ليس جديداً أن تسرب الأجهزة الأمـــيركـية أنباء عما تــصـفه بـ«خيارات» على الطاولة، سياسية ومالية واقتصادية واستخباراتية وعسكرية، عندما تجد ذلك في مصلحتها، لكن أحداً في الولايات المتحدة، بل في العالم، يمكن أن يذهب الى أن ادارة أميركية في وضعها الانتقالي الحالي، في وارد القيام بعمل دراماتيكي أو غير محسوب النتائج.
وفي حالة سورية، يكفي أن يقرأ المرء وقائع اللقاء بين وزير الخارجية الأميركي جون كيري وعدد من الناشطين السوريين في أميركا (أماط اللثام عنه شريط فيديو حصلت عليه «نيويورك تايمز» يوم 30/10/2016) ليدرك مدى ارتباك سياسة واشنطن في سورية، وحتى في الشرق الأوسط كله. والأهم أن هذا اللقاء لم يكشف عدم وجود سياسة أميركية، كما ذهب البعض، انما عملياً وجود سياسة مائعة وملتبسة وغير واقعية، الى حد أن رئيس الديبلوماسية الأميركية فشل في شرحها أو تحديد معالمها، فضلاً عن تبرير شكواه للوفد من عجزه عن تطبيقها.
هذه القراءة، اضافة الى ذلك، تلقي ضوءاً كاشفاً على ما يمكن أن تقوم به، أو لا تقوم، ادارة أوباما في الفترة الحالية.
ذلك أنه يبدو جلياً أن لا فرق بين أن تكون السياسة الأميركية غبية، أو خبيثة، أو انسحابية، أو حتى متآمرة مع موسكو عن سابق تصور وتصميم، لأنها في النهاية ساهمت في تنفيذ كل ما كان يخطط له الرئيس الروسي بوتين منذ تدخله في الحرب السورية قبل أكثر من عام.
كيف؟ لعل ما خلص اليه مايكل كوفمان، من معهد كينان في مركز ويلسون الأميركي، في بحث له عما أرادته موسكو من تدخلها في سورية، وما قامت به الإدارة الأميركية في المقابل، يكفي للقول إن الأخيرة ساهمت في انجاز كل ما حلمت به الأولى. في رأي كوفمان، أن أهداف بوتين كانت واضحة منذ البداية بينما لم يكن الأمر كذلك في واشنطن. يقول: قامت خطة موسكو على ما يلي تحديداً: أولاً، تدمير المعارضة الحقيقية على الأرض (يذكر هنا قول بوتين منذ البداية أنه لا وجود في سورية لمعارضة معتدلة، بل الكل ارهابيون)، تاركة الجبهة للجهاديين وحدهم، ومقفلة الباب على أية سياسة أميركية يمكن أن تؤدي لاحقاً الى إحباط خطتها. ثانياً، مراكمة مكاسب للنظام من خلال اتفاقات صورية لوقف إطلاق النار، مع إبطاء متعمد للمفاوضات السياسية، بما يجعل المعارضة الحقيقية تفقد زخمها، بل أن تنتهي تدريجياً، ولا يبقى بعدها للغرب (الولايات المتحدة هنا) أية خيارات أخرى للتدخل الفاعل. ثالثاً، تخفيف خسائرها من خلال الاعتماد على عناصر أخرى تقاتل على الأرض (قوات النظام والميليشيات المستقدمة من ايران ولبنان والعراق وأفغانستان)، وترك ضباطها يشرفون على المعركة من بعد، ويركزون عملهم فقط على قيادة وتنظيم الضربات الجوية.
في ضوء ذلك، هل من يجادل في أن لقاءات واتفاقـــــات كيري مع نظيره الروسي سيرغي لافروف، في جنيـــف ثم في فيينا فضلاً عن موسكو وواشنطن وجنيف مؤخراً، شكلت كلها خطوات تنفيذية لما قـــررته روسيا وخططت له منذ البدء؟ وسواء تم ذلك نتيجة سذاجة أميركية، أو ارتباك فقط، أو حتى تواطؤ مسبق مع موسكو، فلا حاجة للقول ان «نجــاحات» بوتين والأسد في حلب أخيراً، وفي غيرها بدءاً من داريا الى المعضمية الى الوعر في حمص قبل ذلك، كانت حصيلة السياسة الأميركية هذه.
ليس ذلك وحده، بل انه على الصعيد الأخلاقي البحت أيضاً، وبينما تحشر موسكو في الزاوية ويهتزّ الرأي العام في العالم لصور الأطفال والنساء والشيوخ يتم انتشالهم من تحت أنقاض الأحياء الكاملة التي دمرتها طائرات روسيا الحربية في حلب، يجد لافروف ما يأخذه على كيري (عملياً، على السياسة الأميركية هذه) على خلفية الاتفاق المعقود بينهما، وترديده في كل مناسبة أن الأخير لم يتمكن من الوفاء بالالتزامات والوعود التي تعهد بها. لكأن كيري، نتيجة هذه السياسة، لم يعط لافروف ما أعطاه أياه على امتداد الفترة السابقة، في السياسة أو على الأرض، بل قدم له ضوءاً أخضر لمواصلة تنفيذ خطته في خلال الفترة المقبلة أيضاً.
وكلام لافروف المتكرر عن تعهد كيري بـ «التمييز» بين الفصائل الارهابية وتلك التي يعتبرها معتدلة، هو مجرد مثال على ما قد تكون السياسة الأميركية قد وصلت اليه في تعاملها مع روسيا.
بالعودة الى اللقاء بين كيري والناشطين السوريين، لم يفهم أحد من هؤلاء ولا فهم غيرهم طبعاً، كيف يمكن لرأس الديبلوماسية الأميركية أن يسأل الحضور: «هل تريدون أن يأتي أحد من الخارج لتخليصكم من الأسد؟»، بينما يتجاهل الحقيقة التي يعرفها الجميع وهي أن الخارج وحده، سواء كان اسمه روسيا أو ايران أو الميليشيات العديدة من العراق ولبنان وأفغانستان، هو الذي حمى الأسد من السقوط حتى الآن؟ بل، كيف يمكن أن يقول بصراحة مفجعة إن على الثوار في سورية أن ينضموا الى بلاده في قتالها ضد تنظيم «داعش» و «جبهة فتح الشام» (النصرة سابقاً) «لأنهما أعلنا الحرب علينا»، لكنها لن تقف معهم ضد «حزب الله» الذي يقاتل الى جانب النظام وضد هؤلاء الثوار أنفسهم منذ سنوات، «لأن هذا الحزب لا يتآمر على الولايات المتحدة»؟
أوليس هذا ما فعله كيري ومعلمه أوباما (في سياق السياسة اياها)، في فترة سابقة، عندما اشترطا على بعض الثوار الذين دربتهم قواتهما ألا يستخدموا سلاحهم الا ضد الجهاديين، ما أدى الى رفض هؤلاء لأنهم يريدون قتال النظام وميليشياته من دون غيرها، وتالياً الى اعادة الأسلحة التي كانوا تسلموها من مدربيهم اليهم؟.
ثم، ماذا يعني بعد ذلك قول كيري للناشطين السوريين «ان المشكلة أن الروس لا يهتمون بالقانون الدولي، فيما نهتم نحن…»، أو قوله في النهاية: «اننا نحاول العمل ديبلوماسياً، وأعرف أن هنا مدعاة للاحباط، وأن ليس من أحد بالنتيجة أكثر احباطاً منا»؟
ما يبقى هو السؤال: هل هذه سياسة، فضلاً عن أن تكون سياسة دولة عظمى وحيدة في العالم، بل هل يمكن هذه السياسة أن تتغير؟!
محمد المشموشي
صحيفة الحياة اللندنية