شكل العاشر من حزيران/حزيران عام 2014 علامة فارقة في مسار الأزمة العراقية تحديدا والأزمة الإقليمية عموما، حيث سيطر تنظيم داعش على مدينة الموصل. أدى السقوط المريع للمدينة إلى انهيار المنظومة الأمنية والعسكرية العراقية مما سمح لقواته (والتي قدرت في تلك الفترة بعشرات المئات من المقاتلين المزودين بالأسلحة الخفيفة والمتوسطة) من السيطرة على أربع محافظات عراقية زادت مساحتها الإجمالية عن 40% من مساحة العراق. أدى التقدم السريع لتنظيم داعش واقترابه من العاصمة بغداد إلى إصدار المرجع الديني علي السيستاني فتوى الجهاد الكفائي والتي أسس بناء عليها الحشد الشعبي كما أنشأت الولايات المتحدة الأمريكية تحالفا دوليا ضم أكثر من 60 دولة لمحاربة التنظيم.
تأتي أهمية معركة الموصل كونها أحد مركزي الثقل بالنسبة لتنظيم داعش في كل من سوريا والعراق، ومنها أعلن البغدادي ولادة “دولته،” وتحتل موقعا إستراتيجيا فريدا فهي حلقة الوصل بين تركيا وسوريا والعراق بما فيه إقليم كردستان، كما أنها تقع على طريق الحرير الجديد الذي يسعى النظام الايراني إيران منذ عقود ليصل به بالبحر المتوسط، لذا تسعى جميع الأطراف المتأثرة بنتائج معركة الموصل للاشتراك بها لتأمين مصالحها.
قد تندلع المعركة في أي لحظة بقطع النظر عن الخلافات القائمة حولها. ومن الواضح أن قرار الإسراع ببدء المعركة جاء وليد حسابات أميركية خاصة. فقد قررت الإدارة الأميركية خوض معركة الموصل قبل انتهاء الفترة الرئاسية للرئيس أوباما وتريد حسمها قبل الانتخابات الرئاسية المقررة ليوم 23 تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل. وذلك لعدّة أسباب منها: تثبيت وجودهم في عمق العراق، وبالذات في قاعدة «القيارة» العسكرية التي تم تحريرها قبل عدة أشهر، والتي تبعد 58 كيلو متراً جنوبي الموصل، وهي موقع استراتيجي شديد الأهمية لمواجهة أية طموحات إيرانية في العراق، على حساب النفوذ والمصالح الأمريكية، التي يسعى الأمريكيون مجدداً إلى تثبيتها من خلال مشاركتهم وإشرافهم على معركة تحرير الموصل، وتبني دعوة إبعاد الحشد الشعبي عن المشاركة في هذه المعركة. وتحقيق انتصار عسكري ضد تنظيم داعش يُسجل لباراك أوباما شخصيا ويدعم مرشحة الحزب الديمقراطي ويزيد من فرص وصولها للبيت الأبيض، كما يتضمن رسالة مباشرة لروسيا بأن الرئيس الأميركي قادر على اتخاذ القرارات الإستراتيجية حتى الأيام الأخيرة من رئاسته وبأنه ليس البطة العرجاء.
فقد اختار الأميركيون الجيش العراقي و «البيشمركة» قوة أساسية في معركة الموصل. وعززوا حضور قواتهم بمزيد من الجنود، بناء على طلب الحكومة. اطمأنوا منذ أن تدخل الروس في سورية وأقاموا وحدة تنسيق أمنية مع بغداد ودمشق وطهران في العراق، إلى أن موسكو لن تُستدعى إلى بلاد الرافدين كما هي الحال في بلاد الشام. كأن ثمة تفاهماً بين الدولتين الكبريين على تقاسم النفوذ: لنا هنا ولكم هناك. وهذا ما تشي به الحملة الروسية على حلب من جهة والحملة الأميركية القريبة على الموصل. والقاسم المشترك هنا وهناك إيران وتركيا. وهذا مرد الصخب المرتفع بين الأطراف الإقليمية والمحلية المنخرطة في الحرب على تنظيم اداعش، والمصاحب الحملتين على المدينتين الرئيسيتين. وواضح أن ثمة صراعاً علنياً بين طهران وأنقرة على وراثة «داعش» في محافظة نينوى كلها، فضلاً عن شهية الكرد الذين لا يخفون أن تضحياتهم في مكافحة الإرهاب لن تكون مجانية. الرئيس رجب طيب أردوغان وحكومته يحذران منذ أيام من خطر مشاركة الحشد الشعبي في معركة استعادة الموصل. ولا تقيم وزناً لاعتراضات حكومة بغداد التي نقلت الأزمة بينهما إلى مجلس الأمن الذي يقلل هو الآخر من شأن الشكوى التي رفعها وزير الخارجية إبراهيم الجعفري، على حد ما صرح به الوزير نفسه. وحكومة بن علي يلدريم ليست وحدها في معارضة اشتراك الحشد الشعبي. واشنطن تعترض أيضاً. فضلاً عن قادة «الحشد العشائري» السنّي. بينما يصر «الحشد» على دوره في تحرير المدينة.
وحذر متابعون للشأن العراقي من أن سعي واشنطن لتجميع أطراف متناقضة المصالح والأجندات يمكن أن يحوّل اتجاه المعركة إلى معارك هامشية بين ميليشيات طائفية مختلفة وراءها تركيا وإيران، بدل المعركة الأصلية مع داعش. وسعى الأميركيون إلى طمأنة الجميع بأن مكانهم محفوظ في المعركة، فهي تظهر دعمها لرئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي في رده على تصريحات مهينة من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وتقول إن أي مشاركة في الحرب لا بد أن تكون بالتنسيق مع الحكومة العراقية.
واعتبر محللون أن ما يقلق الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ليس مجريات معركة الموصل بل توازن القوى الجديد الذي سينتج عنها. ويقول إيكان أردمير من مؤسسة الدفاع عن الديمقراطية، مقرها واشنطن، “إنه قلق حيال التكوين الاثني والطائفي في الموصل ويريد التأكد من عدم هيمنة الأكراد والشيعة”. ويضيف “لا تريد أنقرة البقاء خارج اللعبة في العراق”.واعتبر سونر كغبتاي مدير برنامج الأبحاث التركية في معهد واشنطن أن الخطاب الشديد اللهجة للمسؤولين الأتراك يظهر أنهم “بصدد التحضير لمرحلة ما بعد الموصل”. وفي المقابل فصلت الكاتبة التركية فيردا أوزير مخاوف تركيا في مقالة لها الأسبوع الماضي من أن تغيير التركيبة السكانية للموصل سيؤدي إلى تسهيل مهمة النظام الإيراني في توطين ميليشياتها الشيعية في بلدة تلعفر، وكل سكانها من التركمان، ما يجعلهم تحت نفوذ إيران، ويجعل من تلعفر قاعدة إيرانية أخرى.
لذا عوامل سياسية واجتماعية وعسكرية وجغرافية معقدة تجعل من معركة الموصل صعبة، ولم تكن هذه العوامل موجودة خلال معارك استعادة تكريت وبيجي والرمادي والفلوجة والرطبة، فالموصل دخلت في الحسابات الدولية مع انضمام تركيا إلى الأحداث، والجميع يسعى للمشاركة ورسم المستقبل وفق مصالحه، بالمحصلة فإن المعركة العسكرية ستثير مشكلات سياسية وقومية ودينية وعرقية بقيت منذ عقود بلا حلول.
فمعركة الموصل عبارة عن تشكيلات مسلحة متناقضة على عكس باقي المعارك التي خاضتها الحكومة العراقية ضد تنظيم داعش في صلاح الدين والأنبار وديالى عبر قوات الجيش والشرطة الاتحادية والفصائل الشيعية المتحالفة معها، هناك تشكيلات مسلحة أخرى تسعى إلى المشاركة في معركة الموصل، ولكل منها أهدافها الخاصة. كالحشد الشعبي، وقوات أثيل النجيفي، وحزب العمال الكردستاني، والقوات التركية. وجميع هذه القوات لها هدف واحد هو القضاء على تنظيم داعش، ولكن الخصومات بينهم شديدة، ولا تنسيق مشتركا للمعركة المرتقبة.
في المعارك السابقة الجيش العراقي ضد تنظيم داعش تمكن من تحقيق انتصارات ساحقة في صلاح الدين والأنبار وديالى، وهي مناطق يقطنها سكان سنّة فقط، ولكن في الموصل القضية أكثر تعقيدا، فمحافظة نينوى ثاني أكبر مدينة في العراق من حيث السكان، البالغ عددهم نحو ثلاث ملايين نسمة، تتركز غالبيتهم في مدينة الموصل. إذ تقطن المحافظة أغلبية عربية بنسبة 80 في المائة، موزّعين بين ديانات عدة، أبرزها الإسلامية، والمسيحية، والآشورية، إضافة إلى القوميتين الكردية والتركية، وأقليات دينية مثل، الصابئية، والإيزيدية، الزرادشتية، والكاكائية، والآشورية، والشبك، مما دفع مراقبين إلى التعبير عن مخاوفهم من أن يؤدي ذلك إلى صراع جديد في البلاد في مرحلة عراق ما بعد داعش.
ستحول هذه التركيبة المعقدة المعركة العسكرية إلى معركة دينية وطائفية وقومية، حيث تسعى الفصائل الشيعية إلى استعادة السيطرة على مدينة تلعفر التي تضم نحو نصف مليون شيعي من طائفة الشبك، بينما تسعى البيشمركة إلى السيطرة على قضاء سنجار ومناطق سهل نينوى التابعة إلى المسيحيين وضمها إلى إقليم كردستان، ويرفض السنّة مشاركة الفصائل الشيعية والبيشمركة في المعركة.
وأكثر ما يقلق حول الموصل ليس المعركة العسكرية بل مستقبل المدينة بعد طرد المتطرفين، والسجالات الحادة تدور حول كيفية إدارة محافظة نينوى الكبيرة في المستقبل، وظهرت مقترحات لتقسيمها إلى إدارات مستقلة عن بعضها. وأبرز الكوارث التي سيورثها تنظيم داعش هو التغيير الديموغرافي الذي تعرضت له نينوى خلال السنتين الماضيتين، حيث هاجر جميع السكان المسيحيين الذين تبلغ إعدادهم بنحو 150 ألف مسيحي من الموصل ومناطق سهل نينوى، وهم يسكنون الآن في أربيل عاصمة إقليم كردستان بينما هاجر بعضهم إلى أوروبا والولايات المتحدة. ويرفض هؤلاء العودة إلى مناطقهم من جديد، ويقول الكثير من المسيحيين الذين يسكنون في مخيمات إنهم فقدوا الثقة في سكان الموصل، وهم يخشون من عمليات انتقامية. والشيء نفسه ينطبق على الشبك الشيعة الذي يسكنون قضاء تلعفر ويبلغ عددهم نحو نصف مليون شخص نزح غالبيتهم إلى محافظات كربلاء والنجف الشيعية، ويقولون إنهم لن يعودوا إلى مدينتهم التي تحيط بها بلدات سنية من كل جانب.
وأول المقترحات المثيرة للجدل التي برزت خلال الأسابيع الماضية هو تقسيم نينوى إلى محافظات عديدة حسب تقسيمها القومي والديني، تكون هناك مدن خاصة بالمسيحيين والإيزييديين والسنّة والشيعة مستقلة عن بعضها البعض وتقوم بحماية نفسها دون الاكتراث بالمدن المجاورة. ولا تمتلك الحكومة العراقية رؤية جديدة لمستقبل نينوى، وتسعى إلى إعادة النظام الإداري الذي كان قائما فيها قبل احتلال داعش ويرتكز على محافظة واحدة تضم جميع البلدات السنّية والشيعية والكردية والإيزيدية.أما القيادات السياسية السنّية التقليدية فبدأت ترتيب أوراقها من أجل المطالبة بالأقاليم في الأنبار ونينوى، ويقترح المحافظ السابق لنينوى، أثيل النجيفي، تأسيس إقليم نينوى، فيما يطالب مسؤولو الأنبار بتحويل المحافظة إلى إقليم أيضا.
لن يتوقف الصخب المرافق الاستعدادات لمعركة الموصل. والأرجح أنه لن يتوقف أثناء المعركة التي باتت قريبة ولا بعد انتهائها. ومرد هذا الصخب إلى تنوع الأطراف الطامحة إلى المشاركة في تحرير المدينة. وإلى اختلاف أجندات هذه الأطراف. والأهم أنها تاريخياً شكلت عقدة وصل بين بلاد الرافدين وإيران وتركيا. لذا، سيؤشر مستقبلها بعد التحرير إلى مآل محافظة نينوى ومستقبل العراق برمته وأهل السنّة خصوصاً وسائر القوى المنخرطة تحت شعار محاربة «داعش». فالذين سيمسكون بها أو يتقاسمونها ستكون لهم كلمة وازنة في تقاسم السلطة في كل البلاد. لهذا السبب، ربما تتأخر ساعة الصفر لانطلاق الحرب من أجل تحريرها. وقد تتأخر الساعة بانتظار ما سيؤول إليه مصير مدينة حلب. فالأميركيون الذين يديرون عملياً معركة الموصل، وهم من يرسم حدود الأدوار فيها يعنيهم مصير الإرهابيين بعد تحريرها. ومما لا شك فيه أن تنظيم داعش لن يجد مفراً من التوجه نحو الرقة، ملجأه الأخير. وهو ما قد يبدل في مجريات الحرب في سورية برمته. وربما أعاق خطط النظام في دمشق وحلفائه الروس والإيرانيين الذين يرفعون شعار الحسم العسكري أساساً لأي تسوية لأزمة بلاد الشام.
إذا كان مصير حلب سيقرر مستقبل سورية، فإن مصير الموصل سيقرر أيضاً مستقبل العراق. سيحصد النظام الإيراني الكثير من استعادة دمشق للعاصمة الشمالية. وسيكون لها نصيبها من استعادة المدينة الثانية في العراق الذي قد ينزلق إلى حروب أهلية. يبقى السؤال عن حصة تركيا، وعن دور الولايات المتحدة وروسيا اللتين تتحملان العبء الأكبر في إدارة الحملتين هنا وهناك. هل تبقى لديهما القدرة على التحكم برسم المشهد الإقليمي أم يسلمان للقوى الإقليمية بحصاد ما يزرعان؟ وهكذا باتت مواجهة تركيا مع النظام الايراني في العراق مكشوفة، وهي حتماً ستلقي بظلالها على آفاق التعاون، أو الصراع المستقبلي بينهما في سوريا داعش، أم أن الهزيمة العسكرية فقط سينتج عنها تنظيم جديد أكثر تطرفا؟
وحدة الدراسات العراقية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية