اكتملت الحشود أو قاربت، كلٌّ جاء بأجندته، وكلٌّ جاء بمخططاته، وكلٌّ يدّعي ضرباً لداعش. وواقع الحال يشي بغير ذاك، فما يريدونه أبعد بكثيرٍ من هزيمة تنظيمٍ مسلحٍ، سيطر على الموصل قبل عامين ونصف العام. وكالعادة، كل شيء حسبوا حسابه إلا المليون ونصف المليون إنسان داخل المدينة، فعند ذكرهم وذكر هول ما ينتظرهم، يصرخون بأن لا أموال كافية لتوفير مخيمات لهم، ويتناسون الميزانية الضخمة التي خصّصت لهزيمة تنظيم لا يبلغ عديد مقاتليه داخل الموصل أكثر من خمسة آلاف مقاتل إلى ثمانية آلاف في أحسن حال.
وبينما الحال كذلك، فإن ما بعد معركة الموصل أخطر مما قبلها أو في أثنائها، خصوصاً إذا أصر “داعش” على القتال حتى أخر عناصره، وهو على يبدو ما سيقدم عليه.
ولعل من أبرز ما ستفرزه معركة الموصل إنْ بدأت وانطلقت معها صراعات الأجندات المختلفة، مشكلات خمس:
الأولى، أكثر من مليون لاجئ من أهالي المدينة، كلهم من العرب السنة، بعد أن نزحت من الموصل مكوناتها الأخرى عقب سيطرة التنظيم، الأكراد والأيزيديين والتركمان والمسيحيين. وبالتالي، إننا أمام مشكلة إنسانية، قالت عنها الأمم المتحدة إنها ستكون التحدي الإنساني الأكبر في تاريخ المنظمة التي أعلنت، أكثر من مرة، أنها لا تملك تخصيصات مالية كافية لاستيعاب هذا العدد الهائل من النازحين، علما أنها أكملت بناء خمسة مخيمات، بطاقة استيعاب تبلغ 700 عائلة للمخيم الواحد، وهو لا يشكل شيئاً بالقياس إلى الأرقام المتوقعة للنزوح.
الثانية، أن المدينة ستكون عرضةً لتدمير بناها التحتية، بفعل الطيران الذي يتوقع أن يشكل العامل الأبرز في تقدم القوات المهاجمة، أي أننا سنكون أمام رمادي ثانية، حيث بلغت نسبة تدمير المدينة باعتراف الأمم المتحدة نحو 80%.
وهنا، لا بد من الإشارة إلى أن الموصل المدينة أكبر بعدة مرات من الرّمادي، وهي ثاني أكبر مدينة في العراق، سكانها نحو ثلاثة ملايين، ولَك أن تتخيل حجم الدمار الذي سيلحق بها جرّاء العمليات العسكرية، ومن ذَا الذي سيعيد إعمارها، الحكومة العراقية المفلسة، أم الولايات المتحدة التي ما زالت تبحث في إقراض حكومة بغداد بتردّد كبير، أم إيران التي لا ترى وتنظر لتلك المدن والمعارك إلا بعين مصالحها؟ ستبقى الموصل بعد داعش مدينة خرابٍ، لن يفكر بها أحد ممن يتسابقون اليوم لـ”تحريرها”.
ثالثاً، الأهم والأخطر الصراعات التي ستتفجر لاحقاً بين مكونات التحرير، فالقوات التي ستشارك في المعركة خليط غير متجانس من أصحاب المصالح، فهناك القوات العراقية التي يشكل الشيعة فيها ما نسبته 80%، وهناك مليشيات الحشد الشعبي الشيعية التي يقال إنها ستبقى خارج المدينة، تماماً كما قالوا ذلك عند انطلاق معركة الفلوجة، وإذا بهم يتقدّمون كل الأرتال، ليفعلوا ما فعلوا بأهلها ومنازلها من حرائق يندى لها جبين الإنسانية.
وهناك قوات البشمركة الكردية التي ترى أن هناك مناطق متنازعا عليها في الموصل، لم يحسمها الدستور العراقي. وبالتالي، الفرصة مؤاتيه لفرض أمر واقع، أمر ترفضه بغداد التي سنّت، أخيراً، قانوناً يقر بحدود الموصل الإدارية، وفقا لخارطة ما قبل العام 2003.
وطبعاً هناك الحشد الوطني، أو “حراس نينوى”، الذي يتزعمه محافظ الموصل السابق، أثيل النجيفي، والذي يسعى إلى أن يمسك الأرض، بعد استعادة المدينة، للحفاظ على ما تبقى من مكوناتها السكانية، على الرغم من أن بغداد تنوي استبعاده من المشاركة، بحجة أنه غير منضو في منظومة الحشد الشعبي.
وطبعاً، هناك تركيا التي أصرّت على المشاركة، وخصوصاً أن أنقرة باتت ترى أن ما يجري في الموصل ما هو إلا جزء من مؤامرة تستهدفها، في ظل السماح لمليشيات إيران بالمشاركة.
وأيضاً لا ننسى القوات الأميركية التي يبلغ عددها خمسة آلاف مقاتل، ومعها عتاد وعدة كبيرة جداً. وينبئ هذا الخليط غير المتجانس بطبيعة المعركة القادمة، وتحدّيات ما بعد التحرير.
التحدي الرابع هو في كيفية منع مليشيات الحشد الشعبي من ارتكاب فظائع ضد أهالي الموصل، وقد توعّد أحد قادة هذه المليشيات (قيس الخزعلي) بأن معركة الموصل ستكون معركة ثأر للإمام الحسين، وهو الخطاب الطائفي الذي ساد قبيل معركة الفلوجة.
وكان رئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، قد التقى، قبل أيام، بقادة المليشيات الشيعية، أو ما يعرف بالحشد الشعبي، وأكد على دور هذه المليشيات في معركة تحرير الموصل، على الرغم من الاعتراضات الإقليمية المتكرّرة من مغبة مشاركة هذه المليشيات في معركة الموصل، وما يمكن أن تجرّه من ويلاتٍ، ليس على العراق فحسب، وإنما حتى على المنطقة التي تعيش أتون بركان طائفي، لم يبق ولم يذر.
السؤال الأهم الذي يرفض راكضون عديدون صوب الموصل طرحه، أو حتى الإجابة عليه، ماذا بعد داعش، أين سيذهب مقاتلو التنظيم بعد الموصل؟ هل فعلاً تم الاتفاق على تسهيل أمر خروجهم صوب الرقة السورية؟ هل لدى الحكومة العراقية خطة لاستيعاب الآلاف من أهالي الموصل، ممن تأثروا بفكر هذا التنظيم، ويمكن أن يتحولوا خلايا نائمة، تنتظر اللحظة المناسبة للانقضاض على فريستها؟
لا أحد لديه إجابات على هذه التساؤلات، والخطر أن يتحول مقاتلو التنظيم إلى الصحراء مرة أخرى، كما انتقلت “القاعدة” إلى الصحراء عامي 2007 و2008، لتعود بعد ذلك بزي تنظيم الدولة الإسلامية.
ستزيد معركة الموصل من عمق الجراحات العراقية، وستزيد من توغل إيران في البلاد العربية، وستحجم دور تركيا في العراق، ناهيك عن توسيع دور المليشيات الشيعية في العراق، لتكون القوة الأكبر والأبرز. ولكن، بالتأكيد ستفشل معركة الموصل في القضاء على تنظيم الدولة الإسلامية، لأنها ببساطة ليست معركة تحرير، بقدر ما هي معركة تدمير وأجندات إقليمية، بعضها خفي، وبعضها بات مكشوفاً.
إياد الدليمي
صحيفة العربي الجديد