لطالما اندرجت السياسات الخارجية للولايات المتحدة الأميركية في إطار المدرسة الواقعية في العلاقات الدولية. تلك المدرسة المضادة للمدرسة الليبرالية التي تدعو إلى استخدام القوة من أجل انتزاع المكاسب، سواء بصورة مباشرة أو عبر المفاوضات التي تتم بعد إخضاع الخصم. ضمن هذه الرؤية، لا يمكن تقييد السياسة بالمبادئ الأخلاقية ولا بالقوانين الدولية. وهكذا، فإن قصف الولايات المتحدة هيروشيما وناجازاكي باستخدام قنابل نووية في الحرب العالمية الثانية كان “شرعيا” بل “ضروريا” بالنسبة إلى أنصار تلك المدرسة، حتى وإن أودى بحياة أكثر من مئتي ألف إنسان.
تطورت القوانين الدولية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وخصوصا ذلك الشق المتعلق بحقوق الإنسان. وكبحت الولايات المتحدة استخدامها للقوة بصورة مفضوحة ومتعمدة ضد المدنيين، قدر الإمكان، وإن واصلت استخدام القوة بصورة عامة. ولكن لاعبا دوليا جديدا، هو روسيا، برز اليوم ليتبنى المدرسة الواقعية الكلاسيكية، وينتهج سياسة الحرب الوحشية من دون أي ضوابط تكبح الاستخدام المفرط للقوة ضد المدنيين والمشافي وحتى قوافل الإغاثة.
يمكن ملاحظة أن روسيا بوتين تقدس استخدام القوة إلى درجة كبيرة، وتعتبرها السلاح الأكثر فاعلية في تموضعها الدولي الجديد، وفي مفاوضاتها مع الغرب في الملفين الأوكراني والسوري. لم تنطلق المفاوضات الروسية الأميركية الجادة إلا بعد أن تدخلت روسيا عسكريا في سوريا قبل نحو عام. وقد ساعد تدخلها النظام السوري على تحقيق مجموعة من المكاسب الميدانية التي كانت ضرورية لتدعيم موقفه التفاوضي لاحقا. وحتى أثناء المفاوضات، واصلت روسيا التخطيط مع إيران لاستخدام القوة من جديد، وقد ترجم ذلك عبر حصار مدينة حلب.
انطلقت جولة مفاوضات جديدة بعد حصار حلب، حقق خلالها الروس تقدما إضافيا على حساب الموقف الأميركي، وتم الاتفاق على إمكانية التنسيق العسكري بين الجانبين مقابل التزامات روسية متعددة. نكثت موسكو الاتفاق مجددا وامتنعت عن تنفيذه، إذ لاحظت أن فرصة استخدام القوة لا تزال سانحة، وهي تؤتي ثمارها بصورة فعالة وبأسرع مما كانت تتوقع.
هكذا بدأت روسيا عملية جوية شملت قصفا مكثفا لمدينة حلب. ولأن استخدام القوة هو غاية بحد ذاته ضمن هذه الإستراتيجية، كان من الضروري أن لا يكون القصف اعتياديا، بل غير مسبوق وباستخدام أنواع متعددة من الأسلحة. مرت عشرة أيام على ذلك الهجوم الوحشي أجمع سكان حلب على أنه الأعنف منذ اندلاع الثورة. قتل ثلاثمئة مدني في الأيام الثلاثة الأولى للهجوم وواصلت روسيا قصف الأطقم الطبية والمشافي بشكل مركز. وفي ظل ذلك، حاولت موسكو فتح نافذة مفاوضات سرية مع واشنطن كمحاولة ابتزاز جديدة، وهو ما دفع وزير الخارجية الأميركي جون كيري إلى القول بغضب “لا يمكن أن تكون أميركا فقط هي من يقدم التنازلات”.
لم تف جولة العنف الروسية بغرضها، وكان لا بد من شن عملية برية للسيطرة على حلب على أمل تحقيق مجموعة من الأهداف. يتمثل الهدف الأول في تصعيد استخدام القوة والتأكيد على أنها تشكل عنصرا حاسما في إستراتيجية موسكو في سوريا حتى لو فشلت القوات المهاجمة في السيطرة على المدينة. ثاني الأهداف سيتحقق في حال نجحت العملية البرية وسقطت مدينة حلب بيد النظام. حينها، سيحقق بوتين قفزة كبيرة على رقعة الشطرنج ويصبح في وضعية “كش ملك” أمام نظيره الأميركي المقيد بالمفاوضات.
الرد الأولي للجانب الأميركي على العملية العسكرية الروسية في حلب جاء مثيرا للسخرية وتمثل بإعلان زيادة المساعدات الإنسانية للمدينة المحاصرة التي لا يمكن أن تدخلها أي مساعدات. وبدا ذلك الرد مجرد دعاية سياسية أميركية، كما عكس إحباطا وتخبطا بما يخص الخيارات البديلة.
ولكن الأميركيين، الذين أكثروا من تحذير روسيا من “المستنقع” السوري، سرعان ما أدركوا أنهم هم من تورطوا في “مستنقع” المفاوضات” مع الروس. وبدأ الحديث عن إمكانية قيام الولايات المتحدة بتعليق المحادثات مع روسيا ودراسة ردود “أشد صرامة بما في ذلك الخيارات العسكرية”.
يبدو حجم الجرائم التي ترتكبها روسيا في سوريا لافتا بالفعل ويتعدى إيمانها بضرورة استخدام القوة. ربما يحاول بوتين لعق جراحه والانتقام من أميركا والغرب في حلب. إنه المكان الذي تمسك فيه موسكو بأوراق أكثر بكثير مما تفعل واشنطن.
سلام السعدي
صحيفة العرب اللندنية