كيف كانت اقتصادات بلدان أوروبا الشرقية قبل 1989 وقبل سقوط الأنظمة الاشتراكية الشمولية؟ لا تزال مظاهر تلك الحقبة قائمة على رغم مرور أكثر من ربع قرن على نهاية الأنظمة الاشتراكية في تلك البلدان، ومنها مظاهر المباني السكنية التي تحوي شققاً صغيرة المساحة وتقطنها غالبية سكان المدن الصغيرة والكبيرة في بلدان مثل بولندا وهنغاريا ورومانيا وبلغاريا وتشيخيا وسلوفاكيا.
لا شك في أن تطبيق نظام الحزب الواحد سياسياً والنظام الاشتراكي في تلك البلدان كان نتاجاً لما أسفرت عنه الحرب العالمية الثانية بعد تحرير تلك البلدان من الاحتلال الألماني النازي وبعد توغل الجيش الأحمر السوفياتي في تلك البلدان وإخضاعها لهيمنة حلفائه من الأحزاب الشيوعية فيها. تلك البلدان، أو عدد منها مثل تشيخيا وبولندا وهنغاريا، كانت بلداناً ذات أنظمة ديموقراطية حرة قبل الحرب وعملت اقتصاداتها وفق قوانين السوق الحرة والنظام الرأسمالي في شكل عام. كذلك تمتعت شعوبها بقدرات مهنية مناسبة إذ كان التعليم متميزاً وموازياً لما كان في بلدان أوروبية غربية مثل فرنسا والنمسا وألمانيا. ما حدث بعد الحرب العالمية الثانية مثّل تقييداً منهكاً لاقتصادات تلك البلدان بعد تقييد الحياة السياسية بأنظمة شمولية مستبدة.
تتفاوت أحجام اقتصادات هذه البلدان كما تتفاوت أحجام السكان فيها. بلغ الناتج المحلي الإجمالي في بولندا ما يقارب تريليون دولار في 2015 في حين بلغ عدد السكان 38.6 مليون شخص. لذلك يصل متوسط الدخل السنوي للفرد إلى 26 ألف دولار، وهو مستوى معقول بالمعايير العالمية. أما هنغاريا التي يبلغ ناتجها المحلي ما يقارب 265 بليون دولار وعدد سكانها لا يتجاوز 10 ملايين شخص، فيراوح متوسط دخل الفرد فيها حول 26.5 ألف دولار، وهو مقارب لدخل الفرد في بولندا.
وتشير المعلومات التاريخية إلى ان البلدين كانا من أفضل البلدان لجهة مستوى المعيشة والأداء الاقتصادي إبان الحقبة السوفياتية والحكم الاشتراكي. يضاف إلى ذلك ان البلدين صدّرا العديد من العناصر البشرية المؤهلة إلى الولايات المتحدة وبلدان أوروبا الغربية، وهي عناصر ساهمت في النشاط الأكاديمي والأعمال المتخصصة الأخرى في قطاعات اقتصادية عديدة. ويمكن ان نشير إلى ان هذا التراث الاقتصادي والقدرات المهنية ساهمت في عملية التحول الاقتصادي المهمة بعد سقوط النظام الاشتراكي في البلدين.
ومر البلدان بفترة انتقال مهمة خلال السنوات الخمس والعشرين الماضية وعززا دوريهما في الاقتصاد الواسع للاتحاد الأوروبي. فالاقتصاد الهنغاري يعتمد على قطاعات الزراعة والصناعة والخدمات التي تمثل مساهماتها كالتالي: 3.4 في المئة للزراعة و31.1 للصناعات التحويلية و65 في المئة للخدمات. وتبلغ صادرات البلاد ما يقارب من المئة بليون دولار سنوياً، وتشمل الآليات والمعدات الصناعية والمنتجات الغذائية والكهربائيات والوقود. أما البلدان التي تستقبل صادرات هنغاريا فهي ألمانيا والنمسا ورومانيا وإيطاليا وفرنسا وبولندا وتشيخيا.
وتبلغ قيمة الواردات إلى هنغاريا 96.8 بليون دولار تشمل الآليات والمعدات الصناعية والوقود والكهربائيات والمواد الغذائية والمواد الخام. وتتشكل البلدان المصدرة إلى هنغاريا أساساً من ألمانيا والنمسا وروسيا والصين وسلوفاكيا وبولندا وفرنسا وتشيخيا. ويعاني الاقتصاد الهنغاري من تراجع أداء الاقتصاد العالمي، والأوروبي في شكل خاص، ولذلك فإن معدل النمو في عام 2015 لم يتعدَّ 2.9 في المئة، وربما يتراجع هذا العام إلى مستوى يراوح بين 1.5 و2.0 في المئة.
ويمثّل الاقتصاد البولندي نموذجاً مهماً، فالبلاد من البلدان ذات الحجم السكاني المناسب وهي تعتمد على مساهمات في الناتج المحلي الإجمالي تبلغ 3.5 في المئة لقطاع الزراعة و34.2 في المئة لقطاع الصناعات التحويلية و62.3 في المئة لقطاع الخدمات. وتبلغ صادرات بولندا 168 بليون دولار وتشمل المعدات وآليات النقل والمنتجات شبه المصنعة والمواد الغذائية والماشية. وتتجه صادرات بولندا إلى ألمانيا وبريطانيا وتشيخيا وفرنسا وروسيا وإيطاليا وهولندا في شكل أساسي. وتبلغ قيمة الواردات البولندية 170 بليون دولار وهي تأتي من ألمانيا وروسيا وهولندا والصين وإيطاليا وتشيخيا وفرنسا. وتشمل الواردات المعدات ووسائط النقل والمنتجات شبه المصنعة والمواد الكيماوية والوقود.
يعتمد البلدان، هنغاريا وبولندا، على تصدير العمال إلى بلدان أوروبا الغربية، وتشمل بريطانيا، حيث توجد جاليات مهمة من أبناء البلدين في تلك البلدان وتساهم في قوة العمل هناك وفق قوانين الاتحاد الأوروبي وأنظمته. وربما كان لذلك الوجود دور مهم في تعزيز النزعات الشوفينية في بريطانيا وتأمين أرضية خصبة مكنت من تصويت البريطانيين لمصلحة الخروج من الاتحاد الأوروبي. ومهما يكن من أمر فإن النموذج الاقتصادي في كل من هنغاريا وبولندا يمثل صيغة ملائمة لعمليات الانتقال إلى الاقتصاد الرأسمالي بعد سنوات طويلة من الاقتصاد الشمولي.
عامر ذياب التميمي
نقلا عن الحياة