ليس في وسع المرء أن يكون متفائلاً كثيراً، بخصوص ملحمة حلب الكبرى التي تعتزم فصائل المعارضة السورية شنّها لفك الحصار عن الجزء الشرقي من المدينة، وتحرير القسم الغربي منها الذي ما يزال تحت سيطرة قوات النظام. ويعود هذا التشاؤم إلى أسباب عديدة، في مقدمها فشل الفصائل العسكرية في تشكيل جسم عسكري واحد، وفشل المحاولات السابقة لفك الحصار عن الجزء الشرقي المحاصر من المدينة، واختلال موازين القوى لصالح النظام وحلفائه من الإيرانيين والروس الذين يبدون عازمين، هذه المرة، على إلحاق هزيمة ساحقة بالثوار، وإخراجهم بالتالي من حلب المدينة، تمهيداً للتقدم باتجاه أجزاء محدّدة من الريف الحلبي.
في هذا السياق، لا تعدو المعلومات التي نشرتها مصادر روسية عن وصول مضادات طيران إلى الثوار في حلب، عن أنها جزءٌ من التسخين الإعلامي للجبهة، وتضخيم لقدرات الخصم، ليكون استهدافه بكل أنواع الأسلحة الموجودة في الترسانة الروسية مباحاً ومقبولاً.
أصبح واضحاً أن هذا المخطط يتم بالتنسيق مع الولايات المتحدة، بعد أن قدّمت روسيا جائزة ترضية لتركيا، تمثلت في إقناع الأتراك بحصتهم من المغنم السوري، وهو منع قيام أي كيان كردي. وفي محاربة داعش فقط على الحدود الشمالية من سورية، ومنحها ضوءاً أخضر باهتاً، للمشاركة في عملية تحرير الموصل.
في هذه الأثناء، يقف “أصدقاء الشعب السوري” بلا حول ولا قوة أمام إحجام القوى العظمى عن تقديم أي دعم، أو حتى حماية للمدنيين في حلب، وسط ضعفٍ مزمن للموقف الأوروبي الذي يكتفي بإدانةٍ خجولةٍ للتغول الروسي مع التلويح بإضافة عقوباتٍ إضافيةٍ على روسيا. وهذا الموقف بلا قيمة، من دون الوزن الأميركي المرجح، والذي يبدو أنه مدفوع استراتيجياً نحو المحافظة على النظام، بعد إخضاعه لجراحة تجميل على الطريقة الروسية.
المؤسف فيما يخص معركة حلب أنها ستتحد على المستوى الرمزي مع جبهة الموصل في مستويين: يتعلق الأول بالمشاعر الشعبية العامة التي تصوغها التجاذبات الطائفية والشحن
العقائدي، والذي يعتبر معركة حلب – الموصل جبهة واحدة، تمثل مواجهةً سنية شيعية – صليبية. ويرتبط المستوى الثاني بدوائر صنع القرار الدولية التي تسعى إلى اعتبار معركة حلب – الموصل جبهة واحدة ضد قوى “التطرف والإرهاب ” في المنطقة.
لا يصب هذا الاتحاد الرمزي بين مصيري أكبر مدينتين سنّيتين، في الحدود الشمالية الشرقية لما كان يعرف بالوطن العربي، في مصلحة الثورة السورية التي سيكون من الأفضل لقواها الفاعلة أن تنأى عن أي تأييدٍ، ولو معنويا، لداعش التي سبق أن خاضت ضد قوى الثورة السورية، على اختلاف طيفها الواسع، معارك مريرة في حلب وغيرها من المدن السورية.
قد يكون من شبه الأكيد أن هزيمة داعش في العراق ستؤدي إلى دحر التنظيم المتطرّف في سورية، لكن المشكلة أن “نصراً” كهذا سيكون منقوصاً، وذا عواقب سيئة، لا لأن القوى “المنتصرة” صاحبة مشروع طائفي وتغيير ديمغرافي فحسب، بل لأنه سيتكامل مع “هزيمةٍ” لمشروع الثورة والتغيير في سورية، بوصفها، حسب المنظور الدولي، حراكاً مسلحاً يقوده متشدّدون ضد سلطة “علمانية”، على الرغم من الإقرار المتردّد بديكتاتوريتها الدموية، من ناحية، ولكونها (الثورة السورية) ماهت نفسها هوياتياً (على مستوى الهوية) مع القوى “المدافعة” عن الموصل، من ناحية أخرى.
من زاوية أخرى للمسألة السورية المعقدة، ألا يحق التساؤل عن أن حقيقة ما تواجهه المدينتان من تهديد بالإبادة الشاملة، وتهجير لعموم السكان، يتطلب، في أحد جوانبه، نوعاً من الاتحاد المصيري بين الأصدقاء – الأعداء (الثوار وداعش) على الأقل معنوياً؟ قد يبدو التساؤل هذا مشروعاً في أحد وجوهه، لا سيما أن المدينتين التوأمين تواجهان مصيراً كارثياً متشابهاً، يهدّدهما به حلف واحد من الأعداء (إيران في العراق وإيران وروسيا والنظام في سورية)، خصوصاً بعد تنامي حس شعبي “سني”، يدعو إلى جبهةٍ مشتركةٍ تجمع كلتا المدينتين على الأقل على المستوى الرمزي، لكن الإشكالية بالنسبة للثوار السوريين في حلب تبدو أكثر تعقيداً على مستوى التحالفات الواقعية، وحتى الرمزية، ففي حين يبدو أن حلف الأعداء الذي يستهدف مدينتهم ومدينة الموصل واحداً، على الرغم من تعدّد أسمائه، لا يبدو، في الوقت ذاته، أن داعش يمكن أن يكون ذلك العدو الذي ما من صداقته بدُّ. فالتماهي، ولو على المستوى الرمزي، مع داعش، واعتبار معركة الموصل جزءاً من معركة حلب سلوك انتحاري سياسياً وعسكرياً، فضلاً عن أنه لا يمثل، بأي حال، واقع الثورة السورية، ولا مطالبها العادلة.
جمال مامو
صحيفة العربي الجديد