في مناسبات منفصلة، هددت مرشحة الحزب الديمقراطي للرئاسة الأميركية، هيلاري كلينتون، بشكل عارض بشن حرب ضد روسيا وإيران. وهدد مرشح الحزب الجمهوري للرئاسة الأميركية، دونالد ترامب، عرَضاً أيضاً، بشن حرب على الصين وكوريا الشمالية. أما كون هذين التهديدين قد جاءا إلى حد كبير من دون أي استفزاز، فموضوع آخر كليَّة.
بينما لم تعرف أميركا السلام، حتى للحظة واحدة، في غضون 15 عاماً، فقد يبدو تأمل وقائع قيام حرب ثالثة ضرباً من السوريالية.
في العام 1915، كتب الاشتراكي الروسي ليون تروتسكي رسالة تخطط لـ”ثورة أكتوبر” موجهة إلى “بروليتاريي أوروبا!” وكان العالم قد أمضى عاماً مسبقاً في خوض “الحرب العظمى”؛ حيث حذر تروتسكي من أن الحريات المتناقصة عند الناس فيما يتجاوز الخسارة الضخمة للأرواح والثروة -الاعتماد على العمالة لغايات الحرب.
“سوف تستهلك أعباء الحرب أفضل طاقات الشعوب لعقود، وتعرض للخطر إنجازات الإصلاح الاجتماعي، وتعيق احتمال قطع أي خطوة إلى الأمام”.-ليون تروتسكي.
الحرب تستهلك أفضل طاقات الشعوب
بعد أقل من شهر بعد معركة بيرل هاربر، قال الرئيس فرانكلين روزفيلت للكونغرس وللبلاد كلها:
“يجب التغلب على الأعداء الأقوياء في القتال وفي الإنتاج. لا يكفي إنتاج مجرد بضع طائرات أو بضع دبابات، أو بضع بنادق، أو بضع سفن أكثر مما يستطيع أن ينتج أعداؤها. يجب أن نتغلب عليهم في الإنتاج بشكل غامر لا تكون هناك أي شكل في قدرتنا على تقديم تفوق ساحق في المعدات في أي مسرح من مسارح الحرب العالمية”.
ولقد تغلبنا عليهم في الإنتاج.
عندما تحول مصنعو السيارات من إنتاج السيارات إلى إنتاج الأسلحة وأدوات الحرب، ارتفع إنتاج الأسلحة الفعال أصلاً إلى مستويات تاريخية. وفي حين أعلنت “بي. بي. أس” عن إنتاج 3 ملايين سيارة في العام 1941، فإنه لم يتم إنتاج سوى 139 سيارة أخرى فقط خلال مدة الحرب العالمية الثانية:
“وبدلاً من ذلك، صنعت كرايزلر أجسام الطائرات. وصنعت جنرال موتورز محركات الطائرات والرشاشات والشاحنات والدبابات. وصنعت باكارد محركات الرولزرويس لسلاح الجو البريطاني. وفي مصنعها الشاسع “ويلو رن” في بسيلانتي في ميتشيغان، أنجزت شركة سيارات فورد شيئاً مثل المعجزة 24 ساعة في اليوم. وتحتوي سيارة فورد في المعدل على 15.000 قطعة. بينما تضم القاذفة “بي-24″ بعيدة المدى تحتوي على 1.550.000 قطعة. وكانت طائرة تخرج من خط الإنتاج كل 63 دقيقة”.
تم تحقيق هذا المستوى الضخم من الإنتاج بفضل الدعاية واسعة النطاق-من الأيقونة الأميركية “روزي ذا ريفيتر” المحبوبة التي تعبر عن تمكين الإناث لغاية الانتاج، إلى قيام كل طرف بعمله لبث روح الحماسة.
وفي كلمة وداعية بعد أعوام من نهاية الحرب العالمية الثانية، أصدر الرئيس دوايت أيزنهاور تحذيرا متشائما ضد ارتفاع إنتاج الحرب:
“في مجالس الحكومة، يجب أن نحذر من اكتساب النفوذ غير المجاز، سواء تم السعي له أم لم يتم، للمجمع الصناعي العسكري. إن إمكانية الارتفاع الكارثي للسلطة في غير محلها موجودة، وسوف تدوم”.
وأضاف آيزنهاور: “حتى آخر صراعاتنا العالمية، لم يكن لدى الولايات المتحدة صناعة تسليح. وقد استطاع صانعو المحاريث الأميركيون، في الوقت المحدد وكما هو مطلوب، تصنيع السيوف أيضاً. لكننا لم نعد نستطيع المجازفة بالارتجال في حالات الطوارئ. لقد كنا مجبرين على خلق صناعة أسلحة دائمة بمقادير ضخمة”.
ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ما تزال الولايات المتحدة في حالة شبه حرب شبه دائمة. ونحن الآن منخرطون في ما لا يقل عن سبع من صراعات الحرب، والعديد منها من دون أي تخويل مناسب بالحرب. واليوم، أصبحت وزارة الدفاع (التي كانت تسمى في السابق، على نحو أكثر مناسبة، وزارة الحرب) هي أكبر جهة توظيف في الدولة؛ حيث لديها أكثر من 2.4 مليون موظف فيدرالي، ومئات الآلاف الإضافيين من المتعاقدين الفدراليين. وهناك ما يقدر بحوالي 20.000 مستخدم في وكالة المخابرات المركزية الأميركية “السي.آي. إيه”، وأكثر من 800.000 في الحرس الوطني وقوات الاحتياط.
وحتى في القطاع الخاص، تستطيع مبيعات الأسلحة تحقيق نسب مذهلة من إجمالي مبيعات الشركات التي تنظم حملات ضغط على الحكومة حول مسائل الدفاع. وعلى سبيل المثال، ثمة أكثر من 78 في المائة من إجمالي مبيعات لوكهيد مارتن الضخمة البالغة 46.5 مليار دولار تتحقق من مبيعات الأسلحة. ومن الجدير بالذكر أنه يطلب من الشركات العامة قانونياً أيضاً تقديم عوائد للمساهمين فوق كل العوامل الأخرى -بما في ذلك الرفاه العام والاهتمامات البيئية.
وحتى في أوقات عدم وجود حروب عالمية، يستهلك العمل العسكري من هذا النوع غالباً، وحرفياً، أفضل طاقات الشعوب.
الحرب تعرض إنجازات الإصلاح الاجتماعي للخطر
الهجمات المتعمدة على الحقوق المدنية مثل “القانون الوطني” وقريبه الأكبر والأسوأ “تخويل الدفاع الوطني”، ومراقبة وكالة الأمن القومي، والتعدي على حقوق الصحفيين ومطلقي صفارات الإنذار، كلها جاءت في أعقاب الأمن المتشدد في الأوقات غير المستقرة بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر).
وفي الأثناء، ومع فقدان الجمهور للسلطة في الميدان السياسي لمحاسبة الحكومة المركزية التوسعية وتحميلها المسؤولية، فإن إجراءات التقشف غالباً ما تخفض الإنفاق على البنية التحتية، مثل التعليم والرعاية الصحية، أو دعم الإصلاحات الاجتماعية لإعادة، لحساب توجيه أموال تبدو بلا نهاية للحرب. وفي هذه الأوقات، نقوم بإرسال رسالة واضحة للجماهير الجائعة والفقيرة والمجهدة، مؤداها أنها ليست هناك أموال كافية للبرامج التي يحتاجها الناس، لكنها لن تكون هناك أموال كافية أبداً من أجل “الدفاع”.
على الرغم من أن إنفاق الدفاع الأميركي يبتلع ذلك الإنفاق الخاص بالأمم السبع مجتمعة، ثمة، في أعين الرابحين من الحرب ومشاكسي الموازنة على حد سواء، المزيد من الأموال للحرب في المستقبل. وببساطة، سوف تأتي تلك الأموال من خدمات يعول الجمهور عليها -لأجل الصالح الأكبر. وعندما تندلع الحرب بموافقة المصنعين (كما نترنح تحت هذه المقدمة بالضبط مع أي واحدة من القوى العالمية الثلاث -روسيا وإيران والصين)، فإن ثمة اقتراحات لخفض الرعاية الصحية والضمان الاجتماعي وبرامج العاملين، أو خفض الالتزام بالنقل والطاقة تقدم بفكر نيّر. ومن الطبيعي أن الأمة سوف تحتاج، مؤقتاً، إلى شد الأحزمة من أجل الدفع للحرب، لكن الحرب عادلة! ادعموا القوات!
بمجرد أن نصبح في خضم الحرب، يكون هناك القليل من الفائدة في التساؤل عن استحقاق الانخراط في حد ذاته، كما شاهدنا بوضوح في الحروب في العراق وأفغانستان وحتى في الصراع المستعر في سورية، الذي يزيد التوتر مع روسيا. ومتى ما كنا في حالة حرب، فإن كل ما نستطيع فعله هو أن نحاجج ضد إجراءات التقشف التي تصيب بالشلل.
قال ليون تروتسكس: “كان الافتقار إلى الخبز هو الدافع للحركة. وهذا، بالطبع، ليس سبباً عارضاً. وفي كل البلدان المتحاربة، يكون الافتقار إلى الخبز هو السبب الأكثر قرباً وحضوراً لعدم الرضا والسخط بين الجماهير. ويتكشف لهم كل جنون الحرب من هذه الزاوية: من المستحيل إنتاج ضروريات الحياة عندما يضطر المرء إلى إنتاج أدوات الموت”.
وكتب جورج أورويل في روايته “1984” أن عمل الحرب هو تدمير منتجات العمل البشري، الذي لو سمح للجماهير باستخدامه، لجعل السكان أذكياء جداً ومرتاحين جداً بحيث لا تستطيع الحكومات أن تسيطر عليهم”.
إذا كان المرء لا يستطيع استيعاب أن الحرب هي فعل لتدمير العمل الإنساني، فمن المؤكد أننا نستطيع فهمها كنتيجة له. ليس تدمير العمل وحسب، وإنما تحميل المجتمع الدين الضخم وكلفة الحرب بين الناس الذين لا يستطيعون احتواء اعتصارهم مرة أخرى، كما هو واقع الحال.
كان تروتسكي قد تحدث عن هذا أيضاً في سياق الحرب العالمية الأولى:
“كسبت البرجوازية الأميركية المليارات من دم العامل الأوروبي: لكن ما الذي حصلت عليه ربة البيت الأميركية أو النساء العاملات؟ إن حصتها هي الندرة، والكلفة الهائلة للحياة. والأمر نفسه في كل البلدان، سواء كسب البرجوازي في هذا البلد أو الآخر أو مني بهزيمة. وبالنسبة للعمال، للجماهير الكادحة، تكون النتيجة هي نفسها: نفاد مخزونات الغذاء، والفقر والعبودية والقمع، والحوادث، والجروح والإعاقات – كل هذا ينصب على الجماهير الشعبية”.
وفي سياق الحرب العالمية الثانية، قال الرئيس السابق آيزنهاور:
“كل مدفع يصنع وكل سفينة حربية تدشن، وكل صاروخ يطلق، يشكل في المحصلة الأخيرة سرقة من الذين يجوعون ولا يُطعِمون، والذين يبردون ولا يُلبَسون”.
يمكن القول إن من السهل شن حرب إيديولوجية عندما يدفع آخرون الثمن. وقد يصف المرء هذه بأنها “الخيارات الصعبة” التي يحبونها، لكنها كلها مصنوعة من كراسي على كراسي المكاتب الجلدية.
كما أن من السهل أيضاً النظر وراء إلى الحرب في العراق، والادعاء بأن الجماهير تعرضت للخداع لتدعم العمل العسكري، بينما تم تجاهل الحقيقة الزاهية والساطعة، عندما احتجت الجماهير على الحرب وتمسكت بالحصول على تبرير لها.
عندما تقع كل القطع في مكانها بحيث تثور الحرب العالمية الثالثة، قد تكون كلمات عالم الاجتماع الأميركي الراحل، سي رايت ميل، ذات نفع وفائدة: “كان السبب الفعلي للحرب العالمية الثالثة هو التحضير العسكري لها”. عندما تندلع الحرب العالمية الثالثة، فإنها ستأتي بدعم الأغلبية، مثلما كان حال كل حرب عالمية حتى الآن. ومن المرجح أن تكون هيلاري كلينتون هي الرئيس الأميركي التالي. وكانت قد هددت بعمل عسكري واضح ضد روسيا رداً على صلاتها غير المثبتة بتسريب اتصالات جرت داخل اللجنة القومية الديمقراطية. كما أنها كررت دعمها لفكرة إقامة منطقة لحظر الطيران فوق سورية، الأمر الذي سيفضي إلى اندلاع حرب مع روسيا وفقاً للعديد من الخبراء.
عند هذه النقطة من المحتمل أن يتحول حتى أولئك الذين يدعون إلى السلام الآن إلى دعاة للحرب عندما تثار مشاعر العداء لديهم بفعل عرض أحادي الجانب للشر الروسي. كم عدد الذين سيتطوعون منهم للانضمام إلى الجيش المدني؟ يستطيع المرء أن يحاجج بأنها ستكون هناك نسبة واحد إلى واحد، نظراً لأنه لا يجب على المرء أن يدعم الحرب ما لم يكن على استعداد لدعمها بحياته هو أيضاً.
طالما كان انفصال الدعم الأيديولوجي للحرب “يساوي” الوطنية، فإن الشعب الأميركي يخاطر بتحمل أثقل أعباء الحرب من دون أن يقصد ذلك.
وكبديل، يستطيع الكادحون والمقموعون والمجهدون البروليتاريون الذين يتم تحليل أجسادهم إلى معادلات عن الضرر الجمعي يومياً، أن يشعروا بالتمكين من جانب أولئك الذين رفضوا الحرب تاريخياً، حتى تحت غطاء “العدالة” النحيل في أغلب الأحيان.
ليزي مالدونادو
صحيفة الغد