إنَّ الجاري ضد مدينتي حلب والموصل الآن هو عبارة عن حلقات في سلسلة تمضي من طهران إلى بغداد إلى دمشق وبيروت واليمن، ورأسُ الحربة في العملية كلّها طهران، وقد كسبت لها روسيا الاتحادية، وحيّدت الولايات المتحدة بوعي أو بتقدير استراتيجي مختلف، وقد ظللتُ آمُلُ أن الولايات المتحدة ربما كانت لها تقديراتها الاستراتيجية المختلفة، حتى صدور قانون «جاستا» عن الكونغرس، فاستقرَّ لديَّ الاقتناع بأنَّ واشنطن أيضاً ضمن التحالف ضد العرب والإسلام السني.
إنَّ ذلك الأمر لا يمكن تسميته «مؤامرة» بالمعنى المعروف. لأن كل ذلك يجري عَلَناً وبدون تسويغات، وقبل الوصول إلى طهران وآثارها الطائفية والقتالية، لننظر في الوقائع الأخيرة على الأرض، ومنها الإعلان عن هدنة الـ72 ساعة على الجبهة اليمنية. لقد رحَّب الحوثيون بالإعلان، وجاء ترحيبهم مجرَّداً وبدون الالتزام بأي شيء من مندرجات القرار الدولي رقم 2216، مع الإعلان عن اعتزامهم تشكيل الحكومة الانفصالية التي تحدثوا عنها سابقاً! ولقد صرنا نطلب منهم فقط أن يفكّوا الحصار عن تعز، أو ما هو أقلّ: السماح بإدخال المساعدات الإنسانية إلى المدينة المنكوبة! والواقعةُ الأخرى الهدنة التي أعلنها الروس بمدينة حلب من طرف واحد، وقالت الأمم المتحدة إنها ليست كافية، ولا ضمان فيها لإدخال المساعدات إلى شرقي المدينة. حلب موجودة الآن على لائحة التهجير. وأردوغان يُهوِّل بأنّ تركيا ستضطر لاستقبال نصف مليون أو مليون لاجئ. لكنْ لماذا نعتبر كلام أردوغان تهويلاً، فقد تهجَّر في سوريا خلال أكثر من خمس سنوات نحو الثلاثة عشر مليوناً، منهم ستة ملايين صاروا خارج سوريا، ونحن نعلم من وسائل الإعلام أن مقاتلي المعظمية وعائلاتهم يُهجَّرون هذه الأيام إلى إدلب. وحصل ويحصل مثل ذلك في الزبداني وداريا ومضايا والوعر في حمص، والدورُ آتٍ على جوبر واليرموك وزاكية وخان الشيخ.. إلى آخر سلسلة المدن والبلدان المنكوبة. ولنصل إلى الموصل، التي تقول المنظمات الإنسانية إن التهجير قد يطال مليوناً من سكانها. وما يحصل بالموصل الآن مثير بسبب ضخامة الأعداد، وإلا فإنه قد جرى مثله منذ عام 2014 -2015 في «أمرلي» و«جرف الصخر» و«تكريت» و«المقدادية» و«الفلوجة» و«الرمادي»، ومئات القرى والبلدات الأخرى. لقد قال «الحشد الشعبي» إنّ هدفه الأول الآن هو مدينة تلعفر، لأنّ فيها تركماناً شيعة يريدون تحريرهم. وقال المراقبون إنّ المقصود من احتلال تلعفر أن تكون منفذاً للحرس الثوري يدخل عن طريقها إلى سوريا. والخلاصة أن المهجَّرين من العرب السنّة في العراق منذ العام 2014 يبلغون نحو الثلاثة ملايين ونصف المليون نسمة، وبعد التهجير من الموصل ونواحيها يمكن أن يصلوا إلى خمسة ملايين! وهكذا، وفي نهاية العام 2016 سيكون لدينا من المهجَّرين العرب السنّة في سوريا والعراق قرابة العشرين مليوناً، هذا فضلاً عن مقتل أكثر من مليون، وخراب العمران وإذلال الإنسان!
ولنعُدْ إلى حيث بدأْنا. إيران التي استولت على العراق رسمياً عام 2010-2011، ما ساعدت تلك الدولة ذات الكثرة الشيعية في إقامة نظام للحكم الصالح، بل نمّت الميليشيات الطائفية، وشاركت في الاستيلاء على الأموال والثروات. واتبعت سياسات القمع والتهجير ضد سكان الأنبار وصلاح الدين ونينوى، إلى أن ثار السكان ووقعوا بين الميليشيات الإيرانية وتنظيم «داعش». وعندما هبَّ الأميركيون بتحالفهم الدولي لمصارعة «داعش»، كان كل تقدم على الأرض للجيش العراقي يعني التهجير والقتل. ووقائع ذلك واضحة لا تحتاج إلى بيان. وفي سوريا جرى اتباع السلوك نفسه منذ حمص ونواحيها، والآن دمشق (داخلها) ونواحيها. وعندما عجزت قوات الأسد عن الإخضاع والقتل والتهجير بالقدر المطلوب، جاءت الميليشيات الإيرانية. واندفعت روسيا الاتحادية، تحت نظر الولايات المتحدة، لإنجاز المهمة التي ما استطاعها الأسد وميليشياته والإيرانيون وميليشياتهم. وقد تحدثوا عن الاستيلاء على أربع عواصم عربية، والآن يتحدثون عن حلب الشيعية بعد حمص الشيعية، وضواحي دمشق الشيعية. لا ينبغي أن تكون لدينا أَوهام بعد هذه الوقائع المهولة، في أن المراد هو تغيير وجه المشرق العربي بالتهجير والتقتيل والاستيلاء الاستراتيجي. نحن نواجه خطراً وجودياً، إذ لم تبق ناحيةٌ بمأمن.
رضوان السيد
صحيفة الاتحاد