنها لا تمتلك على أرضها قواعد أجنبية، لأن مهمات القواعد العسكرية ما عادت تقتصر على الأبنية والثكنات والجنود، بل هي وسائل وأجهزة اتصال حديثة للتنصت والتجسس واختراق كل المعلومات ومنها ما يعتقد أنها سرية جدا.
يكفي التلميح إلى المناورات الأميركية المتعددة منذ الثمانينات، وكانت للتدريب على معارك الصحراء وعواصفها اللاحقة.
حامد الكيلاني
نقلا عن العرب اللندنية