ليس بعيداً عن الموصل، ثمة قوة عسكرية ضخمة تضع اللمسات الأخيرة على خطط لتقدم ما يزال قيد التحضير منذ أكثر من ثلاثة عقود. وهذه القوات هي مليشيات شيعية كانت قد قاتلت “داعش”، لكنها لم تحصل على دور مباشر في الهجوم القادم لتحرير ثاني أكبر المدن العراقية من براثن التنظيم الإرهابي.
بدلاً من ذلك، وبينما يهاجم الجيش العراقي من الجنوب، سوف تنتشر المليشيات الشيعية في موقع اعتراضي إلى الغرب من المدينة، لمنع قوات “داعش” من الهرب باتجاه معقله الآخر في الرقة في سورية. ويهدف استثناء هذه الميليشيات من الهجوم إلى تطمين السنة المسلمين في الموصل بأن الاستعادة الوشيكة للمدينة ليست هجمة طائفية ضدهم. ومع ذلك، يُنظر إلى قرار المليشيات بالبقاء بعيدة عن معركة الموصل في أوساط الجيش الذي يهيمن عليه الشيعة على أنه ضرب من الرفض.
لكن هناك القليل من القلق لدى داعمي هذه المليشيات الشيعية في إيران. فمنذ انطلاقها، تركت المليشيات الشيعية غير النظامية بصماتها في ميادين المعارك في العراق، لكنها كانت دائماً مركزية بالنسبة لطموحات طهران في مكان آخر. فمن خلال عدم المساعدة في استعادة الموصل، تكون المليشيات طليقة اليد في تنفيذ واحد من مشروعاتها الأكثر أهمية -تأمين قوس للنفوذ في عموم العراق وسورية، والذي ينتهي عند ساحل البحر الأبيض المتوسط.
يعتبر شريط الأرض الذي يقع إلى الغرب من الموصل والذي ستعمل فيه المليشيات أساسياً لتحقيق ذلك الهدف. فبعد 12 عاماً من الصراع في العراق، ونشوب صراع أكثر وحشية وضراوة في سورية، تبدو إيران راهناً أقرب من أي وقت مضى إلى تأمين ممر بري يصلها بالمنطقة -واحتمال تواجد الجمهورية الإسلامية في الأراضي العربية. ويقول مسؤول أوروبي رصد دور إيران في الحربين على مدار الأعوام الخمسة الماضية: “إنهم يعملون بجد كبير لتحقيق هذه الغاية. إنها مسألة كبرياء بالنسبة لهم من جهة، ومسألة براغماتية من جهة أخرى. وسيتمكنون من نقل الناس والإمدادات بين البحر الأبيض المتوسط وطهران عندما يشاؤون. وسيفعلون كذلك من خلال طرق آمنة يؤمنها أناس تابعون لهم، أو وكلاء عنهم”.
في الأثناء، أكدت مقابلات أجريت خلال الأشهر الماضية مع مسؤولين إقليميين وعراقيين نافذين وسكان من شمالي سورية، أن الممر البري كان قيد التشكل ببطء منذ العام 2014. وهو طريق معقد يمتد متعرجاً عبر العراق العربي، مروراً بالشمال الكردي إلى داخل المناطق السورية الكردية في الشمال الشرقي من سورية، وهو يتخلل ميادين المعارك في شمال حلب، حيث تسود إيران وحلفاؤها على الأرض. وكان هذا الطريق يتشكل تحت أنظار الصديق والعدو على حد سواء، حيث بدأ الأعداء في قرع أجراس الإنذار في الأسابيع الأخيرة. وتعارض تركيا بشكل خاص هذا الطريق، خوفاً مما يعنيه هذا التطور بالنسبة لعلاقة إيران مع حزب العمال الكردستاني ومع الأكراد المتوترين فيها، والذين تعول الخطة عليهم كثيراً.
وكانت الخطة قيد التنسيق بين مسؤولين حكوميين وأمنيين رفيعين في طهران وبغداد ودمشق، وكلهم يذعنون لرأس حربة السياسة الخارجية في إيران، فيلق القدس التابع للحرس الثوري الذي يقوده الجنرال قاسم سليماني، الذي يدير معارك إيران في سورية والعراق. وتتضمن الخطة إحداث مناقلات ديمغرافية، والتي تمت أصلاً في وسط العراق، وهي قيد التنفيذ في شمالي سورية حالياً. وتعول الخطة كثيراً على دعم طائفة من الحلفاء، والذين لا يدركون المشروع كله بالضرورة، لكن لديهم مصلحة كبيرة في تأمين الاستقلال.
يبدأ الممر المذكور عند نقاط الدخول التي كانت إيران قد استخدمتها لإرسال الإمدادات والقوى العاملة إلى العراق على مدار الأعوام الإثني عشرة الماضية. وهي نفس الطرق التي كانت قد استخدمت قوة القدس لشن حرب رجال العصابات ضد القوات الأميركية عندما احتلت البلد –وهي حملة خاضت غمارها نفس المليشيات العراقية التي برزت منذ ذلك الحين في القتال ضد “داعش”.
ويقول مسؤولون أميركيون رفيعون إن مجموعات عصائب الحق وكتائب حزب الله والمجموعات التابعة كانوا السبب في نحو 25 % من كافة الخسائر الأميركية في ميادين المعارك. وقد أصبحت هذه المجموعات أكثر نفوذاً وسطوة منذ غادرت القوات الأميركية البلد. وفي واحدة من أكثر المفارقات الحديثة إدهاشاً في الحرب أن تكون هذه الميليشيات قد قاتلت في بعض الأحيان تحت الغطاء الجوي الأميركي، منذ عودة بعض القوات الأميركية إلى العراق لمحاربة “داعش”.
ويمر الطريق عبر بعقوبة، عاصمة محافظة ديالى، التي تبعد نحو 60 ميلاً إلى الشمال من بغداد. ولكونها منطقة سنية/شيعية مختلطة منذ مئات الأعوام، أصبحت ديالى واحدة من مناطق التوتر الطائفي الرئيسية خلال الحرب الأهلية في العراق. وعلى طول طرق قامت بتأمينها الميليشيات، والتي تعرف محلياً باسم “ميليشيات الحشد الشعبي”، ثم تتجه الطريق نحو الشمال الغربي لتدخل في مناطق كان “داعش” يحتلها قبل بضعة أشهر وحسب.
تعتبر بلدة الشرقاط في محافظة صلاح الدين منطقة مهمة. وكانت المليشيات والقوات العراقية، قد استعادوا البلدة في 22 أيلول (سبتمبر) الماضي، موجهين صفعة أخرى للمجموعة الإرهابية ومقدمين دفعة مهمة لطموحات إيران.
وتوجد المليشيات حالياً بأعداد ضخمة في الشرقاط، وتستعد للتحرك نحو الحافة الغربية للموصل، إلى نقطة تبعد حوالي 50 ميلاً إلى الشمال الشرقي من سنجار، التي تعتبر –عند هذه النقطة- المرحلة الثانية من الممر. وبين قوات المليشيات وسنجار ثمة بلدة تلعفر، معقل “داعش”، والتي تعتبر موطنا تاريخياً للتركمان السنة والشيعة على حد سواء –المتمتعين بقرابة سلالية لتركيا.
يقول مسؤول استخبارات رفيع المستوى إن المنطقة بين تلعفر وسنجار ضرورية للخطة. ويذكر أن سنجار هي موطن سلالي للسكان الأزيديين الذين أجبروا على الهرب في آب (أغسطس) من العام 2014، بعد أن غزا “داعش” المدينة، حيث قتل كل الرجال الذين عثر عليهم وسبى نساءها واسترقهن. وكانت القوات العراقية الكردية قد استعادت المدينة في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي. ومنذئذٍ سكنت قوات حزب العمال الكردستاني عبر الجانب السوري من الحدود في المدينة وفي عموم منطقة جبل سنجار العملاق وما وراءه. وكانت الحكومة العراقية تدفع لمقاتلي حزب العمال الكردستاني الذين تم دمجهم مع وحدات الحشد الشعبي. ويقول مسؤولو استخبارات عراقيون وغربيون إن هذه الخطوة حصلت على موافقة مستشار الأمن القومي العراقي، فلاح فياض.
في الأثناء، يظهر شيخ قبلي عراقي نافذ، عبد الرحيم الشمري، كشخصية مركزية أبعد إلى الشمال. ولديه قاعدة قوة بالقرب من الرابية، والتي تمتد إلى داخل الأراضي السورية، وهو يتلقى الدعم من وحدات الحشد الشعبي، وهو مقرب من نظام الأسد في دمشق. وقال الشيخ لصحيفة الأوبزيرفر في بغداد: “أعتقد أن إيران لا تملك الكثير جداً من النفوذ في منطقتنا. لا يوجد أحد هنا ولا أي قوة رئيسية تساعدنا بالأسلحة. ومن الناحية الأيديولوجية، فإن حزب العمال الكردستاني تابع للأكراد في هذه المنطقة، ولذلك لا توجد مشكلة وجود (الإيرانيين) بيننا”.
من نقطة عبور الرابية، تمر الطريق الافتراضية في بلدات القامشلي وكوباني (عين العرب)، وعفرين التي تسيطر عليها المليشيات السورية الكردية. وطيلة الحرب، بدلت مليشيات وحدات حماية الشعب رهاناتها، فعمدت إلى التحالف مع الولايات المتحدة ضد “داعش” في بعض الأحيان، ووقفت في أحيان أخرى إلى جانب النظام السوري. وقال المصدر الأوروبي: “تعتقد إيران أنها تستحوذ عليهم حيث تريدهم الآن. لكنني لست متأكداً، مع ذلك، مما إذا كانت قد قدرت الأتراك بشكل صحيح”.
ومن بين كل النقاط بين طهران والساحل السوري، استحوذت حلب على طاقات إيران أكثر من أي مكان آخر. وثمة ما يصل إلى 6.000 عنصر مليشيا تجمعوا هناك عشية التحرك للاستيلاء على شرقي المدينة الذي يسيطر عليه الثوار، والذي قد يبدأ مع بدء الهجوم لاستعادة الموصل.
ويقول الذين لاحظوا سليماني عن قرب وهو يتفقد الخطوط الأمامية في سورية والعراق، حيث يضع قوته الضخمة بهدوء مدروس، أنه استثمر كل شيء في سورية -لغاية ضمان أن تخرج إيران من الحرب الوحشية المكلفة وقد عززت طموحاتها. وكان سليماني قد قال للسياسي العراقي (الراحل) أحمد الجلبي في العام 2014: “إذا خسرنا سورية فسوف نخسر طهران”. وقال الجلبي للأوبزيرفر في حينه إن سليماني قال: “سوف نحول كل هذه الفوضى العارمة إلى فرصة سانحة”.
سوف يشكل تأمين حلب مرحلة مهمة في الممر الذي سيمر بقريتين إلى الشمال، واللتين كانتا في السابق تاريخياً بأيدي الشيعة. وقال مسؤول سوري رفيع ومسؤولون عراقيون في بغداد إن الممر سيسير باتجاه أطراف مدينة حمص التي تعتبر رابعة المدن السورية حجماً، ثم ينتقل إلى الشمال من خلال الأراضي العلوية في سورية، والتي أمنتها القوة الجوية الروسية للأسد مرة أخرى. وسينتهي طريق إيران الذي تكسبه بشق الأنفس عند ميناء اللاذقية الذي بقي بحزم في يد النظام طيلة الحرب.
يقول علي خضيري، الذي كان قد قدم المشورة لكل السفراء الأميركيين ولأربعة قادة من القيادة الأميركية الوسطى في الأعوام 2003-2011 ، أنه سيُنظر إلى تأمين رابط مع البحر الأبيض المتوسط في إيران على أنه انتصار استراتيجي. وأضاف: “إنه يرمز إلى تعزيز سيطرة إيران على العراق وساحل البحر الأبيض المتوسط، الأمر الذي يؤكد بالتالي طموحاتها السلطوية الإقليمية”. وشدد على القول: “ومن شأن ذلك أن يزعج كل زعيم غربي وحلفاءنا الإقليميين، لأنه سيشجع إيران أكثر على الاستمرار في التمدد غالباً إلى داخل البلدان الخليجية فيما بعد، وهو هدف تحدثت عنه صراحة وأكثر من مرة. فلماذا يجب علينا أن نتوقع منهم أن يتوقفوا إذا كانوا ما يزالون في الكازينو، حيث يضاعفون أموالهم أضعافاً مضاعفة منذ عقد؟”.
مارتن تشولوف
الغد