أجرى الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز بعضَ التغييرات المهمّة التي كان لها كبير الأثر في الوضع الراهن بالمملكة العربية السعودية، لكن إرثه مختلط، على حد قول ريتشل برونسون، الخبيرة في شئون المملكة والزميلة الأولى بمجلس شيكاغو للشئون العالمية. وبحسب برونسون، في حوارها مع روبرت ماكماهون، المحرر بمجلس العلاقات الخارجية الأمريكي، فإن الحملة التي شنها ضد الحراكات المحلية المرتبطة بالانتفاضات العربية تُلقي بظلالها على الإنجازات التي حققها من قبيل التدابير المضادة للفساد. والتحرك الأعظم دلالةً الذي قام به عبد الله، برأي ريتشل برونسون، هو وضع خطة لانتقال السلطة على نحو مستقر إلى كادر قيادي شاب.
ما الإرث الذي تركه حكم الملك عبد الله، لا سيما فيما يخص الإصلاحات الداخلية، والعلاقات مع الولايات المتحدة والسياسة الخارجية؟
بدأ الملك عبد الله عهده في عام 2005 في ظل آمال كبيرة في أن يستأصل شأفة الفساد الذي ابتُلي به سلفه الملك فهد، ويعمل صوب أن تكون المملكة العربية السعودية بلدًا للجميع. وفي جولة حظيت بتغطية مكثفة قام بها سيرًا على الأقدام في أحد أحياء الرياض الفقيرة؛ لفت عبد الله الانتباه إلى التوزيع غير العادل للثروة في المملكة العربية السعودية، وذلك على الرغم من الإيرادات النفطية الهائلة التي يُحققها البلد.
وقد عمل ضد مصالح كثيرين من أشقائه وأبناء عمومته ومنسوبي المؤسسة الدينية الذين استفادوا من النظام الاقتصادي القائم، وضمّ السعودية بصعوبة إلى عضوية منظمة التجارة العالمية، واتخذ تدابير أخرى للقضاء على الفساد.
بل وربما الشيء الذي كان يُعطي أملا أكبر هو جهوده التي بذلها لوضع تعريف أوسع لمضمون المواطن السعودي. حيث مد -من خلال سلسلة من الحوارات الوطنية- يده إلى المرأة والأقلية الشيعية وغيرهما من الفئات المهمشة، كما ضمن للمرأة مكانًا في مجالس الشورى المحلية، وناقش التسامح حول العالم.
غير أن هذه الجهود الأخيرة تعثرت إلى حدٍّ كبيرة في النصف الأخير من عهده، ولعل هذا كان نتيجة تقدمه في السن، لكنه كان أيضًا نتيجة الربيع العربي. فخشية وقوع قلاقل في المملكة، أغدق عبد الله الأموال على السكان، وضيَّق الخناق على المعارضين، فوجد النشطاء والمدونون والمصلحون الذين كان الأمل يملؤهم قبل ذلك بأشهر فحسب، صفحاتهم على الفيسبوك قد أُغلقت، وزُجَّ بكثير منهم في السجون هم ومحاموهم. كما خضعت المناطق التي تضم طائفة شيعية كبيرة لتمحيص غير عادي.
وتُذكّرنا واقعة جلد رائف بدوي، التي حظيت بتغطية إعلامية مكثفة منذ بضعة أسابيع فحسب، بالآمال التي تحطمت لدى كثير من السعوديين، كما أنها تلطّخ إرث عبد الله الذي كان ذات يوم واعدًا جدًّا.
على الرغم من سرعة إعلان المملكة سلمان خليفة للملك عبد الله على عرش البلاد، فهل سيُطعن في هذا -جزئيًّا- باعتبار ما تشير إليه التقارير من تدهور الحالة الصحية للملك البالغ من العمر تسعة وسبعين عامًا؟
أكبر مساهمة لسلمان في حكمه، التي ستُعتبر الجزء الأعظم بُشرى من إرثه، هي تعيينه محمد بن نايف كولي لولي العهد. فهذا أمر غير مسبوق.
ويمثل انتقال السلطة من الملك عبد الله إلى الملك سلمان الانتقال إلى الملك السعودي السابع، وهذا شيء لافت للأنظار بالنسبة لأي بلد حديث النشأة (تأسست المملكة العربية السعودية في عام 1932)، ناهيك عن كون هذا البلد أمة شرق أوسطية في خضم زماننا المضطرب هذا. فالسلطة لم تنتقل بسلام مرة أخرى فحسب، بل تم بالفعل تعيين الوريث التالي على العرش [بعد الملك سلمان]، وأعني الأمير مقرن.
فالملوك الستة السابقون كلهم كانوا أبناء الملك الأول، وهو الملك عبد العزيز، وكان يُتوقع أن يأتي التحدي الأكبر بعد رحيل مقرن عن المشهد، وذلك عندما لا يكون هناك أحد متبقيًا من أبناء الملك عبد العزيز. وقد تُجنّبت تلك المشكلة بتعيين الأمير محمد في منصب ولي ولي العهد، وهو ابن الأمير الراحل نايف، أحد أبناء الملك المؤسس. لقد تم تعيينه وليًّا لولي العهد، وسيكون أول حفيد للملك يتولى حكم البلد.
يحدث هذا التغير في القيادة في وقت يشهد تهديدات متصاعدة تشكّلها الدولة الإسلامية في العراق وسوريا، وانهيار الحكومة الموالية للسعودية في اليمن، فضلا عن الانخفاض الحاد في أسعار النفط. فما قدرات هياكل الحكم السعودية في التعامل مع هذه التحديات المتعددة؟
هذه أوقات عصيبة بالنسبة للمملكة. الانقلاب الذي جرى يوم الخميس (22 يناير 2014) في اليمن حوَّل وضعها من السيئ إلى الأسوأ. وقد أبدى القادة السعوديون استجابة متشنجة تجاه الأوضاع في اليمن، ويراقبونها بقلق أكثر من أي بلد آخر من جيرانها، ربما باستثناء إيران. فاليمن بلد كبير وفقير يسكنه نحو 25 مليون نسمة، وحدود البلد التي كانت ذات يوم مهلهلة ظلت منطقة يعبر من خلالها المخربون إلى أرض المملكة بسهولة تامة. وقد أرسلت المملكة العربية السعودية قواتها المسلحة مرارًا إلى داخل الأراضي اليمنية.
وإذ تنظر القيادة السعودية إلى معظم الأحداث من خلال عدسة الطائفية، فإنها ستفسر هذا الانقلاب على أنه فوز آخر لعدوها اللدود إيران؛ إذ إن إيران لديها الآن حلفاء يتربعون في عواصم كثيرة من جيران السعودية، بما في ذلك سوريا والعراق واليمن وإلى حدٍّ ما لبنان.
وسيكون اليمن أول تحدٍّ دولي في مواجهة الملك سلمان. والولايات المتحدة قلقة بالمثل إزاء الأحداث الجارية هناك، لذا فإن هذا سيُتيح فرصةً لمواصلة العمل عن كثب مع الولايات المتحدة في ميدان القضايا الأمنية. لكن لا توجد حلول سهلة في اليمن، وهو ما يَصْدُق أيضًا على سائر المنطقة، والتحدي كبير. وسيكون على المملكة العربية السعودية أن تدرس ما إذا كانت ترسل معونة وأسلحة إلى من تمت الإطاحة بهم، وما نوع المعارضة التي سترغب في مساندتها. لقد أخفقت سياسات السعودية تجاه اليمن إلى حد كبير حتى تاريخنا هذا، لكن المملكة لن تقف مكتوفة الأيدي في ظل وجود المتمردين الحوثيين [المسلمين الشيعة] في سُدة الحكم هناك.
شغل الملك سلمان منصب أمير الرياض فترة طويلة. فما الذي نعرفه عن أسلوبه في الحكم، ورؤاه فيما يخص السياسة الخارجية؟ كذلك ما الذي نعرفه عن رؤى خليفته المفترض الأمير مقرن؟
لعب الملك سلمان أدوارًا مهمةً في القيادة السعودية، بما في ذلك شغله منصب أمير الرياض، وهو منصب مهم إذا أخذنا في اعتبارنا أن معظم القيادة السعودية مقرها هناك. لقد أشرف على انتقال مدينة نمت من أقل من 200 ألف نسمة في عام 1963 إلى 7 ملايين نسمة في يومنا هذا. ووفقًا لمعظم الآراء، فإنه فعل ذلك بمهارة معتبرة.
في مجال السياسة الخارجية، ظل الملك سلمان لاعبًا نشطًا وبارزًا لفترة طويلة. وفي واحد من أدواره البارزة، كان له دور أساسي في توجيه مبالغ نقدية كبيرة إلى باكستان وأفغانستان إبّان فترة الثمانينيات بل وحتى في بداية التسعينيات، وهو ما كان يتفق مع السياسات والمصالح الأمريكية الواضحة.
أما الأمير مقرن فيُنظر إليه أيضًا باعتباره قائدًا كفئًا ومحنكًا. فللخدمة في مناصب حكومية لفترات طويلة بعض القيمة. ولكن لعل الأكثر إثارة للاهتمام هو ما نعرفه عن محمد بن نايف، وزير الداخلية البالغ من العمر خمسًا وخمسين سنة والذي سيعتلي عرش البلاد في نهاية المطاف. حيث أمضى، بوصفه وزيرًا الداخلية، مشواره المهني في الاستخبارات والأمن الداخلي، مثلما فعل والده من قبله.
وتربط الأمير علاقات قوية بالمؤسسة الدينية التي كان الجناح المتطرف فيها أكبر مصدر لعدم الاستقرار في المملكة العربية السعودية. كما كان أيضًا هدفًا لمحاولة اغتيال من جانب متطرفي تنظيم القاعدة. وهو يرى الاستقرار من عدسة الأمن، وقد عمل بشكل وثيق للغاية مع الولايات المتحدة ومكاتب الاستخبارات الدولية الأخرى لفهم الجماعات المتطرفة والتصدي لها.
ومن غير الواضح كليةً ما الذي سيعنيه هذا فيما يخص الأجندة الإصلاحية. فبوصفه قائدًا أصغر سنًّا، هناك أمل في أنه يكون ذا منظور أكثر تقدمية، وأن يكون لديه حس جيد جدًّا فيما يخص المدى الذي يُمكن أن يذهب إليه في الإصلاحات دون المخاطرة بحدوث حركة ارتجاعية. لكننا لن نعرف هذا على وجه اليقين إلى أن يرتدي عباءة القيادة.
اتسمت العلاقاتُ السعودية – الإيرانية بصراعات بالوكالة متزايدة الحدة بالإضافة إلى خُطى تمهيدية نحو الحوار. فهل نتوقع أية تغيرات على هذه الجبهة؟
كلا. قادة المملكة العربية السعودية يتصورون أن هناك معركة وجودية مع إيران تُخاض غمارها في عموم المنطقة. وتبدو إيران في تقدّم في هذه المعركة، وانقلاب الأمس في اليمن لم يكن إلا خسارة أخرى تُمنى بها المملكة. الأداة الوحيدة ضد إيران التي يبدو أنها تفلح بلا رحمة هي انخفاض أسعار النفط، التي سمح لها القادة السعوديون بالهبوط. هذه الأسعار المنخفضة تلحق بإيران ضررًا أكبر مما تلحقه بالسعودية. فعلى الرغم من أن المملكة تتوقع عجزًا في الموازنة في عام 2015، فإنها تستطيع تجاوز هذا العجز بأمان بفضل احتياطياتها الأجنبية البالغة 750 مليار دولار. وأما إيران فهي ليست محظوظة بالقدر نفسه.
فلن يكون هناك تغير كبير تجاه إيران عندما يتعلق الأمر بالقيادة الجديدة. فسوف تظل القيادة السعودية قلقة بشأن زحف إيران، وأي تقارب تبديه الولايات المتحدة تجاه هذا البلد.
إذن فهل نتوقع أن نرى تذبذبًا في سوق النفط نتيجة التغيرات الحادثة على القمة في المملكة العربية السعودية؟
ليس من المفاجئ أن النفط سجل صعودا طفيفا استجابة لأخبار أمس (وفاة الملك عبد الله). من المثير للاهتمام أنه لم يزدد أكثر. في السنوات الماضية، حدثت قفزات أكبر على خلفية أنباء انتقال السلطة، وذلك خشية حدوث قلاقل كبيرة وفوضى في ذلك البلد. هذا الارتفاع الطفيف في أسعار النفط يُظهر درجة أكبر من الفهم والحنكة في الأسواق تجاه واقع انتقال السلطة في السعودية وتوقع الاستقرار.
وقد أعلن سلمان على الملأ مساندته سياسة وزير النفط علي الـنعيمي المتمثلة في السماح لسعر النفط بالانخفاض دون الدفاع عنها. وهذه سياسة مثيرة للجدل نوعا ما في المملكة العربية السعودية، لكني لا أتوقع أي تغييرات مفاجئة فيها، ولا سيما إذا أخذنا في اعتبارنا الضرر الذي تلحقه بإيران.
على أية حال، عادة ما يأتي التغير السعودي قبل وفاة الملك، وذلك عندما يحدث عادة تسابق سياسي (وقد رأينا هذا على مدى العام الماضي). وأية تغيرات أخرى في المواقف الداخلية ستحدث على الأرجح في غضون ست أشهر أو سنة، أو حتى في غضون فترة أطول بعد وفاة الملك.
في وقت الانتقال، كل القوى تدفع في اتجاه الاستمرارية. فالقادة السعوديون يعرفون أن أنظار العالم موجهة إليهم، وإذا كانت هناك رسالة واحدة يأملون في إرسالها، فهي رسالة مفادها الاستقرار والوضوح.
روبرت ماكماهون
اعداد :طارق راشد عليان
المركز الاقليمي للدراسات الاستراتيجية