تخضع حلب حالياً للحصار مرة أخرى. ومرة أخرى، ثمة 300.000 مدني في الجزء الشرقي من المدينة الذي يسطر عليه الثوار، والذين يترتب عليهم تدبر أمر العيش بشق الأنفس، وحيث لا منتجات طازجة، ومع إمدادات غذاء متلاشية، بالإضافة إلى مصاعب الحياة الأخرى بالنسبة لأولئك في المعارضة السورية لنظام الأسد.
ويعني ذلك قنابل البراميل المتفجرة التي تدمر منازلهم وتدفن أطفالهم، والصواريخ التي تدمر مدارسهم ومساجدهم ومستشفياتهم.
تصاعد الحصار زاحفاً من دون أن يلاحظه أحد خلال الأيام العشرة الأخيرة قبل كتابة هذا التقرير؛ حيث أغلق النظام طريق الراموسة؛ طريق الإمداد الوحيد المفضي إلى البلدة القديمة، أولاً عبر القصف المكثف ثم بشن هجمات صاروخية مكثفة بعد أسابيع فقط من تمكن هجوم مضاد مباغت شنه الثوار من فتحه.
وعرض التلفزيون الرسمي يوم 27 آب (أغسطس) صوراً لهجوم صاروخي على عربات كانت تمر من ذلك الطريق، وقال أنها كانت تحمل “مرتزقة وعناصر مسلحة”. وبعد يومين وصل ناشطون إعلاميون من الثوار إلى المكان حيث وجدوا جثمان السائق عبده الرواس ملقى على قارعة الطريق مع شحنته المدمرة من الفواكه والخضراوات. ولم يستطع الناشطون العثور على جثمان عدنان، ابن الرواس البالغ من العمر 12 عاماً والذي كان برفقة والده. وهم يخشون أن يكون قد احترق جراء الهجوم بحيث لم يتبق له أي أثر.
مثل أي حصار آخر، سوف ينتهي حصار حلب عند نقطة ما، لكن السؤال هو: وفق أي شروط. وإذا كانت الحصارات الأخرى ضد بلدات تخضع لسيطرة الثوار يمكن أن تشكل دليلاً، فإن الشروط ستكون: خذ كل شيء أو اترك كل شيء: استسلم أو مُت جوعاً.
ولنأخذ داريا، الضاحية الدمشقية؛ حيث انتهى حصار فرضه النظام طيلة أربعة أعوام قبل أسابيع قليلة وحسب. وكانت قوات النظام دمرت أو حطمت من الناحية العملية كل بناية في البلدة، واستولت على الأراضي الزراعية التي تعود للسكان وحرقت محاصيلهم وقصفت مستشفاهم الوحيد.
وكان سكان البلدة أصبحوا من دون غذاء ولا ماء ولا ذخيرة ولا رعاية طبية عندما وافقوا على مغادرة منازلهم من دون توقع العودة إليها. وتم ترحيل أكثر من 5000 شخص إلى محافظة إدلب الخاضعة لسيطرة الثوار أو إلى مخيمات للمشردين داخلياً في مناطق يسيطر عليها النظام بالقرب من العاصمة السورية.
وفي المعظمية المجاورة لداريا، قال ضابط عسكري من ضباط النظام، والذي يصاحبه ضباط روس، لممثلي البلدة، إن على المدافعين عن البلدة تسليم أسلحتهم وأن يتم إرسالهم إلى إدلب، لكن كل من يرغب في الخضوع لسيطرة النظام يستطيع البقاء.
وقال العميد غسان بلال إن النظام يفرّق الآن بين المعظمية وداريا: “لن يكون هناك المزيد من الاجتماعات”. وإذا لم يقبل المواطنون المحليون الصفقة، كما ذكرت وكالة أخبار سمارت المعارضة، فقد هدد بإحراق المدينة. وقال ناطق بلسان البلدة إن نحو 45.000 شخص عالقون هناك سوية مع نحو 2.800 مقاتل من الثوار.
وكان الإخلاء بدأ بداية الشهر؛ حيث تكدس مئات المدنيين في حافلات لإجلائهم إلى ملاجئ النظام. ومن جهتها وصفت مجموعة الرصد “أطباء من أجل حقوق الإنسان” الإجلاء بأنه جريمة حرب. وقال ويدني براون، مدير البرامج في المجموعة: “لا شيء في هذا الإجلاء تطوعي، ولا شيء في هذا الإجلاء قانوني”. وأضاف: “بموجب القانون الدولي، فإن الإجلاء والحصار على حد سواء، حيث آلاف المدنيين في المعظمية محرومون من الغذاء الحيوي الضروري ومن الرعاية الطبية، هما جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية”.
وهناك ضاحية الوعر في حمص؛ حيث ثمة 80.000 مدني، وفق المعارضة السورية، ما يزالون يعيشون تحت هجوم كبير منذ آذار (مارس) الماضي، أولاً من جانب القناصة ثم قذائف الهاون وهجمات الصواريخ والهجمات الجوية، وفق ما ذكره موظفون طبيون محليون. وقد جرب النظام سلاحاً جديداً، يطلق عليه اسم الصاروخ الاسطواني الذي يحتوي على ما يتراوح بين 300-800 كيلوغرام من مادة (تي إن تي) شديدة الانفجار، ضد مواقع عامة بالإضافة إلى أماكن إقامة خاصة. وعند إطلاقه من مناطق مجاورة، فإنه يستطيع الصاروخ تدمير بناية من أربعة طوابق.
بدءاً من 23 آب (أغسطس) الماضي، شرع النظام في استخدام قنابل تشبه قنابل النابالم الحارقة ضد البلدة، والتي تصدر لهباً برتقالياً يزداد كثافة عندما تصب عليه المياه. واشتملت الأهداف على ملجأ للنازحين، ومدرسة ومركز طبي والمستشفى المحلي. ويبدو أنه تم التوصل إلى اتفاقية خاصة بالوعر مؤخراً.
يتزامن ما يروجه النظام كنجاح لتعزيز المعنويات مع فشل مؤشر لمجموعة أصدقاء سورية بقيادة الولايات المتحدة، الائتلاف الدولي الذي زود الثوار الموالين للغرب بأسلحة ودعم كافيين لمجرد البقاء فقط، بالإضافة إلى الأمم المتحدة التي كانت تلقت أمراً من مجلس الأمن الدولي بتقديم الغذاء والإمدادات الطبية للناس تحت الحصار.
وقال جان إيغلاند، مسؤول الأمم المتحدة الرفيع إن الأمم المتحدة، التي استطاعت تقديم غذاء وأدوية مرة واحدة فقط في غضون أربعة أعوام “خذلت الناس في داريا”. وأضاف: “لقد خذلتهم، ومن المؤسف في الحقيقة التفكير بما مروا فيه في هذا الأعوام الأربعة”.
وقال إيغلاند للصحفيين إن الحصار “لا يكسر مع استسلام المواطنين بعد التضور جوعاً وبعد القصف. الحصار يرفع عبر الوصول الإنساني وحرية التنقل في الداخل والخارج للمواطنين المدنيين”.
وكان إجلاء داريا بمثابة تراجع مذل للحكومات في العالم التي تعد أطرافاً في معاهدة جنيف للعام 1949 والأدوات الأخرى للقانون الإنساني الدولي. ويدعو مبدأ جوهري في المعاهدة إلى أن لا يكون المدنيون موضوعاً للهجوم في الحرب، في درس مستقى من الحرب العالمية الثانية.
كانت حلب وقعت تحت الحصار أول مرة حول 10 تموز (يوليو)، عندما قطع نظام الأسد، بالدعم الجوي الروسي ودعم حزب الله وغيره من الميليشيات طريق كاستيلو. وفي ذلك الحين، كان ذلك هو الطريق الآمن الوحيد المفضي إلى داخل شرقي حلب. وأوقفت القوات الحكومية حركة المرور عبر تدمير 20 عربة على الأقل سوية مع ركابها عندما كانوا يحاولون دخول المدينة أو مغادرتها. وفي غمرة قصف النظام السوري للمناطق المدنية بالبراميل المتفجرة، إلى جانب استهداف الطيران الروسي لستة مرافق صحية على الأقل، اقترحت روسيا تخصيص ممرات إخلاء بحيث يستطيع السكان الهرب من المدينة بأمان، وهي خطوة رفضها الأعضاء الآخرون في مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة.
ويوم 6 آب (أغسطس)؛ أي في اليوم 27 من الحصار، تمكنت قوات الثوار التي تشن الهجوم من جنوبي حلب من الاتصال مع الثوار المتمركزين في جنوب المدينة وحرروا طريق الراموسة التي تقود إلى شرقي حلب. وبعد أيام عدة من القتال، بدأت حركة المرور التجاري وسيارات الإسعاف في عبور الطريق، مؤشرة بذلك على نهاية مؤقتة للحصار.
وخلال عشرة أيام، بدأت طائرات النظام في استهداف طريق الراموسة؛ حيث ذكر أطباء متمركزون في شرقي حلب أن الطائرات الروسية كانت “تصطاد” سيارات المدنيين الذين يحاولون الهرب من المدينة.
ومع حلول 20 آب (أغسطس)، أصبح الطريق غير قابل للاستخدام، كما قال ناشطو الإعلام الثوري. ومع حلول 27 آب (أغسطس) نصبت قوات النظام، في محاولة لاستعادة ما فقدته من أراض، مواقع مدافع هاون على التلال فوق الطريق المذكور، وهو ما أعطاها سيطرة كاملة على الطريق.
وفي رسالة على “واتساب”، قال الدكتور عبدو محمدين لمجلة “ذا نيشن” من داخل حلب: “إنه الآن طريق الموت مثل طريق كاستيلو”. وأضاف أنه كان قد حاول المرور فيه بالسيارة مرتين حوالي يوم 24 آب (أغسطس)، أولاً بواسطة سيارة إسعاف ثم بسيارة خاصة. وقال عن المحاولة الأولى: “كانت قذائف هاون تتساقط مثل المطر وسقط بعضها على بعد 20 متراً منا، وكان علينا أن نعود لأن السائق لم يعتقد بأنه يستطيع العبور بسلام”.
وقال إن الطائرات هي التي كانت تهاجم السيارات في المحاولة الثانية، والتي كانت تتحطم وتحترق مسببة حوادث ومعيقة المرور. وأضاف أن النظام وحلفاءه كانوا يدمرون كل شيء في الطريق، على الرغم من أنهم يعرفون أن المركبات كانت تنقل غذاء أو وقوداً لمولدات الكهرباء.
بقدر ما هي هذه النكسات صادمة، فإنها تحظى بالقليل من الملاحظة من إدارة أوباما التي ما تزال تأمل حتى تاريخ هذا التقرير في إقناع روسيا بالتوصل إلى وقف إطلاق للنار وفرضه على حليفها السوري. لكن الرئيس لم يفشل في التعليق وحسب، بل ويبدو أيضاً أن الجهود الأميركية لوضع حد للقتال بنهج دبلوماسي يعرض الجزر دون العصي، لن تذهب إلى أي مكان أيضاً.
وحتى مع تدمير الطيران الروسي لنصف دزينة من المرافق الطبية في حلب وأجزاء أخرى من شمالي سورية في الشهر الماضي، فقد رفضت الإدارة الأميركية تحميل المسؤولية لشريكها المفاوض. وفي الأثناء، أصدرت منظمة “هيومان ووتش” توثيقاً حذراً في أواخر تموز (يوليو) عن استخدام روسيا لقنابل عنقودية ضد المدنيين السوريين في وقت سابق من ذلك الشهر، لكن الحكومة الأميركية رفضت تأكيد تلك البيانات.
بعيداً عن تولي القيادة في تنظيم الحماية للمدنيين في سورية أو السماح للمدافعين بالحصول على أسلحة بحيث يستطيعون حماية أنفسهم، تبدو استراتيجية الإدارة وأنها تركز على التوصل إلى صفقة مع روسيا لقصف الأهداف الإرهابية في سورية بشكل مشترك، وهي صفقة ستترافق مع وقف لإطلاق النار على مستوى البلد. لكن المشكلة مع هذه الاستراتيجية تكمن في التعريفات المختلفة للإرهابيين من جانب موسكو وواشنطن. ومن الصعب رؤية كيف سيتسنى لهما التوصل لاتفاق.
لا يأتي أسوأ الإرهاب في سورية من متطرفي “داعش” أو تابعة القاعدة، “جبهة النصرة” (التي انشقت مؤخراً عن القاعدة وغيرت اسمها إلى جبهة فتح الشام) وإنما يأتي من الهجمات المدعومة من جانب روسيا على المدنيين برعاية الدولة. وقدرت الشبكة السرية لحقوق الإنسان غير الربحية والتي غالباً ما تستشهد بها الحكومة الأميركية، أن قصف النظام دفع أكثر من 7 ملايين شخص للبحث عن اللجوء في الخارج وشرد 6.3 ملايين شخص في داخل سورية.
لا تكتفي الحكومة الأميركية، التي كانت ذات مرة قائداً بارزاً عالمياً في القانون الإنساني، بالصمت المطبق وحسب، بل إنها لجأت إلى خفض بياناتها إلى بيانات شكلية. وقال مايكل راتني، المبعوث الأميركي الخاص لسورية: “إن الولايات المتحدة تدين محاولات النظام حصار مدينة حلب وتطالب بالحفاظ على الوصول الكامل والتام إلى المدينة”.
وقال مسؤول آخر أن واشنطن تركز على “إنهاء الحرب المدنية من خلال التوصل إلى حل سياسي يقدم هيكل حكومة انتقالية”. لكنه أضاف أن هذا لا يمكن أن يتقدم ما لم نحصل على وقف رئيسي للأعمال العدائية في البلد بحيث نستطيع الحصول على وصول إنساني أفضل إلى المزيد من السوريين الذين هم في حاجة ماسة”. ويتطلب ذلك رفع الحصار عن حلب. وقال المسؤول، في إشارة إلى مباحثات وزير الخارجية جون كيري غير المثمرة حتى كتابة هذا التقرير مع نظيره الروسي سيرغي لافروف، “ولذلك يركز الوزير على هذه المفاوضات”. (تمخضت المفاوضات لاحقاً عن الدعوة إلى وقف جزئي لإطلاق النار).
روي غوتمان
صحيفة الغد