الأيدي الآثمة التي أطلقت صاروخ «سكود» على مكة المكرمة لم تكن أيدي الحوثيين وحدهم، بل ان إيران هي من استهدف البلد الحرام وسعى إلى تدمير أقدس البقاع الإسلامية، لولا أن حالت يقظة رجال القوات المسلحة السعودية بينهم وبين هدفهم الخبيث. والحوثيون، كما قلنا من قبل، ليسوا أكثر من مخلب قط أعمى تم إذكاء الهوس الطائفي لديه عبر عملية رعتها طهران، مستفيدة من عبث علي عبدالله صالح باليمن ومحاولته الحفاظ على سلطته بدعمه الحوثيين في منتصف التسعينات، ليوازن بهم صعود حزب الإصلاح «الإخواني» ونفوذه المتنامي. وحتى في حروبه الست معهم، كان صالح حريصاً على ألا يهزمهم تماماً، ليكونوا المنافس الآخر لـ «الإخوان المسلمين» الطامحين هم أيضاً إلى حكم اليمن، لكن الحوثيين سرعان ما أصبحوا خنجراً مغروساً في جنب اليمن بأكمله، ولم يعد هناك بدٌّ من اقتلاعه ومعالجة جروح اليمن النازفة، وهي المهمة التي اضطلع بها التحالف العربي منذ بدء «عاصفة الحزم».
اليد الإيرانية هي من خطط ودبَّر ونفّذ، وقصد للصاروخ الذي استهدف أطهر بقاع الأرض أن يصل بالمنطقة كاملة إلى أوج اشتعالها، وأن تنشب الفتنة المذهبية والطائفية في البلدان العربية من أقصاها إلى أقصاها على وقع هذا الحادث الرهيب. واليد الإيرانية هي من يجب قطعها وكف شرِّها وأذاها، ويمكن تبيُّن آثارها في كل مكان يشهد الدمار والخراب والفرقة من العالم العربي، سواء كان ذلك في اليمن أم العراق أم سورية أم في لبنان. وكأنما تمثل هذه اليد الإيرانية لعنة تصيب أي أرض تحل بها، وتحيلها إلى قطعة من الجحيم الذي يلتهم الأرواح والثروات والأمن والسلم والأمل في المستقبل، ذلك أن بذور الكراهية التي تزرعها الأيدي الإيرانية في المناطق التي تبلغها تُنبت أشجاراً شيطانية عصية على الاقتلاع.
ولئن كانت الأيدي الإيرانية التي ترتدي قفازاً حوثياً قد استهدفت مكة قبل ثلاثة أيام بالصواريخ، فإنها لم تتوقف عن استهدافها يوماً منذ نشوب الثورة الإيرانية بأساليب أخرى، منها إثارة الشغب وحشد التظاهرات في مواسم الحج، وتحويل الشعيرة الإسلامية المقدسة إلى مناسبة لإحراز مكاسب سياسية رخيصة، وإضفاء أجواء من التوتر والكراهية في وقت ينبغي أن يكون كل عمل خالصاً لوجه الله جلّ وعلا، ومجرداً عن كل غرض أو هوى. وفي هذا الإطار تأتي الزوبعة التي أثارتها إيران حول حادث تدافع الحجيج في منى في العام 2015، والدعوة المشبوهة إلى «تدويل الحج»، وكذلك المناورات التي سبقت موسم الحج في العام الحالي، ومحاولات الابتزاز التي مارستها إيران، إلى الحد الذي منعت معه الإيرانيين من أداء الفريضة المقدسة لمجرد تشويه صورة المملكة العربية السعودية التي تشيد كل دول العالم الإسلامي بما تبذله من جهود جبارة لتُيسِّر للمسلمين سبل الحج مع الزيادة الهائلة في أعداد الحجاج عاماً بعد عام.
لسنا أمام حدث منفصل عن سياقه إذن، وإطلاق الصاروخ على مكة من صعدة، معقل الحوثيين، هو محطة مُتوقعة من جانب الحوثيين ومن يحركونهم، وقد أثبتت تجربتهم في اليمن خلال العامين 2014 و2015 أن أطماعهم لا تعرف حدوداً، وأنهم بمجرد امتلاك القوة لا يعترفون بخطوط حمراء وطنية أو دينية أو إنسانية. ففي اللحظة التي رأوا فيها أن الفرصة مواتية لالتهام اليمن بكامله لم يترددوا، ولم تردعهم عن ذلك حقائق على أرض اليمن تجعل انفرادهم به وهيمنتهم التامة عليه ضرباً من المحال، إلى جانب حقيقة عجزهم عن إدارة شؤون الدولة في ظل ما يواجهه اليمن من مشاكل وصعوبات. ومثلهم مثل أي مهووس يعميه هواه، لم يروا غير هدف واحد انقادوا إليه من دون أي حسابات. وهذا النمط من العمى هو ما سيطر على الحوثيين ومَنْ وراءهم لدى إقدامهم على استهداف مكة المكرمة بالصواريخ، فقد سوَّل لهم انهيارهم الوشيك الإقدام على خطوة كبرى تربك الحسابات، وتدخل بالحرب في منعطف يُنذر بتفجير غير محدود للأوضاع في المنطقة بأسرها، وقد يمتد إلى العالم الإسلامي بكامله، وهو ما سيستدعي تدخلات قد تنقذهم – في ما يتوهمون – من السقوط المحتوم.
اليأس قد يكون كلمة السر التي تُفسر إقدام إيران، بتوقيع حوثي شكلي، على خطوة بخطورة ضرب مكة المكرمة. واليأس هو ما يدفع نوري المالكي في هذه اللحظة تحديداً إلى أن يصرخ من دون وعي «قادمون يا يمن»، وهو الذي سيطر «داعش» في عهده على مساحات واسعة من العراق بين عشية وضحاها. وما كان لـ «داعش» أن يحقق ما حقق من مكاسب لو أن المالكي صرف جزءاً من وقته وجهده لتقوية اللحمة الوطنية، ولم تحركه مشاعر الانتقام الطائفي التي فاقم من آثارها الفساد والتسلط، ولم يسئ معاملة أهل الموصل وبقية العراقيين من منطلق طائفي صرف. ولم يكن حلول العراق في المرتبة الثالثة عالمياً لأكثر الدول فساداً خلال تولي المالكي رئاسة الوزارة بعيداً من الهزيمة الثقيلة التي مُني بها العراق في عهده. وصراخ المالكي ليس بعيداً من إيران التي رعت فساده، وحالت دون مساءلته ودون اقتياده إلى أقبية السجون جزاء فساده الموثق. وتزامن دعوة المالكي مع إطلاق الصاروخ على مكة ليس مصادفة، ودافعهما هو المأزق الحوثي الإيراني الحالي الذي يقتضي تصعيداً أكبر، في محاولة للهروب إلى الأمام.
لم تدخر إيران وسعاً في تصدير الطائفية المقيتة إلى اليمن، وتدمير التعايش الذي ظل سمة لليمن على رغم مصاعبه ومشاكله، فالأحقاد الطائفية هي الباب الذي تدخل منه إيران على الدوام، يرافقها السلاح الذي تعرف أنه سيضمخ الشقاق الطائفي بالدم الذي يستجلب مزيداً من الدم مع تراكم المواجهات والثارات. ولقد صرح الأميرال الأميركي كيفن دونغان الأسبوع الماضي بأن البحرية الأميركية وبحرية دول التحالف العربي ضبطت خلال العام الماضي أربع سفن إيرانية محمَّلة بالأسلحة كانت في طريقها إلى الحوثيين في اليمن. وعلى رغم أن هناك أسلحة إيرانية يتم تهريبها وتصل إلى الحوثيين أحياناً، فإن الإجراءات التي تنفذها قوات التحالف العربي تنفيذاً لقرارات الشرعية الدولية حدَّت كثيراً من قدرة الحوثيين على تنفيذ ما خططوا له، وحصرتهم في مساحة من الأرض تتضاءل وتنكمش كل يوم مع ما تحرزه قوات الشرعية من انتصارات.
تعاين إيران الآن فشل ما خططت له في اليمن، وتهاوي الميليشيا التي راهنت عليها. وليس ذلك بالأمر السهل على طهران التي سيطرت على القرار في سورية وفي العراق وفي لبنان من طريق وكلاء يتضخمون ليلتهموا الدولة بكاملها. ولعل زعماء إيران كانوا يتوقعون في مطلع العام 2015، وقبل انطلاق «عاصفة الحزم»، أن قاسم سليماني يمكن أن يصبح المتحكم الأوحد في اليمن كما هي حاله في العراق، وأن يتبجح بالظهور في تعز أو في عدن أو حضرموت أو صنعاء وقتما يشاء، وأن يطلق تصريحات استفزازية بأنه سيقتحم هذه المدينة اليمنية أو تلك، كما يفعل الآن في بغداد، وكما فعل قبل شهور في الفلوجة التي ارتكب حرسه الثوري فظائع ضد أهلها بعد تحريرها من «داعش». وتهاوي أحلام إيران هو ما جعل ساستها يُقدمون على اتخاذ قرار بخطورة استهداف مكة المكرمة بالصواريخ، غير واعين أن مثل هذه الجريمة تُعجل بنهايتهم.
راشد صالح العريمي
صحيفة الحياة اللندنية