عقدت مؤسسة الفكر العربي بالاشتراك مع الأمانة العامة لمجلس التعاون ورشة عمل ليوم واحد في الرياض الأسبوع الماضي من أجل جولة أفق للتعرف على تفكير بعض المهتمين من أبناء دول المجلس حول ما حققته المنظومة حتى الآن، وطرح تصورات المستقبل لهذه المجموعة السياسية التي تقترب سريعًا من سن النضج، وما يواجهها من تحديات وفرص.
الاطلاع على ما حققه مجلس التعاون من إنجازات حتى الآن في الأمور الاقتصادية والبيئة القانونية المشتركة به الكثير من الإنجازات، إلا أن الكثير ما زال مطلوبًا، خصوصًا من منظور المستقبل الاستراتيجي لهذه المنطقة وبقائها آمنة. لخص الأمين العام عبد اللطيف بن راشد الزياني الوضع كما يراه بأقل العبارات عددًا وأكثرها وضوحًا، وأستأذنه في النقل، فقال: «إن دول مجلس التعاون تشبه اليوم حدائق في وسط حرائق»، وهو تعبير يجمل الوضع الجيوسياسي الحالي وتحدياته الكبرى.
لقد قام قادة مجلس التعاون في عام 1981 بإنشاء هذا المجلس، وحرب شعواء مضطرمة حول الحدود الخليجية، وهي الحرب الإيرانية – العراقية المدمرة، التي كانت أصوات مدافعها هادرة تسمع في بعض دول الخليج، وقتها قرر أولئك القادة الميامين أن الوقت قد حان من أجل إنشاء سياج سياسي لتخفيف الأضرار المحتملة من تلك النيران المشتعلة وتطويق تداعياتها على الإقليم، وها هي نيران أخرى تشتعل في الجوار، سواء في اليمن أو في سوريا أو العراق، وهي نيران ليست أقل ضررًا من تلك النيران التي اشتعلت في مطلع ثمانينات القرن الماضي، بل هي أكثر حرارة وضررًا، وتداعياتها على المنظومة تنذر بشر، كما أن منظومة المجلس تحتاج إلى نقلة نوعية في العمل الجماعي لدول الخليج، وتأخذ هذا التجمع المتقارب إلى مكان أكثر تحصينًا من النيران والأطماع، وأقل تأثرًا بلهيب الحروب المحيطة، والمخرج شبه الوحيد للنجاة من كل أشكال التحديات التي يفرضها اضطراب الإقليم الهائل، أن يذهب الجميع على الأقل إلى كونفدرالية ترص الصفوف وتجمع الموارد.
المحقَّق في مسيرة مجلس التعاون ليس بالقليل، ولكن المأمول أكثر، فقد تبين الآن أنه بتوحيد التعرفة الجمركية، على سبيل المثال، ورفعها من بين الدول الأعضاء، فإن الجميع قد ربح، بعد أن تلكأت الاتفاقية لفترة من الزمن، وعاد على الجميع في التجارة البينية بمليارات الدولارات، بعد أن كان بالملايين فقط! فما هو محقَّق في مجالات مختلفة أخرى كثير، وما الإشارة إلى الاتفاق الجمركي إلا لواحد من النجاحات، إلا أن السرعة في الإنجاز هي المطلوب، وأكثر إلحاحًا اليوم، لأن العالم من حول دول المجلس يتغير، إما من خلال سرعة تحقيق اتفاقات اقتصادية كبرى، أو من خلال حروب أهلية وإقليمية تكاد تأكل الأخضر واليابس في الجوار، أو من خلال ضغوط تراجع عائدات النفط، وتهديد الاستثمارات في الخارج.
تحيط بدول الخليج كتل بشرية ثقيلة وكبيرة، وبعضها لا يخفي طموحه في التمدد العدواني، فهناك ثمانون مليونًا من البشر في إيران، ومثلهم تقريبا في تركيا، وفي الشرق هناك الهند بثقلها البشري الذي يفوق المليار إنسان وبضع مئات من الملايين، أو باكستان التي يقطنها نحو مائتي مليون من البشر، في الوقت الذي لا يتجاوز سكان مجموع دول مجلس التعاون نحو خمسين مليون نسمة، يجاورهم في الغرب ثقل بشري ضخم وتحديات تقنية وسياسية مشهودة.
الخط التجاري الذي عقدت اتفاقيته أخيرًا بين الهند وروسيا الاتحادية التي تتقدم بمصالحها في المنطقة، سوف يأخذ التجارة المارة في البحر والبر إلى آفاق ضخمة من المصالح، وهو خط تجاري يبدأ من جنوب الهند، مرورًا بإيران، وانتهاء ببطرسبورغ في روسيا الاتحادية، وهو يعني الاستغناء جزئيًا عن الخط التجاري المار بالبحر الأحمر صعودًا إلى قناة السويس، ويوفر جزءًا كبيرًا من تكاليف النقل، وهناك خط آخر هو خط نقل الغاز الروسي المار بتركيا ومتوجه إلى أوروبا، الذي سوف يخفض في نهاية المطاف تكلفة الطاقة في عدد من دول أوروبا، وبالتالي يزيد الاعتماد على الطاقة المقبلة من روسيا، مع تحقيق مصالح روسية تركية واضحة في مجالات تقاسم المغانم في الفضاء العربي. هذان مثالان من بين أمثلة كثيرة تُفصح دون شك عن أن دول الجوار الإقليمي ذات الثقل البشري والكثافة الاقتصادية تحقق شراكات ليست اقتصادية فقط، بل وأيضًا استراتيجية، تستفيد منها الشعوب، وترسل رسائل تغير جوهر التفاعل المنتج للأمن والاقتصاد معًا.
بجانب أن تحديات الحروب الجديدة، وهي حروب يختلط فيها الثقافي بالسياسي بالسيبراني، التي تحيط بالإقليم الخليجي وتفكك السلطات القائمة، تحتاج إلى طرق مواجهة غير تقليدية، بل إن مصالح دول جديدة، مثل روسيا الاتحادية وتركيا وإيران، تشق طريقها دون إبطاء في الفضاء القريب من الخليج متحالفة مع دول إقليمية.
إذًا التحديات أمام دول مجلس التعاون لا تحتاج إلى كثير شرح وبيان، المطلوب هو التفكير الجاد في كيفية مواجهة هذه التحديات، أما خيار تجاهل تلك التحديات فهو يشكل غفلة غير مطلوبة في هذا الزمان والمكان، ومغامرة بمستقبل الجميع. في كل أزمة هناك فرصة، في الأزمة الأولى في ثمانينات القرن الماضي، ظهرت فرصة بزوغ مجلس التعاون، أما الأزمة الحالية فهي تتطلب النظر جديًا في تطوير المنظومة إلى شيء من الكونفدرالية الجادة على الأقل، وهي فرصة مواتية، لأن التحديات الشاخصة لم تعد اشتعال حروب في الجوار فقط والنأي بالنفس بعيدًا عنها، كما في السابق، بل أصبحت الحروب بجانب «حموتها» العسكرية، حروبًا اقتصادية ودبلوماسية وثقافية وإلكترونية حامية الوطيس، منها أيضًا على سبيل المثال تراجع القيمة النسبية الاستراتيجية لدول عربية كانت ذات ثقل سياسي في السنوات السابقة، ومنها أيضًا ما يصدر من قوانين، مثل قانون «جاستا» سيئ الذكر، الذي يسعى إلى محاصرة الاستثمار الخليجي في الولايات المتحدة، وهو موجه لمعظم دول الخليج، وليس لدولة واحدة فقط!
لم تكن هذه الأفكار بعيدة عن النقاش في خلوة الرياض، الأسبوع الماضي، وليست المخاوف التي ذكرتُ بعضها مقتصرة على المراقبين من أبناء المجلس، بل هي واضحة أيضًا لدى من يُسميهم الأستاذ عبد الله بشارة، أول أمين عام لمجلس التعاون «مُجالسي متخذي القرار»؛ فهم يرونها رؤية العين، وأعتقد أنه فيما نشهد من ثورة في وسائل الاتصال، ليست الأفكار السابقة بعيدة حتى عن متخذي القرار الخليجي أنفسهم. لا تنقصنا في الخليج الأفكار، ما ينقص إلى حد كبير هو تحويل تلك الأفكار إلى أعمال على الأرض، تمنع الأسوأ، وتغادر الجمود السياسي.
آخر الكلام:
أول ضحايا الصراع الدائر والمدمر في الجوار الخليجي هو ضياع العقلانية، حتى أصبح بعض السياسيين يتبادلون التنابذ بالألقاب على وسائل التواصل الاجتماعي!
محمد الرميحي
الشرق الاوسط