قبل عام، تحقق سعي شاب إيراني بعمر 20 عاماً إلى الشهادة في سورية في معركة ضد ما تدعى “الدولة الإسلامية”. واليوم، تحتفي إيران بتضحيته وتمجدها كدليل على تمرير المشعل الأيديولوجي للثورة الإسلامية إلى جيل جديد.
طهران – يوم ودعت فاطمة الطوسي ابنها الذاهب إلى الحرب السورية، طلباً للشهادة، فإنها لم تبك. وعند باب شقتهم في منطقة للطبقة الوسطى، رفعت الوالدة نسخة من القرآن الكريم عالياً ومر ابنها من تحت الكتاب، وهو طقس تقليدي للمؤمنين الحقيقيين في الجمهورية الإسلامية، المتجهين إلى الجبهة الأمامية.
حافظت الأم على ضبط أعصابها، لكنها توقعت أن لا ترى ابنها محمد رضا دهقان-أميري، البالغ من العمر 20 عاماً، حياً مرة أخرى أبداً.
وتقول أنه قال لها أنه مصمم على قتال ما يدعى “داعش”، لأنهم “يهينون الإنسانية”، ولأنه أراد أن يحذو حذو خالين مبجلين له كانا قد قتلا في الحرب العراقية الإيرانية في ثمانينيات القرن الماضي.
وأوضح السيد دهقان-أميري أنه قد لا يعود، وتساءل لماذا لم تكن هناك دموع. وتتذكر السيدة الطوسي وعيناها مغرورقتان في الدموع وتلتف بالعباءة السوداء التي يفضلها معظم المسلمين الشيعة الورعين في إيران: “قلت له: ’إنني لست حزينة على الإطلاق لأنك وجدت الطريق القويم. إنك ذاهب إلى مكان جيد، فلماذا أبكي‘؟”.
وتقول: “لو أنني بكيت في لحظة مغادرته لنا لكان من الممكن أن يؤثر ذلك على معنوياته ويجعله يتردد، وربما لا يتطوع”. وأضافت: “ولكن، في نفس الوقت لا أستطيع أن أنكر مشاعر الأمومة عندي. عندما كان في سورية بكيت عدة مرات”.
وبعد 48 يوماً تحقق حلم دهقان–أميري؛ فقد قتل بطلقات من مدفع مضاد للطائرات من عيار 32 ملم في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، سوية مع ثلاثة آخرين –الذين غالباً ما يشار لهم راهناً بـ”شهداء حلب الأربعة”- لينضموا إلى كوكبة الشهداء الإيرانيين والذين يعتبرهم النظام الثوري أبطالاً يجب أن يحظوا بالتبجيل وأن يقتدى بهم.
من غير المعروف ما إذا كان دهقان-أميري قد قاتل مع قوات الحكومة السورية أو حزب الله، أو حتى مع بضعة آلاف من المتطوعين والضباط الإيرانيين في الغالب. وكان الذي أخطر عائلته بموته هم مسؤولون من فيلق القدس -وقيل لهم أنه مات في القتال مع “داعش”.
وتقول والدته أنه في الليلة التي قتل فيها “بكيت في وحدتي” فخورة بأنها ربّيت ابناً راغباً في التضحية بحياته من أجل قضية. وتقول: “ما أعتقده هو أن أبناءنا هم أمانة أودعها الله عندنا –يكونون لنا مؤقتاً ثم يرجعون إلى الله”.
“أبطال بأنفاس عذبة”
تشكل قصة دهقان-أميري لمحة نادرة عن داخل عالم المؤمنين الحقيقيين في الجمهورية الإسلامية، والذين يستخدم ورعهم الديني الخاص وعقيدتهم الأخلاقية أحياناً لخلق أمثلة عامة جداً تتمتع بالحفاوة بهدف تجديد ثقافة الشهادة، بينما تنخرط إيران –بشكل رسمي وغير رسمي- في حروب في سورية والعراق واليمن.
وبالمثل، يهلل النظام ويحتفي بحالات مثل حالة دهقان-أميري لإظهار كيف انتقلت الشعلة الأيديولوجية للثورة الإسلامية في العام 1979 بنجاح من جيل إلى جيل. وتهدف الدعاية إلى إعادة إحياء صناعة أيقونة المحارب الشيعي التي كانت قد ألهمت التجنيد في الحرب العراقية الإيرانية قبل عقود، وأرست أرضية صلبة للنظام.
بعد موته بأيام قليلة، كان العنوان الرئيسي للموقع الألكتروني “بادريون” هو: “أبطال الخميني عذبو الأنفاس انضموا إلى المعركة”، وقال أن جيل الشباب الذين ينتمي إليهم “الشهيد” دهقان-أميري –الذين غالباً ما ينتقدهم المتشددون باعتبارهم ضعفاء وليبراليين وذوي توجهات غربية- ما يزالون مخلصثن لمثال قائد إيران الثوري، آية الله روح الله الخميني.
وكتب الموقع الذي يركز على قضايا أسرى الحرب ونشر ثقافة الاستشهاد قائلاً: “ذات مرة كانت جبهتنا موجودة في داخل حدود بلدنا، لكنها أصبحت الآن وراء الحدود… وأظهر أبناء الجيل الجديد أنهم ليسوا جبناء وأطفالاً. إنهم رجال حقاً”.
وقد تميز دهقان-أميري الذي لاحظت القصة أنه كان يبلغ من العمر 15 عاماً عندما بدأت الحرب الأهلية السورية. “لكنه الآن… ذهب مباشرة إلى الجبهة الأمامية ليقول للإرهابيين أنهم لن يروا حدود إيران أبداً، ولا حتى في أحلامهم”.
“ندرة في إيران الحديثة”
أصبح هؤلاء المخلصين الملتزمين أقلية في إيران المقسمة، حيث هناك نسبة غربية الهوى وعلمانية، والتي غالباً ما تكون أكثر اهتماماً بامتلاك هاتف “أيفون-7″، وهزيمة الرقابة على الإنترنت وكسر القيود المفروضة على حظر الكحول، من أي خطاب ثوري منبعث.
بينما حشدت إيران آلاف الأتباع الشيعة من لبنان وأفغانستان والعراق -وحتى باكستان- للدفاع عن حليفها الرئيسي، الرئيس السوري بشار الأسد، وقتال “داعش” في سورية والعراق، فإنها نشرت عدداً أقل بكثير من مواطنيها الإيرانيين، مثل مستشاري قوة القدس والمقاتلين المتطوعين مثل دهقان-أـميري.
ومع ذلك، ثمة دزينة أو نحو ذلك من الجنرالات الإيرانيين الذين قتلوا من بين أكثر من 400 “شهيد” من الحرس الثوري في سورية والعراق. والآن، تم استبدال الحساسية الرسمية السابقة التي كانت ترافق الكشف عن العمليات العسكرية الإيرانية في سورية بالاحتفاء بها وإظهار مدى تضحية إيران.
وعلى سبيل المثال، أعيدت تسمية الزقاق في غرب وسط إيران حيث تقيم عائلة دهقان-أميري باسمه. وثمة أشرطة فيديو لمجلس عزاء له، حيث يتم تمجيده وذكر مزاياه ومعتقداته، بل إن هناك حتى كتاب مذكرات عنه صدر في طبعته الثالثة. وفي بعض الدوائر، أصبحت عائلته محط احتفالات صغيرة وتترأس العديد من احتفالات ذكراه ويُطلب منها التحدث في الجامعات.
وتقول الطوسي: “كان مثار دهشة للناس أن شخصاً في هذا السن اليافع تطوع للحرب، وفي نفس الوقت كان يبدو شخصاً عصرياً جداً.. متأنقا وعلى أحدث طراز”. وأضافت إن إخلاصه قد “أسر ألباب الكثير من الناس”.
قصص أخواله في الحرب
لم تأت هذه المعتقدات الدينية المتحمسه من فراغ. فبالنسبة لدهقان-أميري، كانت قيم المحارب الشيعي النبيل والشهادة باسم الدين والعدالة تُشرب مثل حليب الأم، في عائلة حيث تشمل النماذج اثنين من الأخوال كانا قد قتلا في الحرب العراقية-الإيرانية.
وتقول الطوسي: “حتى عندما كان طفلاً، كنت أتحدث له عن شقيقيّ، وكيف عاشا، وعن الدفاع المقدس”، مشيرة بذلك إلى المصطلح الرسمي الذي يستخدم في إيران عن الحرب التي أفضت إلى مقتل 385 ألف شخص.
وكان أخوها الأكبر قد تخرج من الأكاديمية العسكرية وقتل كضابط في القوات الخاصة، عندما كان يبلغ من العمر 21 عاما. أما اخوها الأصغر-محمد رضا الطوسي، الذي سمت ابنها تيمنا به- فقد تطوع للقتال عندما يبلغ من العمر 13 عاماً. وقام بتزوير شهادة ميلاده حتى يتأهل من دون إبلاغ العائلة، وقتل عندما كان يبلغ من العمر 16 عاماً خلال هجوم إيراني معاكس في شمالي العراق في العام 1987.
وأصبح دهقان-أميري مهووساً بقصص الحرب -كان والده أيضاً محارباً قديماً- وقامت العائلة بـ17 زيارة إلى ميادين المعارك سابقاً. كما كان دهقان–أميري قد تطوع أيضاً عدة مرات ليكون “خادماً للشهداء” خلال هذه الرحلات التي كانت تنظم لطلبة يدعون -رياحين النور- أتباع طريق النور. وانضم أيضاً إلى “الباسيج”، القوة شبه العسكرية الأيديولوجية المعروفة بتدريبها الديني.
وقال والد دهقان-أميري، رجل الشرطة المتقاعد الذي تحمل جبهته علامة المصلي المواظب: “لم يشهد ولدي الحرب، لكنه درسها كثيراً جداً إلى درجة أنه كان يعرف عنها أكثر مما أعرف”.
ويلاحظ الفرق بين الحرب العراقية-الإيرانية: “عندما كنا نحارب دفاعاً عن التراب الايراني”، وبين الدوافع الأكثر تعقيداً التي وقفت وراء اختيار ابنه القتال في سورية، حيث يُتهم الرئيس الأسد وداعميه الروس بـ”البربرية” في حرب مستمرة حصدت أرواح أكثر من 400.000 شخص.
“قتال على الطريق إلى الله”
يقول والداه دهقان–أميري، أن “هدف” ابنهما الصغير كان من ثلاث شعب: “دعم الانسانية” عبر قتال “داعش”؛ والدفاع عن مقام السيدة زينب الشيعي، حفيدة الرسول محمد بالقرب من دمشق؛ وحتى سداد الدَّين للأسد، الذي كان والده حافظ هو الزعيم العربي الوحيد الذي وقف إلى جانب ايران في ثمانينيات القرن الماضي.
وتقول والدته التي تجلس إلى جانب علم أصفر كبير مؤطر من ضريح السيدة زينت في سورية، وهو هدية من زملاء ابنها المقاتلين: “كنت فخورة بأن ابني كان واعياً، في هذا العالم الحديث، بأنه يجب أن يفعل ذلك لمعتقدات دينية وسياسية”.
وتضيف والدته أن وفاة دهقان–أميري فجرت “ثورة” بين أصدقائه ودفعتهم إلى الشروع في التدريب والانضمام إلى الحرب في سورية. وتقول أنه دعا شقيقه الأصغر في وصيته إلى السعي لنيل الشهادة “والقتال في الطريق إلى الله”. واقتبست الأم قولاً لشيخ شيعي قوله إنه إذا تطلب الإسلام موته حتى يعيش، فعندئذ “دعوا السيوف تطوقني”.
وتقول الطوسي: “قد يكون هناك بعض الأشخاص خارج إيران ممن يعتقدون قطعاً أن الجيل الجديد -بسبب الغزو الثقافي من الغرب- مصاب بخيبة الأمل من النظام السياسي في إيران وقيم الثورة… لكن محمد رضا ضرب مثلاً على خطأ ذلك، ليقول أنه حتى أبناء الجيل الجديد يتمسكون بتلك المبادئ”.
سكوت بيترسن
صحيفة الغد