بعد حملة رئاسية هيمنت عليها الإهانات والانتقادات على غرار عروض تلفزيون الواقع، فسوف يستيقظ الفائز في انتخابات تشرين الثاني (نوفمبر) في الانتخابات الرئاسية الأميركية صباح اليوم التالي ليجد واقعا أكثر تثبيطا للهمة بكثير في انتظاره: شرق أوسط يطفح بالصراع والفوضى، يتطلع يائسا إلى القيادة الأميركية.
سوف يرث الرئيس الخامس والأربعون للولايات المتحدة مشاكل مقترنة بالمنطقة، والتي تنطوي على تحدٍ أكبر من أي مشاكل أخرى خلال جيل كامل، نظراً لأن النظام القديم كان قد أفسح المجال أمام مزيج متنوع الألوان من التحالفات والخصومات والأزمات المتداخلة. وفي الماضي، نظر الرؤساء إلى المنطقة من منظور الحرب الباردة والإرهاب وإسرائيل، لكن تلك النماذج تغيرت الآن على نحو درامي.
اليوم، ليس هناك موضوع واحد مفرد يهيمن على المشهد، وإنما هناك موضوعات متعددة. فسورية والعراق واليمن غارقة في الحروب الدموية. وتركيا والأردن ولبنان متخمة باللاجئين. كما أعادت روسيا من جهتها فرض نفسها كلاعب رئيسي في المنطقة. وما تزال ليبيا تبحث عن الاستقرار بعد سقوط دكتاتورها لوقت طويل، العقيد معمر القذافي. وما يزال الأكراد يحثون الخطى نحو احتمال الاستقلال. وتخوض مصر قتالا ضد التهديدات الإرهابية في الوطن. كما تخوض السعودية وإيران صراعا عميقا من أجل تحديد مستقبل المنطقة.
يقول إميل حُكيِّم، الزميل الرفيع في المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية الذي يتخذ من البحرين مركزاً له: “في الحقيقة ، النظام الشرق أوسطي محطم بشكل كبير في الوقت الراهن. والظروف، وليس التفضيلات المجردة، هي التي تملي صنع السياسة، والظروف قاتمة للغاية”.
هنا في المنطقة، ينظر إلى الولايات المتحدة على أنها غير منخرطة في ظل الرئيس لأوباما، الذي ظل –فيما عدا محاربة “داعش” متردداً في الانجرار إلى الدوامة القوية التي تحاول تشكيل الشرق الأوسط. وقد تركت “مناهج الأمن الخالية من السياسة” التي انتهجها السيد أوباما، كما وصفها السيد حُكيِّم، البعض وهم يأملون في تدخل أقوى من الحكومة الأميركية مع قدوم كانون الثاني (يناير).
مثل آخرين في المنطقة، أمضى رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، الكثير من الوقت مؤخراً وهو يعرب عن القلق لزائريه الأميركيين من تداعيات التراجع الأميركي من المنطقة. ومثل آخرين، ما يزال السيد نتنياهو يتحوط في رهاناته. فقد زار موسكو عدة مرات في العام الماضي -ليس لأنه يفضل روسيا على أميركا، كما قال مستشاروه، وإنما لأن الكرملين يقوم بملء الفراغ الذي تركته واشنطن.
من جهته، قال أفرايم إنبار، المدير المؤسس لمركز بيغن-السادات للدراسات الاستراتيجية بالقرب من تل أبيب: “إن أهم تحد سيواجهه الرئيس الأميركي الجديد سيتمثل في تحديد ما يريده في هذه المنطقة، وفي استعادة المصداقية الأميركية. إن ما تراه المنطقة راهناً هو ضعف أميركي”.
ولا يجب أن يعني ذلك بالضرورة تواجداً عسكرياً أميركياً موسعاً، كما يقول إنبار. وفي الحقيقة، ثمة شهية ضعيفة في المنطقة للعودة إلى السياسات الأكثر تدخلية التي كان ينتهجها الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش. ولكن، إذا حكم على السيد بوش بأنه كان صارماً جداً فإن العديدين هنا يعتبرون السيد أوباما متحفظاً جداً، ويأملون في رؤية أرضية متوسطة بين الأمرين.
من المؤكد أن مقاربة الولايات المتحدة الأميركية نادراً ما تبعت مجموعة أهداف ثابتة أو منهاج عمل ثابت، كما كتب باتريك تيلر في كتابه المعنون “عالم من المشاكل”، والذي تناول تاريخ عشرة رؤساء أميركيين وتعاملهم مع المنطقة. وقد أدار كل رئيس أميركي الشرق الأوسط من منظورات مختلفة. فقد رآه ريتشارد نيكسون كجزء من لعبة شطرنج مع موسكو. وانتهج جيمي كارتر وبيل كلينتون طريقة البحث عن انفراجات دبلوماسية بين إسرائيل وجيرانها. وركز السيد بوش ووالده على عراق صدام حسين.
من المؤكد أن السيد اوباما ورث وضعاً يعج بالفوضى والتشويش في المنطقة مع الحرب في العراق. ولك، مع حلول وقت ارتقائه إلى سدة الرئاسة في البيت الأبيض، كانت زيادة عديد القوات الأميركية في العراق التي أجراها السيد بوش واستراتيجية التغيير التي صنعها الجنرال ديفيد بترايوس قد ساعدتا في قلب الحرب حول النقطة التي شعر معها السيد بوش بأن بالإمكان التفاوض على خطة انسحاب في غضون ثلاثة أعوام مع بغداد، والتي تابعها السيد أوباما لاحقاً.
لن يجد الرئيس التالي مثل هذا الكتاب الإرشادي واضح المعالم لإدارة اللعبة في انتظاره. ومثل السيد بوش قبله، سوف يغادر السيد أوباما منصبه في الشهور الأخيرة من رئاسته وهو بصدد أن يورث خلفه وضعاً عسكرياً أفضل على الأرض، حيث القوات العراقية والكردية وقوات الثوار السوريين تستعيد الأراضي من تنظيم “داعش”.
ولكن، وحتى لو تم سحق المجموعة الإرهابية في ميدان المعركة، فإن الشرق الأوسط يظل ممزقاً بفعل العديد جداً من الصراعات الأخرى التي تتطلب بطاقة إحصاء لاحتسابها. وقد فشلت ثورات الربيع العربي في العام 2011 في تحقيق الديمقراطية (ربما باستثناء تونس). وقد انتهى المطاف بتلك الثورات وقد أنهت بعض الهياكل التقليدية لتشعل فتيل حرب أهلية في سورية قتلت وجرحت مئات الآلاف من الناس وشردت الملايين، وتستمر في استنفاد الكثير من طاقات المنطقة.
وكان السيد أوباما قد دافع عن مقاومته الانجرار أعمق إلى مستنقع الحرب السورية فيما وراء الانخراط المحدود ضد “داعش”، محاججاً بأن مزيداً من الانخراط سوف يوقع أميركا وحسب في مستنقع دموي آخر. ولكن، وحتى لو فرض الرئيس الأميركي التالي منطقة حظر طيران، كما كانت هيلاري كلينتون قد وعدت، أو الاصطفاف عن قرب أكثر مع روسيا، كما اقترح دونالد ترامب، فسوف تبقى التيارات السياسية المتقاطعة مخادعة للغاية.
لقد شجعت الولايات المتحدة حلفاءها الأكراد على تكثيف القتال ضد “داعش”، من دون الذهاب بعيداً إلى حد استفزاز تركيا، وهي الحليف الأميركي الآخر. وتقف مصر والسعودية ظاهرياً على نفس الجانب في الحرب الأهلية السورية، لكن التوتر بينهما ارتفع مؤخراً عندما أوقف السعوديون شحنات الوقود إلى مصر ودعم المصريون مشروع قرار رعته روسياً في مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة حول سورية وعارضته السعودية.
يقول باسل صلوخ، الخبير الإقليمي في الجامعة الأميركية اللبنانية في بيروت: “في محور هذه المواجهة الجيو-سياسية، ثمة المنافسة على تولي الهندسة الأمنية للشرق الأوسط”. وقال السيد صلوخ أن على الرئيس الأميركي التالي أن يضع ترتيباً إقليمياً جديداً يأخذ في الحسبان كل اللاعبين الرئيسيين ومصالحهم، بما في ذلك إيران وتركيا. وأضاف: “هذه مؤسسة هرقلية بحق، لكن أي شيء أقل من هذا لن يستطيع استعادة ما يشبه الاستقرار”.
في عموم واشنطن، أمضى متخصصون في السياسة الخارجية فترة الخريف وهم يصوغون اقتراحات للرئيس الأميركي عن الشرق الأوسط. وفي الأثناء، ثمة منظمات مثل معهد بروكينغز والمجلس الأطلسي ومعهد الشرق الأوسط ومركز التقدم الأميركي، والتي تقوم بإصدار التقارير أو عقد المؤتمرات. وتستند معظمها إلى استنتاج كلا الحزبين أن نهج السيد أوباما تجاه منطقة الشرق الأوسط لم يعمل ويحتاج إلى إعادة تجديد.
تقول آمي هوثورن، نائبة مدير مشروع ديمقراطية الشرق الأوسط، أنه يجب على الرئيس الأميركي التالي معالجة الموضوعات الكامنة الخاصة بالحكم والفساد والقمع في المنطقة. وتضيف هوثورن: “من الواضح أن الولايات المتحدة لا تستطيع وحدها حل هذه المشاكل… لكننا نستطيع عمل ما هو أكثر بكثير لمساعدة أولئك في المنطقة الذين يحاولون التوصل إلى حلول سلمية وبناءة”.
أما إدوارد دجيرجيان، السفير السابق لدى إسرائيل وسورية، والذي يدير راهناً معهد جيمس بيكر الثالث للسياسة العامة في جامعة رايس، فيقول إنه يجب على الإدارة الجديدة إيجاد طرق للمساعدة في إعادة هيكلة اقتصاديات المنطقة.
ومشيراً إلى التجربة المؤلمة في العراق، قال السيد دجرجيان: “إن الأولوية الرئيسية للإدارة الجديدة تكمن في التخلي عن بناء الأمة، وهي المهمة التي تبدو وراء قدرة الولايات المتحدة”. وبدلاً من ذلك يجب عليها “تأسيس استراتيجيات لإقامة شراكات وثيقة مع بلدان المنطقة”.
وقال جيمس جيفري، النائب السابق لمستشار الأمن القومي للسيد بوش والسفير لدى العراق في ظل رئاسة أوباما، أن الشرق الأوسط قد تحول من كونه مشكلة أمنية “معروفة” يمكن احتواؤها في العادة إلى واحدة “في حالة سقوط حر كما يبدو”.
وقال السيد جيفري الذي يعمل راهناً مع معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، أن أياً من رئيسيه السابقين لم يستطيعا إيجاد الصيغة الصحيحة. وأضاف أن “استخدام بوش المفرط للقوة العسكرية خيب أمل القاعدة السياسية الأميركية للانخراط. ثم خيب استخدام أوباما البسيط للقوة العسكرية أمل القاعدة الدبلوماسية الأميركية الإقليمية لدى الحكومات الحليفة”.
وأضاف السيد جيفري أن على الرئيس التالي أن يستعيد العلاقات مع الحلفاء. وحيث أصبح “داعش” في حالة تراجع على ما يبدو، فإن عليه أن يركز على ردع إيران. لكن على أي رئيس يجلس في البيت الأبيض “تجنب إغواء محاولة علاج المشاكل الأساسية” التي تعصف بالمنطقة.
وخلص السيد جيفري إلى القول: “إننا لا نستطيع إصلاحها… وإذا كانت قابلة للإصلاح، فسيتولى المواطنون المحليون إدارة الأمر بتقديرهم الخاص، بينما تهدد تدخلاتنا بأن تكون ذات رد فعل عكسي”.
بيتر بيكر
صحيفة الغد