فاجأت وكالة الطاقة الدولية الأسواق بنقضها التوقعات والمعطيات السابقة حول إمكان تصحيح مسار أسعار النفط مع بداية النصف الأول من 2017، ثم مع بدء النصف الثاني. ففي تقريرها الشهري عن أسواق النفط، الذي صدر في 13 أيلول (سبتمبر)، تساءلت الوكالة: «متى سيعود التوازن إلى سوق النفط؟»، وأجابت: «هذا هو السؤال الكبير اليوم. كان متوقعاً أن تنخفض إمدادات النفط مع مستوى الأسعار الحالية، التي تتراوح حول 50 دولاراً للبرميل، إذ كان متوقعاً في ضوء هذا المستوى السعري، أن يزداد الطلب وتتقلّص الإمدادات. لكن الذي يحدث هو العكس، فازدياد الطلب في تباطؤ، بينما الإمدادات في ارتفاع. ومن ثم ارتفع المخزون النفطي لدول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية إلى مستويات قياسية».
وتشير الوكالة إلى أسباب هذه المستجدات، فازدياد الطلب في دول مستهلكة رئيسة، مثل الصين والهند، «يتذبذب»، فيما تعاني دول ناشئة أخرى مشاكل اقتصادية، فتقلّصت معدلات زيادة الطلب إلى نحو 1.3 مليون برميل يومياً لعام 2016. والصورة مرتبكة أيضاً في جانب العرض، فعلى رغم انخفاض الأسعار وتقليص الاستثمارات، يزداد الإنتاج النفطي العالمي، لكن ليس بالمعدلات العالية التي شهدها عام 2015، إذ تأثر سلباً المنتجون خارج «أوبك» الذين يتحملون تكاليف إنتاج عالية. وتوقف إنتاج 1.4 مليون برميل يومياً منذ بداية انهيار الأسعار في النصف الثاني من 2014. ويشكل انخفاض الإنتاج الأميركي، الذي كان المحرك الأكبر للإنتاج المتزايد من خارج «أوبك»، نصف هذا الانخفاض نظراً إلى تقلّص استثمارات الشركات.
لكن دول «أوبك» عوضت هذا الانخفاض، إذ زادت السعودية وإيران الإنتاج أكثر من مليون برميل يومياً لكل منهما منذ النصف الثاني من 2014، عندما عمدت «أوبك» إلى الدفاع عن حصصها في الأسواق بدلاً من الدفاع عن الأسعار. ورفعت زيادة إنتاج السعودية مكانة المملكة نفطياً على الصعيد العالمي، إذ فاق الإنتاج السعودي نظيره الأميركي، وأصبحت المملكة أكبر دولة منتجة للنفط في العالم. وشهدت دول «أوبك» التي تتمتع بتكاليف إنتاج منخفضة، ارتفاع إنتاج كل منها تقريباً إلى مستويات عليا. أما إيران، فاستطاعت زيادة إنتاجها بسرعة بعد رفع العقوبات الدولية ذات الصلة.
يرسل تقرير وكالة الطاقة رسالة واضحة: «إن ديناميكية العرض والطلب قد لا تتغير كثيراً في الأشهر المقبلة». وهكذا، سيستمر العرض أعلى من الطلب على الأقل خلال النصف الأول من 2017». و»سيستمر المخزون النفطي العالمي في ازدياده». و«ارتفع مخزون دول منظمة التعاون خلال تموز (يوليو)، إلى أكثر من 3.1 بليون برميل». و«بالنسبة إلى عودة التوازن إلى الأسواق، يتضح أن علينا الانتظار فترة أطول».
ما النتائج الممكن التوصل إليها من تقرير الوكالة؟
أولاً: انخفضت الأسعار قليلاً بعد صدور التقرير من نحو 49 دولاراً إلى 47 دولاراً. والأهم هو ردود فعل المتعاملين في الأسواق، إذ انخفضت توقعاتهم للنطاق السعري خلال النصف الأول لعام 2017، من نحو 50 – 55 دولاراً إلى نحو 40 – 50 دولاراً في أحسن الأحوال. ثانياً: «أوبك» مستمرة في نهجها الجديد للدفاع عن حصص دولها في الأسواق، بدلاً من مهمتها الأساسية وهي الدفاع عن الأسعار. وتبنت المنظمة السياسة الجديدة بعد انتشار التقنية الجديدة للحفر الأفقي الهيدروليكي لاستخراج النفط الصخري والاحتياطات الضخمة التي تنتج منه في الولايات المتحدة. فهناك صناعة نفطية جديدة تفرض نفسها على ميزان العرض والطلب واستقرار الأسواق، وعلى «أوبك» نفسها.
ثالثاً: على دول «أوبك» أن تتخذ موقفاً موحداً وتتبنى قراراتها المهمة بالإجماع وفق ميثاقها لتكسب دعم المنتجين من خارجها، فروسيا مستعدة للتعاون مع «أوبك» شرط اتخاذ المنظمة قراراً جماعياً حول الإنتاج.
رابعاً: تشير المشاورات السابقة للاجتماع غير الرسمي لوزراء «أوبك» في الجزائر خلال 26 – 28 أيلول، إلى استمرار الخلافات. لقد غيرت إيران مطالبها، فبدلاً من السعي إلى استقرار إنتاجها عند أربعة ملايين برميل يومياً، وهو المعدل الذي سجلته قبل العقوبات، تطالب حالياً بنسبة 15 في المئة من إنتاج «أوبك»، وأن تُستثنَى من قرار «أوبك» في اجتماع الجزائر، وهو أمر ترفضه معظم الدول الأعضاء الأخرى، ما يعني أن اجتماع الجزائر قد ينتهي من دون اتفاق. ولم تنجح مساعي الجزائر وفنزويلا لثني إيران عن موقفها نظراً إلى تداعياته السلبية الممكنة على الأسواق وعلى موقف روسيا من التعاون مع «أوبك».
خامساً: يشير تقرير آخر لوكالة الطاقة عن الاستثمار في النفط، صدر في 14 أيلول، وهو التقرير الأول من نوعه، إلى أن تقلص الاستثمارات في الصناعة النفطية وصل إلى معدلات قياسية وحرجة، إذ بلغ مجمل الاستثمارات في قطاع الطاقة نحو 1.83 بليون دولار في 2015، بتراجع 8.1 في المئة عن 2014. وحصل معظم التقليص في الاستثمارات في الاستكشاف والتطوير. وقال فاتح بيرول، المدير التنفيذي للوكالة، أن استمرار انخفاض الاستثمارات لسنة ثالثة في حال بقاء الأسعار متدنية، سيسجّل ظاهرة فريدة، إذ لم تنخفض الاستثمارات لسنوات ثلاث متتالية. وفي حال حصول هذا التقلص الاستثماري السنة المقبلة أيضاً، سيعني ذلك انخفاضاً ضخماً في الإمدادات النفطية في المستقبل المنظور، ستنتج منه طفرة كبيرة وسريعة لأسعار النفط.
سادساً: إن هذه المعطيات والتوقعات المتغيرة والمتقلبة، تشير، إن دعت الحاجة إلى دليل إضافي بعد سنتين من انخفاض الأسعار، إلى الوضع الحرج مستقبلاً لاقتصادات الدول النفطية، فاعتماد هذه الدول على منتج واحد أمر خطير يستدعي الإسراع في التنويع الاقتصادي.
وليد خدوري
نقلا عن الحياة