عندما نشرت روسيا قواتها في سوريا خلال شهر أيلول/سبتمبر الماضي، بدا أن الخطوة هي جزءاً من سياستها العالمية الأوسع نطاقاً الرامية إلى استعادة أمجاد القوة الروسية خارج فلك الاتحاد السوفياتي القديم، وإعادة التوازن إلى علاقاتها الدولية على حساب أمريكا، فضلاً عن تعزيز حضورها في منطقة يبدو أن الإدارة الأمريكية الحالية ترغب بشدة في عدم الانخراط في شؤونها. ولكي تتكلّل هذه السياسة بالنجاح، لا بدّ من نصر عسكري ميداني، وهو أمر لا يمكن تحقيقه إلا من خلال التنسيق مع إيران ووكلائها في سوريا، والتفاوض مع تركيا، والقيام بترتيبات من شأنها أن تحدّ من دور الولايات المتحدة في الحرب.
مشروع مشترك مع إيران
تحتاج إيران وروسيا إلى بعضهما البعض في سوريا. فقد نقل مقال نشرته صحيفة “ديلي ميل” اللندنية في 30 آب/أغسطس مزاعم “ناشطين” مفادها أن إيران تتحكّم بنحو 60 ألف مقاتل شيعي في سوريا. وبغضّ النظر عمّا إذا كانت الأرقام دقيقة، تُعتبر هذه القوات ضرورية لشنّ هجمات إذ إن الجيش النظامي السوري منهك وعاجز عن تجنيد عناصر بشكل فعّال. واضطلعت القوات الجوية الروسية القوية بدور أساسي في دعم تلك القوات البرية. وكما أظهرت المعارك في حلب مؤخراً، تكمّل الميليشيات الشيعية و«فيلق الحرس الثوري الإسلامي» الإيراني والقوات الجوية الروسية بعضها البعض بشكل جيد في مساعدة نظام بشار الأسد على تحقيق انتصارات على أرض المعركة.
وبالإضافة إلى ذلك، تقوم طهران وموسكو بتقسيم سوريا نوعاً ما إلى منطقتيْ سيطرة على أرض الواقع: جنوب غرب البلاد للإيرانيين وشمال غرب البلاد وتدمر للروس. وعلى الرغم من أن القوات التي تعمل بالوكالة عن إيران تشارك بالطبع في الحملات المنفّذة شمال غرب سوريا، إلا أن روسيا نادراً ما تتدخّل في الجنوب. والاستثناء الوحيد البارز حصل في كانون الثاني/يناير من هذا العام عندما وفّرت [روسيا] الدعم الجوي لعملية هدفت إلى استعادة “الشيخ مسكين” على الطريق المؤدّي إلى درعا. وقد أثارت تلك الخطوة قلق إسرائيل نظراً إلى أن موسكو كانت قد وعدت بأن قواتها لن تدعم الميليشات الموالية لإيران جنوب دمشق.
وتشمل مؤشرات أخرى للتعاون قيام روسيا بطلعات جوية ضد أهداف سورية من قاعدة في إيران خلال الشهر الماضي، وإقدامها سابقاً على إطلاق صواريخ موجَّهة من بحر قزوين عبر المجال الجوي الإيراني. وعلى الرغم من أن هاتيْن الحادثتيْن بدتا مجرد استعراض مؤقّت للقوة، إلا أنهما سلّطتا الضوء على احتمال بروز تعاون عسكري أكبر بين البلديْن.
نجاح نسبي بعد عام واحد
بفضل تدخّل روسيا، استعاد نظام الأسد الثقة بعد الانتكاسات التي مُني بها في ربيع عام 2015، عندما خسر إدلب وتدمر. وفي حين أن المناطق التي استعادها قليلة العدد (حيث تشكّل أقل من 2 في المائة من الأراضي التي خسرها منذ عام 2011)، إلا أنها تُعتبر مهمة إستراتيجياً. فقد أصبح الآن مركز النظام العلوي والقواعد العسكرية الروسية الموجودة هناك بمنأى عن هجمات المتمردين، كما تمّ استئصال قواعد المعارَضة حول دمشق تدريجياً، كما حصل في داريا والغوطة الشرقية.
أما المعركة لاستعادة حلب فهي أكثر تعقيداً – ففي ريف حلب ينتشر العداء للنظام، كما أن المتمردين يحصلون على مساعدة لوجيستية من تركيا بشكل مستمر. بالإضافة إلى ذلك، يعجز الجيش عن الدفاع عن أراضٍ في مناطق مثل شمال حماة، مما يتطلّب مساعدة متواصلة من القوات الجوية الروسية والميليشيات الشيعية على حد سواء.
ومن أجل توفير الحماية الكاملة لمناطق تَعتبرها روسيا مهمة إستراتيجياً – مثل تدمر والمناطق الواقعة شمال غرب البلاد المحيطة باللاذقية وحلب – سيتعيّن على موسكو إرسال المزيد من القوات البرية. وحتى الآن، لقي نحو 20 عنصراً فقط من الجنود الروس البالغ عددهم 5 آلاف شخص في سوريا حتفهم لأنهم نادراً ما يتعرّضون لإطلاق نار كثيف. وفي المقابل، ووفقاً للوكالة الإعلامية الروسية “آر بي سي”، قُتل عدة مئات من المرتزقة الروس البالغ عددهم 1600 عنصر في سوريا لأن معظمهم أُرسلوا إلى خطوط المواجهة الأمامية. وبالتالي، فإن أي عناصر إضافية سيتمّ نشرها ستتألّف على الأرجح من المرتزقة بدلاً من الجنود النظاميين – فالمرتزقة الروس هم غالباً أكثر استعداداً للقتال من نظرائهم المجنّدين في الجيش الذين يتقاضون أجوراً منخفضة، كما أن موسكو لن تكون ملزمة بالاعتراف رسمياً بتضحياتهم.
ومن الناحية المالية، تناهز تكاليف التدخّل الروسي 3 ملايين دولار يومياً، وهو مبلغ لا يزال مقبولاً بالنسبة إلى روسيا. وفي الواقع، ساهم استعراض العتاد العسكري في سوريا في حصول قطاع الأسلحة الروسي على عقود جديدة مهمة، حيث بدأ عام 2016 بمحفظة عقود بقيمة 50 مليار دولار بالمقارنة مع 38.5 مليار دولار في عام 2011. إن هذه الزيادة تضع موسكو في المرتبة الثانية على لائحة مصدّري الأسلحة الدوليين، مستحوذةً على 25 في المائة من السوق العالمي، وباختصار، لن تكون القيود أو الصعوبات المالية السبب الذي قد يدفع بروسيا إلى الخروج من سوريا.
مصارعة بالأذرع مع تركيا
رغم أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قد أدرك بسرعة الخطر الذي يطرحه تدخّل موسكو على بلاده، فقد فهم أيضاً أنه عاجز عن مواجهة روسيا مباشرةً. وعوضاً عن ذلك، اختار مضايقتها بشكل مستمر عبر دعم المتمردين السوريين. وفي حين أن أحدث الهجمات التي نفّذها المتمردون في حلب لم تغيّر ديناميكية القوة على الأرض لفترة طويلة – حيث أن الجيش السوري حاصر المدينة مجدداً – إلا أنها أَرغمت موسكو والأسد على تحويل الموارد التي كان يمكنهما استخدامها لفتح الطريق بين تدمر ودير الزور.
ومن خلال هذه الخطوات، يأمل أردوغان إعادة إرساء التوازن في المفاوضات مع فلاديمير بوتين الذي يملك ميزات قوية خاصة به ضدّ تركيا. فمن وجهة نظر اقتصادية، يتوقّف هدف أنقرة بأن تصبح مركزاً للطاقة إلى حدّ كبير على أهواء بوتين، نظراً لأن روسيا ّ قد طوّقت بشكل مطّرد نقاط دخول رئيسية إلى تركيا.
وقد تقرّر موسكو أيضاً منح «حزب العمال الكردستاني» دعماً كبيراً كما فعلت في ثمانينيات القرن الماضي، عندما بدأ للمرة الأولى صراع أنقرة المسلّح ضدّ الجماعة الإرهابية الكردية. وفي أيار/مايو، أسقط مقاتلو «حزب العمال الكردستاني» مروحية تركية باستخدامهم “نظام الدفاع الجوي المحمول على الكتف” من طراز “SA-18” الذي تم تزويده مباشرةً من الترسانة الروسية، في رسالة واضحة إلى أردوغان. كذلك، ربما يكون بوتين على أتمّ الاستعداد لمساعدة «حزب الاتحاد الديمقراطي» الكردي السوري في ربط كانتونيْ عفرين وكوباني عند الحدود الشمالية. هذا وتتحالف الولايات المتحدة حالياً مع «حزب الاتحاد الديمقراطي» ضد تنظيم «الدولة الإسلامية»، لكنها لا ترغب في مساعدته على تحقيق حلمه بربط عفرين وكوباني خوفاً من إثارة استياء تركيا، الدولة العضو في حلف شمال الاطلسي. وفي المقابل، قد يقدّم بوتين بسهولة مساعدة جوية [للأكراد] ويعترف رسمياً بدويلة روج آفا التي أعلنوها. وبغية تجنّب مثل هذه النتيجة، يتوجّب على أردوغان التفاوض مع بوتين؛ وربما كانت هذه المسألة إحدى أهم نقاط المحادثات التي أجرياها عند اجتماعهما في 9 آب/أغسطس.
وعلى الرغم من انعدام ثقة كبيرة بين الرئيسيْن، إلا أنهما قد يتمكّنان من التوصّل إلى تسوية مؤقتة. فقبل مباشرة تدخّلها الأخير في منطقة جرابلس، ناقشت تركيا هذا الموضوع مع روسيا التي بدورها أحجمت عن استهداف القوات التركية. وسوف تُظهر الأسابيع المقبلة ما إذا كان التفاهم بين أنقرة وروسيا يؤتي ثماره في منطقة أعزاز- منبج الحدودية.
ما يمكن توقعه من العام الثاني
ما لم تؤدِّ الانتخابات الرئاسية الأمريكية إلى حدوث تغيير جذري في سياسة واشنطن تجاه سوريا، قد تتمكّن روسيا وإيران من إقامة سيادة مشتركة تسيطر على البلاد بأكملها تقريباً. وبموجب هذا السيناريو، قد يمنح بوتين «حزب الاتحاد الديمقراطي» ممراً ضيقاً يربط عفرين مع بقية روج آفا، والذي يمكنه قطعه متى شاء. وإذا فعل ذلك، لن يكون هذا محبةً بالقضية الكردية وإيماناً بها، بل بالأحرى لأن مثل هذه الخطوة قد توقف تقدّم المتمردين المدعومين من الأتراك في الشمال، وبالتالي حماية حلب وتسهيل استعادة وادي الفرات، لا سيما الرقة.
هذا ويبدو مركز العلويين الساحلي البقعة المفضّلة لدى روسيا التي أصبح لديها قواعد جوية وقواعد غواصات خارج اللاذقية (حميميم وجبلة، على التوالي) تُضاف إلى قاعدتها البحرية في طرطوس. ويحتاج العلويون المحليون إلى حماية روسية على المدى الطويل. فقد بدأ عددهم يتقلّص منذ ثمانينيات القرن الماضي، وساهمت الوفيات من جراء الحرب في تسريع هذه الوتيرة، لذلك لن يتمكّنوا على الإطلاق من مقاومة أي انتفاضات مستقبلية تشنّها الأغلبية السنّية في البلاد؛ وحتى ما سيتبقى من الدويلة العلوية سيحتاج إلى حماية روسيا لأسباب ديموغرافية وغيرها.
ويبدو أن روسيا تغذّي مثل هذا الميل إلى الاستقلالية في أوساط الأكراد السوريين في شمال البلاد ويمكن التوقُّع منها أيضاً تعزيز وجودها في تدمر، المكان المثالي لتثبيت قاعدة رادار تغطّي كافة منطقة الشرق الأوسط.
ويقيناً، ستواصل السعودية التصدّي لمثل هذه الأهداف، إذ لا يمكنها السماح بفوز إيران في سوريا. غير أن فعالية الدعم السعودي للمتمردين سيتوقّف على سلوك تركيا، التي هي خط إمداداتهم الرئيسي، وبالتالي يبدو أن الأوراق في أيدي أردوغان وبوتين. فهل سترضى أنقرة بمنطقة نفوذ في شمال غرب سوريا تضمّ أقلية كبيرة من التركمان؟ أم أنها ستضطلع بدور أكبر في معارضة الحكم الروسي-الإيراني المشترك؟
ومن أجل عكس الاتجاهات السائدة حالياً، سيتعيّن على الرئيس الأمريكي المقبل الاضطلاع بدور أكبر في سوريا، إذ أن روسيا وإيران تسبق الولايات المتحدة بعدة خطوات. ولن يغيّر اتفاق وقف إطلاق النار الأخير الذي أبرمته واشنطن مع روسيا هذه المعادلة. فإدارة أوباما وضعت إستراتيجية لفضّ النزاع في سوريا لأنها لا ترى أي بدائل أخرى، حتى إذا أسفر ذلك عن اكتساب خصمان جيوسياسيان رئيسيان للولايات المتحدة نفوذاً في البلاد. وكما قال وزير الخارجية الأمريكي جون كيري هذا الأسبوع لإذاعة “إن بي آر” (NPR): “ما هو البديل؟ هل يتمثّل بالسماح لنا بألا نتوقّف قبل إضافة عدة آلاف من الضحايا إلى حصيلة القتلى الذين سقطوا حتى الآن وبلغ عددهم 450 ألف شخص؟ أو أن تُصبح حلب محتلةً بالكامل؟ أو أن يقوم الروس ونظام الأسد العشوائي ببساطة بالقصف لعدة أيام قادمة، ونقف مكتوفي الأيدي؟ هذا هو البديل وهو أن نحاول أنجاز ذلك، إذا كانت أمريكا لن تُرسل قواتها- وسبق أن اتّخذت أمريكا قراراً بأنّها لن تنشر قواتها. وقد اتّخذ الرئيس هذا القرار”.
فابريس بالونش
معهد واشنطن