كان الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي، عقب استفتاء يونيو 2016، بمنزلة الضوء الكاشف للأزمة التي يواجهها الاتحاد منذ انضمام بريطانيا إليه، وهي الدولة المترددة والمشككة طوال الوقت في مسيرة التكامل الأوروبية، وهي دولة لديها إدراك عال من الذاتية، وحساسية مفرطة تجاه سيادتها الوطنية، وترفض أي مساس بها لمصلحة الهوية الأوروبية.
والآن، فإن الاتحاد الأوروبي بإمكانه الانطلاق أو الانزواء. فبعد خروج بريطانيا، يمكن للتجربة أن تنطلق، إذا كانت أسس المسيرة الوحدوية واضحة، والاقتناعات التكاملية قوية، كما يمكنه الانزواء والتفكك إذا كان الخروج البريطاني مؤثرا، وانتقلت عدواه لدول أخري.
وتعد أيضا أزمة الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي بمنزلة “الأزمة الكاشفة” لواقع المنظمات الإقليمية، وتأثير الأزمة الأوروبية فيها. فبداية، ليست هناك علاقة مباشرة بين الاتحاد الأوروبي، والمنظمات الإقليمية الأخري سوي أن الاتحاد الأوروبي كان ينظر إليه بمنزلة النموذج “الرائد في النجاح بين كل المنظمات المثيلة له.
لكن الواقع يقول إن كل منظمة تحمل في طياتها عوائق فشلها، وعوامل تقدمها. فمن خلال قراءة لهذا الملف، وجد أن هناك الكثير من العوائق التي تقف أمام مسيرة تجارب التكامل والوحدة الإقليمية. وأولي هذه العوائق تمثلت في غياب الإرادة السياسية، متمثلة في عدم رغبة الدول الأعضاء في تطوير المنظمات الإقليمية علي النحو الذي تصبح فيه بمنزلة حكومات فوق الدول. فالروح القطرية لا تزال هي المسيطرة والمفضلة لدي حكومات الدول. كما أن الإرادة السياسية ليس لديها الجدية الكافية للتنسيق والعمل المشترك، حتي في حده الأدني.
أما العائق الثاني المكمل، فيكمن في التنازع بين السيادة الوطنية للدول الأعضاء، والهوية الجماعية للمنظمة الإقليمية. فما دام أن العمل الإقليمي لم يصل لدرجة الاندماج الذي يستلزم تنازل الدول عن سيادتها لمصلحة المنظمة الإقليمية الجامعة، فإن المنظمة تستمر بخطوات إيجابية. وعندما تقترب من مراحل الاندماج الحقيقية، يظهر التنازع بين السيادات القطرية والقومية الجامعة، وهذا كان واضحا في تجربة بريطانيا مع الاتحاد الأوروبي، وتجربة الحكومة الإفريقية في الاتحاد الإفريقي.
أما العائق الثالث، فيتمثل في ضعف ومحدودية التمويل، فكثيرا ما يقف هذا العائق في تنفيذ مشروعات العمل الوحدوي. إذ إن كثيرا من المشروعات التي أنشأها الاتحاد الإفريقي لم تدخل حيز التنفيذ، مثل مشروع البنك الإفريقي، وصندوق النقد الإفريقي بسبب عدم وجود مصادر تمويلية. وأحيانا، قد يتوافر تمويل أجنبي من خارج القارة، فتكون هذه المشروعات عرضة للتدخل الأجنبي، وفرض شروط معينة علي هذا النشاط، والدول الأعضاء غالبا ما تتهرب من أية أعباء مالية جديدة.
ويشار إلي العائق الرابع في عدم تفعيل الأجهزة الرئيسية داخل المنظمة الإقليمية، وهذا أمر في غاية الأهمية. فقد دأب كثير من الدول الأعضاء علي تهميش دور الأجهزة الرئيسية، مثل الأمانة العامة، أو السكرتارية العامة، أو المفوضية العامة، وألا تكون هناك سلطات واسعة لها، وإن وجدت فيتم تحجيمها. فالأمانة العامة للجامعة العربية لديها كثير من الصلاحيات، ممثلة في شخص الأمين العام. ومع ذلك، هناك اتجاه عام لدي بعض الدول إلي تحجيم دور الأمين العام للجامعة العربية، وتأكيد عدم خروجه علي رغبات بعض الدول، فتكون النتيجة أن يحجم الأمين العام عن طرح مبادرات لإصلاح وتطوير الجامعة، والاكتفاء بدوره التنسيقي والإداري.
وبذا، تبقي الجامعة العربية عاجزة عن القيام بمهامها في حل مشكلات العرب، حتي وإن كانت هذه المهام تحتاج إلي جهود دبلوماسية في الوساطة أو المصالحة بين بعض الأطراف العربية، رغم أن الجامعة تكتظ بالخبرات الدبلوماسية الرائعة.
وقد يكون مفيدا في تفعيل دور الأمين العام أو السكرتير العام، في أي منظمة، أن يتولي منصبه لفترة واحدة، قد تكون طويلة نسبيا، حتي لا يخضع لابتزاز الدول وضغوطها من أجل الاستمرار في ولاية ثانية، حتي لا يؤثر ذلك في قدرته علي العمل باستقلالية ونزاهة. وربما كان المثال الأبرز في هذا الصدد هو ما فعله د. بطرس بطرس غالي -مؤسس هذه المجلة- عندما كان يشغل منصب الأمين العام للأمم المتحدة، حيث رفض الخضوع للابتزاز الأمريكي للولوج إلي مقعد الولاية الثانية، عندما خالف الرغبة الأمريكية في عدم نشر تقرير الأمم المتحدة عن مذبحة قانا، والذي أدان العدوان الإسرائيلي عليها، وأصر د. غالي علي موقفه، وخسر منصبه، لكنه كسب قيمته التاريخية والإنسانية.
وأخيرا، يتمثل العائق الخامس في طريقة اتخاذ القرارات التي تتم في العديد من المنظمات الإقليمية، والتي تتراوح بين التصويت بالموافقة بالإجماع، أو بالأغلبية لمن وافق عليها، أو عن طريق التوافق بين الدول الأعضاء.
وهذه الطرق تكاد تكون معرقلة لاتخاذ القرارات المهمة، وربما اضطر بعض الدول للموافقة تحت تأثير ضغوط دول أخري، أو لتحسين الصورة العامة للدولة العضو، ثم تتجه النية لعرقلة القرار، وعدم تنفيذه بحجة عدم تصديق البرلمان الداخلي، أو أن تتم الموافقة دون الوفاء بالالتزامات المترتبة علي هذه الموافقة، أو بسبب تعرض الدولة العضو لضغوط خارجية.
ومثلما كانت هناك عوائق أمام تقدم المنظمات الإقليمية، كانت هناك أيضا محفزات وعوامل للنجاح. ويتمثل العامل الأول في البداية بأهداف محددة وبسيطة، ثم الانتقال لأهداف أكبر بشكل تدريجي. فالاتحاد الأوروبي بدأ تجربته من خلال المنهج الوظيفي، وهو العمل في قطاع محدد، ثم يستدعي النجاح لقطاع آخر، وفقا لنظرية “الدومينو”، وهو ما فعلته أيضا رابطة الآسيان في تحقيق أعلي معدلات للنمو الاقتصادي والتبادل التجاري.
أما العامل الثاني، فيكمن في ضرورة أن يكون هناك عائد سياسي، واقتصادي، واجتماعي متوقع من مشروعات هذه المنظمات تدركه الشعوب، وأن يكون الاستمرار في المنظمة الإقليمية غير معوق للنمو الاقتصادي، أو مهدد للحالة الأمنية الداخلية. فالشعب البريطاني، الذي صوتت أغلبيته علي الخروج من الاتحاد الأوروبي، يشعر بالسخط من سياسات التقشف، وتزايد البطالة، وتراجع النمو الاقتصادي، ومن عدم قدرة الاتحاد الأوروبي علي مواجهة قضية الهجرة.
أما العامل الثالث، فيتمثل في ضرورة عدم الاهتمام بالأمور الشكلية والمؤسسية، والاهتمام بالمشروعات والنجاح فيها. فما أكثر المؤسسات التي شكلها الاتحاد الإفريقي، لكنها ظلت حبرا علي ورق، مثل الجماعة الاقتصادية الإفريقية التي تمت الموافقة عليها في عام 1994، ولم تدخل حيز التنفيذ حتي الآن. أما رابطة “الآسيان”، فلم تعتمد ميثاقها إلا بعد 40 سنة من إعلان “بانكوك”، وبعد توالي النجاح في تجارب العمل المشترك
أما العامل الرابع، فيتمثل في الواقعية، سواء في اختيار مشروعات قابلة للتحقق، ويتم النجاح فيها، أو في اختيار التوقيتات المناسبة والمتماشية مع المتغيرات الإقليمية والدولية، مثل قيام منظمة الدول الأمريكية بالتوسط بين كوبا والولايات المتحدة الأمريكية في عام 2015، وربما كان ذلك النجاح الأبرز لها علي مدي تاريخها، أو مثلما فعلت رابطة الآسيان، التي بدأت بطيئة الخطي، خلال العقود الثلاثة الأولي من إنشائها، ثم انطلقت في العقدين الأخيرين، فكان الإنجاز الكبير في تحقيق أعلي معدلات للتنمية الاقتصادية، وحدوث تحول ديمقراطي في معظم دولها، وانفتاح إقليمي ودولي، والعبرة بالنتائج كما يقولون.
أما العامل الخامس للتقدم، فيكمن في مشاركة الشعوب في عملية التكامل. فرابطة الآسيان جعلت من المواطن في دول الرابطة هدفا لمشروعاتها، كما تم الترويج للانتماء لهذه الرابطة بين مواطني دول الآسيان. لكن في معظم المنظمات الإقليمية -باستثناء الاتحاد الأوروبي- فإن الشعوب غائبة تماما عن المشاركة، فلا هي تشارك بشكل مباشر في مؤسسات الاتحاد، علي غرار الاتحاد الأوروبي، ولا هي كانت هدفا لمشروعات المنظمة، كما في رابطة الآسيان. والأكثر من ذلك أن المواطن العادي في دولته لا يشعر بتأثير المنظمة الإقليمية، كما هو حادث في تجربة الاتحاد الإفريقي. أما الشعوب العربية -التي لا تشارك أيضا في أعمال الجامعة العربية- فهي وإن كانت الأكثر متابعة لأداء الجامعة، وعلقت عليها الآمال الكبيرة، فإن الإحباط قد أصابها بسبب ضعف المنجز علي مستوي العمل العربي المشترك علي مدي العقود الفائتة. وبالتالي، فإن الشعوب يمكن أن تكون حاضنة وحامية لمستقبل هذه المنظمات الإقليمية، بدلا من أن تكون ساخطة، ومشككة، وهادمة لها، كما في تجربة الشعب البريطاني الخارج من الاتحاد الأوروبي.
وبذلك، فإن هناك العديد من العوائق التي وقع معظم المنظمات الإقليمية في براثنها، مما أعاق قدرة المنظمات الإقليمية عن أداء المهام الموكولة إليها، وجعلها عاجزة عن الوفاء بتطلعات الدول الأعضاء -شعوبا وحكومات- وجعلها أيضا قابلة للتفكك والاندثار مستقبلا.
في حين أن هناك عوامل دفعت بعض المنظمات الإقليمية إلي التقدم والنجاح. وقد ظهرت بشكل لافت في تجربة رابطة الآسيان، التي تعد من أبرز التجارب نجاحا بعد الاتحاد الأوروبي بما هو متحقق فعلا من نجاحات قد تساعدها علي الاستمرار، وبكفاءة وفاعلية.
وعليه، فإنه يمكن القول إن المنظمات الإقليمية في مفترق الطرق، فأغلبها، كما أسلفنا، معرض للتفكك، وأقلها قادر علي الاستمرار. ولا شك في أن مستقبل هذه المنظمات ينحصر في عدة سيناريوهات. فإما أن تسير المنظمات ذات الأداء السيئ في طريقها دون تطوير أو تفعيل لمؤسساتها، فهي بذلك ستكون معرضة لانتهاء صلاحياتها، وانتفاء دورها، أو أن تأخذ هذه المنظمات ودولها بدعاوي الإصلاح المتجددة دائما، وذلك بإصلاح الهياكل المؤسسية، وإشراك الشعوب في أهدافها، وتجديد الإرادة السياسية نحو الفاعلية، والإنجاز، والتقدم. وفي هذه الحالة، قد يكتب لهذه المنظمات مستقبل مغاير أكثر كفاءة، وفاعلية، واستمرارية.
أما المنظمات الإقليمية الناجحة، فيمكنها الاستمرار في نجاحها لأجل طويل نسبيا، ولكنها أيضا ليست محصنة، إذا ما تغيرت الظروف، أو تراجعت إرادة دولها، أو ركنت إلي ما تحقق من إنجاز، دون أن تطور من نفسها، ومن أدوارها.
ولذلك، فإن “السياسة الدولية”، من خلال نخبة من الخبراء والمتخصصين، تفتح ملف “المنظمات الإقليمية” في محاولة للتعرف علي واقع هذه المنظمات ومستقبلها، في ضوء تجربة الاتحاد الأوروبي الأكثر نجاحا، والتي تعرضت لأزمة، هي الأكثر جراءة في تاريخ التكامل الأوروبي، بخروج بريطانيا، الدولة الكبري، بعد استمرارية اقتربت من العقود الأربعة، الأمر الذي قد يهدد ليس فقط مسيرة التكامل الأوروبي، بل يهدد أيضا مسيرة المنظمات الإقليمية برمتها.
أبو بكر الدسوقي
مجلة السياسة الدولية