هل تستطيع الطبقة الوسطى تجاوز عثرتها في إيران؟

هل تستطيع الطبقة الوسطى تجاوز عثرتها في إيران؟

فرضت التطورات التي أفرزتها الثورات العربية اهتماما خاصا بالطبقة الوسطي التي مثلت إحدى قوى تغيير معظم أنظمة دول المنطقة، سواء أكان ذلك من خلال ثورة طالبت بإسقاط هذه النظم، أم من خلال إجراءات إصلاحية احترازية اتخذتها بعض الدول تجنبا لحدوث مثل هذه الثورات.

في حين أن محاولات التغيير التي قادتها هذه الطبقة لم تلق كلها النجاح، ولعل أبرز مثال في هذا الصدد هو إخفاق ما اصطلح عليه بـ “الثورة الخضراء” في إيران عام 2009، عقب الإعلان عن نتائج الانتخابات الرئاسية، وفوز الرئيس السابق، محمود أحمدي نجاد، بولاية ثانية، حيث قوبلت التحركات الشعبية في هذا الوقت بتحركات أمنية، واعتقالات واشتباكات أسفرت عن قتلى.
وعلى الرغم من أن مظاهرات “أين صوتي؟” التي قادها الشباب في هذا الوقت قد أُخمدت بعد فترة ليست بالطويلة، ولم تتجدد حتى الآن بالوتيرة ذاتها، فإن ثمة تغيرا قد تمثل في فوز الرئيس المعتدل، حسن روحاني، المحسوب علي التيار الإصلاحي، عقب فترة من سيطرة الجناح المتشدد من التيار المحافظ بقيادة أحمدي نجاد، قادت البلاد لمزيد من العزلة دوليا وإقليميا، وعدم الاستقرار الداخلي، وفُرض فيها مزيد من القيود على الحريات.
التغيير الذي مثله انتخاب روحاني يمكن أن يُحسب لتحركات الطبقة الوسطي، وفي القلب منها فئة الشباب التي تعاني البطالة، في ظل كساد اقتصادي يعم البلاد، فضلا عن تأثره الشديد بحالة التضخم، وارتفاع أسعار السلع الأساسية.
 ويرى مراقبون أن احتجاجات عام 2009 تمثل نقطة بداية التغيير في تغير ديناميات السياسة في إيران، وأنه سيكون للطبقة الوسطى في هذا التغيير مكانة واضحة، وإن كانت وتيرته بطيئة، نظرا لمقاومة النظام الإيراني ومحاولته تحييدها. ومن ثم، يحاول المقال إلقاء الضوء على أهم ملامح الطبقى الوسطى في إيران، وفي القلب منها الشباب، وأسباب تراجع الدور السياسي للطبقة الوسطي، ومستقبلها المتوقع.
الطبقة الوسطى والتغير البنيوي
تشير التقديرات إلى أن الطبقة الوسطي في إيران هي الأكبر من حيث الحجم، حيث تبلغ 60 % من المجتمع، حيث شهد تكوين هذه الطبقة بشرائحها المختلفة عددا من التطورات، منذ نجاح الثورة الإسلامية عام 1979، لاسيما بعد تعرضها لضغوط ومحاولات استيعاب من أنظمة ما بعد الثورة مباشرة، مرورا بتعرضها لضغوطات الحرب مع العراق، والأزمة الاقتصادية الناتجة عن العزلة الدولية التي فرضت على إيران، وانتهاء بالقيود على الحريات التي تعانيها هذه الطبقة حاليا.
ولعبت الطبقة الوسطى في إيران ما قبل الثورة الإسلامية دورا كبيرا في إنهاء حكم الشاه. فعلى الرغم من أن الفئة العظمى من الطبقة الوسطي التي دعمت الثورة، وتظاهرت لإسقاط الشاه كانت من الشباب الحاصل على التعليم العالي من الغرب، فإن أسبابا عدة قد دفعته لتبني موقف حاسم من إنهاء عهد الملكية في إيران.  ويلاحظ، من خلال الصور الفوتوغرافية التي رصدت الثورة الإيرانية في 1979، أن مظهر الشباب المتظاهر من الجنسين ينتمي لفئة متعلمة منفتحة على العالم، وهي صورة لا تعكس وضع الطبقة الوسطي الحالية في إيران، والتي اختلف مظهرها كثيرا نتيجة لاختلاف عادات المجتمع، وفرض قيود على ملابس النساء، وتأثر مظهر الرجال بالحالة الاقتصادية للبلاد، عقب سنوات طويلة من العقوبات الدولية على الاقتصاد الإيراني، والتي يجمع بشأنها الخبراء على أن الفئة الأكثر تأثرا منها هي أفراد الطبقة الوسطى.
وعمل النظام الإيراني، كغيره من أنظمة المنطقة، على “تدجين” الطبقة الوسطى، من خلال تقديم الرعاية الحكومية لها، وبالتالي فرض هيمنته عليها عبر حملات الدعاية السياسية في أنظمة التعليم، وفرض تغيير ثقافي نجح في تحقيقه بالإجبار تارة، وبالإقناع والحديث عن الدين، والهوية الوطنية تارة أخرى، فضلا عن ضمان وجود موالين من الجهاز البيرقراطي، وتشبيك مصالحهم مع مصالح النظام السياسي والاقتصادي. غير أن الضغوطات الاقتصادية والاجتماعية، والإفراط في الترويج للشعارات الثورية خلفا حالة من السخط لدى فئة الشباب، والتي تشير إحصاءات عام 2012 إلى أن ما يعادل 65 % من السكان هم من الشباب، من بينهم 45 % دون سن الـ 20 عاما.
انعكست هذه الحالة من السخط والرغبة في الفكاك من القيود الاجتماعية المفروضة على هؤلاء الشباب في المطالبة بقدر أكبر من الحرِيات السياسية، وتقليل القيود المفروضة من قبل الحكومة، وإعادة النظر في السياسات الاقتصادية غير العادلة، والتي نتج عنها حالة واضحة من الطبقية في المجتمع الإيراني، فكانوا الفئة الأنشط بين الفئات المكونة للطبقة الوسطى. وقد برزت هذه المطالب في العديد من التحركات الشبابية منذ عام 1999، حيث قام طلبة الجامعات بمظاهرات للتعبير عن مطالبهم بتغيير السياسات الاقتصادية للحكومة، ثم تظاهرات 2003 في عدد من الجامعات الإيرانية في طهران، وأصفهان، وشيراز على خلفية الحديث عن خصخصة الجامعات، وللمطالبة بإصلاحات ليبرالية، كما برزت تظاهرات عام 2005، بهدف مساندة الإصلاحيين في الانتخابات الرئاسية، وأخيرا في 2009 للتعبير عن الاعتراض على فوز الرئيس محمود أحمد نجاد بفترة رئاسة ثانية.
أسباب تعثر دور الطبقة الوسطى: 
مع التسليم بأن الدور الذي لعبته الطبقة الوسطي في إيران ما قبل الثورة قد تراجع خلال السنوات الـ 36 الماضية، فإن هناك عددا من العوامل التي أسهمت في تراجع الدور والتأثير السياسي لهذه الطبقة، ومن بينها:
– انعزال الطبقة الوسطى في إيران عن الطبقة الدنيا: وتركيزها على مكتسبات الطبقة العليا التي يراها المنتمون للطبقة الوسطى، الفئة الأقل تأثرا بالحالة الاقتصادية للبلاد، وأن أبناء هذه الطبقة لديهم من السبل ما يمكنهم من التحايل على القيود المفروضة على المجتمع داخليا، والعقوبات خارجيا.
ولعل الجدل الذي أثاره أخيرا حساب “Rich Kids of Tehran” على موقع “انستجرام” قد أوضح مدى شعور أبناء الطبقة الوسطى، لاسيما من الشباب بطبقية المجتمع الإيراني، بعد أن أظهر الحساب تمتع أبناء النخبة الإيرانية السياسية والاقتصادية بمستوى حياة لا يتناسب في مظهره مع الوضع الاقتصادي المأزوم للبلاد، ولا في مضمونه مع القيود المفروضة على المجتمع، وعلى رأسها تقييد حرية الإنترنت، وعدم السماح بوجود حفلات صاخبة تجمع بين الجنسين، وهو ما تثبت الصور المنشورة على الحساب عكسه تماما، حيث السيارات الفارهة، والقصور، والملابس القيمة.
وفي الوقت الذي يشكو فيه المواطنون الإيرانيون المنتمون للطبقات الوسطى والدنيا من الآثار السلبية للعقوبات الاقتصادية، فإن النخبة السياسية والاقتصادية قد استفادت من العقوبات، حيث حقق الكثير من الأثرياء أرباحا طائلة من خلال شراء الدولار بالسعر الذي فرضته الحكومة الإيرانية، كإجراء لتحسين وضع الريال الإيراني مقابل الدولار، ومن ثم بيعه بضعف السعر في السوق السوداء.
وقد أدى انعزال الطبقة الوسطى عن الطبقة الدنيا إلى غياب أطر للتواصل بين الطبقتين، أو بالأحرى تفهمها لمتطلبات الطبقة الدنيا، وأولوياتها الحياتية، فكانت النتيجة عدم انضمام الطبقة الدنيا والفقراء إلى الطموحات السياسية للطبقة الوسطي، وبدا ذلك في غياب أغلبية المنتمين للطبقة الدنيا والفقراء عن فعاليات “الثورة الخضراء” –حسب العديد من الخبراء- إذ انشغلت الطبقة الدنيا بنضال من نوع آخر، هو كسب العيش اليومي.
 فيما حاول النظام الإيراني كسب تعاطف المنتمين للطبقة الدنيا عبر تقديم دعم مادي وتوزيع مجاني لبعض السلع التي عملت الحكومة علي تقديمها للفقراء، عقب رفعها التدريجي للدعم عن أغلب السلع الأساسية. وكانت هذه المنح العينية والأموال موضع ترحيب من الطبقة الدنيا، فيما لم تحدث فارقا بالنسبة لكثير من الإيرانيين في المناطق الحضرية المرتفعة الأسعار، والذين يشكلون ما يقرب من ثلاثة أرباع السكان، وهي سياسة عادة ما تؤتى ثمارها في المنطقة ككل، وإيران ليست استثناء منها، وقوامها استغلال نقاط الضعف الاقتصادية لتوطيد السلطة السياسية.
كما كان انعزال فئة الشباب من الطبقة الوسطى عن مثيلتها في الطبقات الأدنى واضحا، حيث اعتمد الشباب خلال احتجاجات 2009 على وسائل التواصل الاجتماعي، والـ sms على الهواتف المحمولة للحشد، وتبادل المعلومات حول مواعيد التظاهرات، وأماكن التجمعات والتحرك، حتى مع القيود التي فرضها النظام على هذه الوسائل، من خلال الولوج إلى مواقع التواصل، عبر بروكسي خارجي، الأمر الذي زاد من الهوة بين القادرين على استخدام هذه التقنيات من شباب الطبقة الوسطى، والشباب الذي لم يتيسر له استخدام واقتناء هذه الوسائل.
– عدم إدراك الطبقة الوسطى لحدود المعركة التي دخلتها مع النظام، وأي جبهة تحارب. فعندما استعادت الطبقة الوسطى حركتها على الأرض، وسعت لفرض مطالبها من خلال احتجاجات “أين صوتي؟”، مثلها في ذلك مثل من قاموا بعد ذلك بالثورات العربية في المنطقة، غاب عن ذهنها الخطة البديلة، والتخطيط للتحرك التالي، حيث إن النظام الإيراني، الذي عانى العزلة على مدى 36 عاما، قد استطاع فرض سيطرته على الداخل بشكل كبير. وإذا كانت العقوبات قد أثرت بشكل ما في شعبيته، فإنها لم تستطع التأثير في قبضته على مقدرات المجتمع سياسيا واقتصاديا حتى الآن على الأقل. فقد أدت حالة العزلة التي عانتها إيران إلى ترسيخ حالة شبيهة بالاحتكار الاقتصادي للحرس الثوري الإيراني، وتقليص فرص القطاع الخاص. وخلقت هذه الحالة من الاحتكار مصالح اقتصادية كبرى للحرس الثوري لا يمكنه التنازل عنها بسهولة، وذلك إلى جانب وظيفته الأساسية في حماية الثورة، إلى حماية النظام الإيراني في مجمله. ومن هنا، يمكن تفسير خطوات الحرس الثوري الإيراني الاستباقية لفض المظاهرات في مراحلها التحضيرية، وذلك باستخدام القوة للقضاء على من عدّه مثيري الشغب.
وبعكس الصمود الذي أبداه من قاموا بالثورة على نظام الشاه لمدة 14 شهرا، فلم تستطع “الثورة الخضراء” الصمود لفترة طويلة، عندما غيب الاعتقال قادة الثورة، وعددا ممن اشتركوا في احتجاجاتها، مما يشير إلى غياب استراتيجية واضحة للتغيير الذي طالبت به “الثورة الخضراء”.
فحسب تقرير شبكة العمل الدولية للمجتمع المدني (ICAN) الصادر عام 2012 ، فإن العقوبات المفروضة على إيران من قبل الغرب تعمل في جانب من آثارها السلبية على المجتمع الإيراني على تقليل فرص التغيير الاجتماعي والسياسي في إيران، حيث تشكل العقوبات سببا للالتفاف حول النظام في كثير من الأحيان بدلا من مهاجمته) (. وهي وجهة نظر عبر عنها استطلاع للرأي، أجرته مؤسسة جالوب لأبحاث الرأي العام، نشرت نتائجه خلال شهر نوفمبر 2013، حيث أظهرت هذه النتائج أن غالبية الإيرانيين بنسبة 85% يرون أن الحظر الدولي المفروض على بلادهم بسبب المشروع النووي وجه أضراراً مباشرة على حياتهم، مقابل 12% من المستطلعة آراؤهم يرون أن العقوبات الدولية لم تترك تأثيراً على حياتهم. وبرغم تأكيد الأغلبية تأثر نمط حياتهم بالعقوبات على بلادهم، فقد أكد 68 % من المشاركين في الاستطلاع ضرورة الاستمرار فى المشروع النووي، فيما ألقى 46 % من المشاركين في الاستطلاع اللوم على الولايات المتحدة والغرب، مقابل 13% رأوا أن النظام الإيراني هو الذي المتسبب في معاناتهم.
هل من تغيير محتمل؟
اعتمدت القاعدة الانتخابية للرئيس حسن روحاني في الأساس على فئة الشباب المنتمي للطبقة الوسطى الأكثر تأثرًا بسياسات الرئيس السابق، أحمدي نجاد، حيث أبدت هذه الفئة دعمًا واضحًا للرئيس روحاني بعد فوزه في الانتخابات الرئاسية عام 2013، والتي لا تزال في انتظار تحقيق الرئيس اختراقات في الملفات ذات الأولوية بالنسبة لها، مثل ملف الاقتصاد، والعدالة الاجتماعية، والحريات العامة.
 غير أن ثمة تحديات أمام تحقيق تطلعات هؤلاء الشباب. فطبقا لتقديرات مركز الإحصاء الإيراني الصادرة في 30 مايو 2014 ، فإن معدل البطالة لدى الشباب (بين 15 و24 عاما) قد بلغ 24 %، وأن 1.1 مليون شخص من خريجي الجامعات سيدخلون سوق العمل، ولا تتوافر لهم فرص عمل، إضافة إلى 4.5 مليون طالب جامعي سيتخرّجون عن قريب، أي أنه من المفترض توفير 5.6 مليون فرصة لعمل لمتعلمين باحثين عن عمل.
ويمثل هذا المعدل العالي من البطالة الحالية والمتوقعة حجر عثرة أمام استقرار الحياة السياسية الإيرانية، لاسيما في ظل تحفز معظم فئات المجتمع، بدا ذلك في الهتافات التي سعت لقطع خطاب الرئيس الروحاني أثناء إلقائه كلمة بمناسبة يوم الطالب في ديسمبر 2014، حيث قاطعه بعض الطلاب بهتافات مؤيدة لقادة “الثورة الخضراء”.  غير أن الحديث الذي دار بين روحاني والطلاب يشير إلى أن سقف توقع الطلاب من الرئيس لا يزال مرتفعا، حيث رد روحاني على جملة أطلقها طالب “سيدي الرئيس أنت وعدت”، بقوله “لا يمكننا النكوث بوعدنا”.
ولعل جهود روحاني في المجال الاقتصادي، ومحاولته السيطرة على المستوى القياسي للتضخم، وارتفاع الاسعار قد حافظت على رصيده لدى المواطنين، وإن كانت جهوده لم تحقق طموحاتهم بعد. كما صب خلافه الواضح والمعلن مع أجهزة الدولة العميقة، خاصة السلطتين القضائية والتشريعية، اللتين يسيطر عليهما التيار المتشدد بشأن ملف الحريات، في مصلحة روحاني. وبالتالي، فإنه من المرجح أن يتسم الحراك السياسي الذي يسعى الشباب لترسيخه في المجتمع، وكذلك الطبقة الوسطى، بالسلمية، والعمل على الأرض، ومحاولة تهيئة الأجواء لإصلاحات سياسية حثيثة، وإن كانت بطيئة.
ففي تصريح له، عقب الإعلان عن نتائج الانتخابات الرئاسية الإيرانية العام الماضي، أشار علي ربيعي، وزير العمل، مستشار الأمن للرئيس الأسبق، محمد خاتمي، “إلى ظهور طبقة وسطى متميزة في إيران لا تنتمي بالضرورة إلى الطبقة العليا اقتصاديا، تتمثل في طبقة وسطى ثقافية تسعى إلى أن تكون في طليعة موجة التغيير في إيران”، مستفيدة من التجارب السابقة، وتحاول الانخراط المجتمعي، من خلال نقل معتقداتها إلى مجموعات أخرى في المجتمع، بما في ذلك “الطبقة الدنيا”.
وربما كان تحرك التيار الإصلاحي ناحية الطبقة الوسطى بشكل واضح، خلال وبعد احتجاجات 2009، دليلا على الاهتمام بتشكيل طبقة وسطى جديدة فاعلة يمكن أن تقود التغيير مستقبلا، لاسيما أن التيار الإصلاحي قد أدرك أهمية الانخراط في التعامل مع العمال، والطبقة الدنيا بشرائحها المختلفة بهدف تعزيز حضوره على الساحة، استيعابا للفجوة التي شهدتها احتجاجات يونيو 2009، وكانت أحد أسباب إخفاقها.
رانيا مكرم
مجلة السياسة الدولية