يبدو أن تراجع النفوذ وتقلص مساحة الأراضي التي كان يسيطر عليها تنظيم “داعش” في العراق وسوريا وليبيا، قد دفع التنظيم إلى البحث عن وسائل دعوية جديدة لتجنيد مزيد من العناصر المتطرفة، ومنها استخدام الألعاب الرياضية، التي كان يحرمها في الماضي، باعتبارها “تدفع ممارسيها إلى العزوف عن تأدية الواجبات الدينية والمداومة على الصلوات”، مما جعله يفرض عقوبات ضد بعضهم، إلا أنه بدأ، خلال الفترة الأخيرة، في إجراء تغيير في السياسة التي يتبناها تجاه ممارسة الرياضة، حيث سمح بممارستها لكن وفق قواعد جديدة قام بوضعها بعض كوادره.
وتمثل لعبة كرة القدم نموذجًا لذلك، حيث سمح التنظيم بممارستها لكن مع إلغاء التحكيم فيها، لأن قواعد الاتحاد الدولي لكرة القدم “الفيفا” لا تتوافق، في رؤيته، مع أحكام الشريعة الإسلامية، حسب ما أشارت إليه بعض التقارير. ومن دون شك، فإن ذلك في مجمله يطرح تساؤلات عديد حول قدرة التنظيم على إجراء تغيير في توجهاته الفقهية من أجل التعامل مع الضغوط التي يتعرض لها بسبب الضربات العسكرية التي تشنها أطراف دولية وإقليمية عديدة ضد مواقعه وعناصره في الدول الثلاث.
واللافت في هذا السياق أن تنظيم “داعش” لم يكن أول تنظيم متطرف يتجه إلى استخدم الرياضة كإحدى الوسائل الدعوية التي يحاول من خلالها تجنيد مزيد من العناصر البشرية لتعويض الخسائر التي يتعرض لها، خاصة أن هذه الآلية قديمة، وسبق أن استخدمتها تيارات دينية عديدة لتوسيع نطاق قاعدتها الاجتماعية، حيث كان يتم تنظيم ملتقى رياضي أسبوعي بعنوان “اليوم الإسلامي”، تجري خلاله بعض المسابقات الرياضية في الألعاب المختلفة، من أجل جذب أكبر عدد من الشباب.
سن التجنيد
تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن الفئات العمرية المستهدفة في ذلك اليوم تتمثل في الشريحة العمرية ما بين سن (14) إلى سن (19)، وهى المرحلة العمرية التي تعرف في أدبيات هذه التيارات باسم “سن التجنيد”، لأنها المرحلة العمرية التي يسهل جذب أفرادها إلى هذه التنظيمات، نظرًا لأنها مرحلة تتسم بـ”الاندفاعية” في مختلف مناحي الحياة، وهو ما يبدو أنه دفع تنظيم “داعش” إلى استدعاء هذه الفكرة من جديد لدورها المحوري في تجنيد مزيد من العناصر البشرية، لتعويض خسائره التي فرضتها الضربات العسكرية التي يتعرض لها في أكثر من منطقة.
ويقوم بعض كوادر وعناصر التنظيم، وفقًا لتقارير عديدة، بتحديد العناصر المستهدفة للانخراط في صفوفه، حيث تتم دعوتهم لممارسة الألعاب الرياضية المختلفة من أجل متابعتهم بشكل جيد، لا سيما أن الملاعب الرياضية لا تحظى، في الغالب، باهتمام ومتابعة السلطات الأمنية، بشكل يساعد التنظيم على تحديد العناصر التي يمكن الاعتماد عليها، ودعوتهم للانخراط ضمن صفوفه للمشاركة في العمليات التي يقوم بها في العراق وسوريا وليبيا وغيرها. وتعتبر لعبة كرة القدم هى الأكثر شعبية في تلك المناطق، حيث سعى التنظيم إلى استغلالها في هذا السياق، لكن وفق قواعد جديدة، على غرار الإقرار بإمكانية أن يطالب اللاعب المصاب بالتعويض أو يقوم بالانتقام من الخصم.
عوامل متعددة
يمكن تحديد أهم الأسباب التي دفعت التنظيم إلى الاستعانة بالألعاب الرياضية كآلية للتجنيد، وذلك على النحو التالي:
1- تعويض النقص في أعداد المقاتلين: تشير اتجاهات عديدة إلى أن أعداد عناصر تنظيم “داعش” تتراجع باستمرار، لا سيما في مناطق نفوذه في العراق وسوريا، بسبب تعدد الجبهات التي يقاتل فيها، وتوالى الضربات العسكرية التي يتعرض لها، أو بسبب الضربات الأمنية المتلاحقة لفروعه المنتشرة في مناطق عديدة من العالم، وهو ما يدفع التنظيم إلى الحرص على استخدام كل الوسائل المتاحة أمامه من أجل تعويض هذا النقص الذي يمكن أن يفرض تداعيات سلبية خطيرة على التنظيم على المدى البعيد، وذلك بغض النظر عن مدى توافقها أو تعارضها مع أفكاره وتوجهاته.
2- الحرص على جاذبية الآلية: يمكن القول إن استخدام تنظيم “داعش” للألعاب الرياضية وخاصة كرة القدم بما لها من شعبية جارفة، يأتي في سياق رغبة التنظيم في تبني وسائل جديدة تحظى بجاذبية خاصة لدى الشباب، حتى يتمكن من ضم بعضهم إلى صفوفه، لا سيما أن هناك عناصر لا يمكن، حسب رؤية اتجاهات عديدة، ضمهم إلى التنظيمات المتطرفة عبر وسائل الدعوة التقليدية من خطب ومواعظ وفتاوى، وإنما يمكن ضمهم من خلال دعوتهم بوسيلة يقبلون عليها مثل الرياضة، وهو ما يعرف في أدبيات الدعوة لدى التيارات المتطرفة باسم “مفتاح الشخصية”، الذي يشير إلى البحث عن الآلية التي يمكن من خلالها استقطاب عدد أكبر من العناصر البشرية التي يمكن أن تشارك في العمليات الإرهابية التي يقوم بها التنظيم.
وبعبارة أخرى، يمثل اتجاه تنظيم “داعش” إلى دعم ممارسة الألعاب الرياضية على نطاق واسع في حدود الأراضي التي يسيطر عليها، محاولة من جانبه لاستحداث أنماط ووسائل دعوية جديدة، وتجاوز الأنماط الدعوية التقليدية، التي لم تعد تحظ باهتمام واسع من جانب قطاع واسع من القاطنين في تلك المناطق التي يسيطر عليها.
3- الغاية تبرر الوسيلة (الضرورة): في ظل الضغوط والضربات العسكرية المتلاحقة التي تتعرض لها مواقع وعناصر تنظيم “داعش”، والتي جعلته يعانى من حالة تراجع ملحوظ على كل المستويات، اضطر التنظيم إلى استخدام مبدأ “الغاية تبرر الوسيلة”، على غرار بعض التنظيمات الإرهابية الأخرى، حيث لم يمثل “تناقض الفتاوى” مشكلة كبيرة بالنسبة لـ”داعش”، الذي كان يمنع ممارسة الألعاب الرياضية ويقوم بفرض عقوبات على ممارسيها، إلا أنه اتجه إلى تغيير تلك السياسة، حيث بدأ في الاهتمام بتنظيم مسابقات رياضية وحث كوادره وعناصره وبعض المتعاطفين مع توجهاته وأفكاره على المشاركة فيها، بعد أن كان يحرم تلك الأنشطة بشكل صارم، لدرجة أنه قام، في عام 2015، بقتل 13 صبيًا في مدينة الموصل العراقية بسبب مشاهدتهم لمباراة كرة قدم، كما أقدم على قتل 4 لاعبين كرة قدم من فريق الشباب السوري في مدينة الرقة، في يوليو 2016، بسبب اتهامهم بالتجسس لصالح “وحدات حماية الشعب الكردية“.
4- تخفيف حدة القيود تجاه المواطنين: يبدو أن التنظيم يسعى من خلال تبني تلك الآلية إلى تقليص حدة الاحتقان المجتمعي في المناطق التي يسيطر عليها في سوريا والعراق، وهى المناطق التي بدأت تشهد حالة من التراجع في شعبيته، بسبب الإسراف في فرض قيود شديدة على القاطنين في تلك المناطق، عبر الإجراءات الصارمة التي أصبحت تمنع كثيرًا من الأنشطة الاجتماعية، التي تحظى بشعبية واسعة في تلك المناطق.
إن ما سبق في مجمله يشير إلى أن تنظيم “داعش”، على غرار التنظيمات الإرهابية الأخرى، يسعى دائمًا إلى استغلال كل الآليات المتاحة أمامه لتحقيق أهدافه وتقليص حدة الضغوط التي يتعرض لها بسبب الضربات العسكرية التي تشنها أطراف عديدة دولية وإقليمية ضد مواقعه، لا سيما في سوريا والعراق وليبيا، وهو توجه يبدو أنه سوف يستمر خلال المرحلة القادمة، في ظل تراجع أعداد العناصر الإرهابية التي تنضم للتنظيم، سواء بسبب القيود التي بدأت تفرضها كثير من الدول على انتقال بعض مواطنيها إلى المناطق التي يسيطر عليها التنظيم، أو بسبب تصاعد حالة الاستياء المجتمعي في تلك المناطق، أو بسبب الضربات العسكرية التي يتعرض لها.
مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة