تتوّج معركة الموصل الدائرة اليوم حلقة في مسلسل التقسيم الذي يجري في العراق منذ أكثر من عقد من الزمن. بدأ الاحتلال الأميركي هذه المسيرة عندما سرّح الجيش العراقي، وسمح لإيران تقطف ثمار إسقاط نظام صدام حسين، وعزز الانقسامات بين المجموعات التي يتكون منها العراق. على امتداد السنوات السابقة، وبعد تكريس نظام سياسي ما، خصوصاً في ظل نوري المالكي، تقاطعت السياسات العراقية مع السياسة الإيرانية على إعادة رسم الجغرافيا العراقية، بما يتيح تثبيت مناطق النفوذ لإيران تحديداً. لم يكن لهذا النفوذ أن يتجذر من دون إعادة رسم الخريطة الديموغرافية لخلق مناطق ذات تكوين سكاني له سمة طائفية مميزة، بحيث تمتنع المعارضات، ويتاح لقوى إقليمية ممارسة سيطرتها بسهولة. خلال هذه الفترة من الحكم، كانت تجري في العراق عملية بناء لميليشيات طائفية صافية، وكان التحريض المذهبي يجري بوتيرة غير مسبوقة، يتولاه رئيس الحكومة آنذاك نوري المالكي الذي كان يضع عنواناً لحكمه يتمثل باستعادة الصراع التاريخي على السلطة بين أنصار الإمام علي بن أبي طالب ومعاوية. لم يكن المالكي يخجل من القول أنه آن الأوان لحسم هذه المعركة التاريخية من قبل المكونات الشيعية.
كان الفرز الديموغرافي قد بدأ يأخذ طريقه قبل قيام تنظيم «داعش» واحتلاله قسماً واسعاً من الأراضي العراقية، وكان الفرز يتم عبر عمليات أمنية وفي مناطق محددة بحيث تترجم هذه العمليات بتهجير سكاني وإحلال سكان من طوائف محددة. تاريخياً، يقوم العراق على ما يشبه التصنيف بين مناطقه، مناطق لديها غالبية شيعية، ومناطق ذات غلبة سنية، ومناطق يحتل فيها الأكراد غلبة مطلقة. لكن هذا التوزيع الجغرافي ظل يحوي اختلاطاً بين السكان من جميع الطوائف، كما يضم مجموعة من الأقليات والإثنيات المتعايشة تاريخياً مع المكونات الأصلية الطائفية. بدأ تغيير الوقائع القائمة نحو إيجاد مناطق جغرافية صافية بعدما تكرّس الحكم الطائفي المستند إلى إيران التي باتت شريكاً حقيقياً في حكم العراق، سياسياً وعسكرياً، مستندة إلى قوى داخلية صعدت إلى السلطة بعد زوال الديكتاتورية التي مثلها نظام صدام حسين وحزب البعث، والتي مارست طوال عهودها تمييزاً طائفياً دفع فيه المكوّن الشيعي أثماناً باهظة من الاضطهاد والتهميش. كان التغيير الديموغرافي وإعادة موضعة السكان يجري بقرارات سياسية ضمنية من السلطات العراقية – الإيرانية الحاكمة. سيتغير هذا الوضع مع بروز تنظيم «داعش» واحتلاله الموصل وتمدده إلى مناطق واسعة في العراق وصلت إلى تخوم العاصمة بغداد. هناك شبهات كبيرة حول سهولة هذا الزحف الداعشي وهروب الجيش العراقي من المعركة، حيث تجزم مصادر بأن حكومة المالكي سهلت دخول هذا التنظيم، كما سهلت فرار القوى العسكرية النظامية، بما يجعل الصراع في العراق هذه المرة صراعاً طائفياً صافياً بين قوى تدعي أنها تريد الدفاع عن مواقع السنة، في مواجهة الحكم الجديد الذي يضطهد المكونات السنية. ولأن الصراع اتخذ هذا الطابع، أعلنت إيران صراحة أنها جزء من المعركة ضد داعش وأن تدخلها هو لحماية المواقع والمراكز الشيعية.
على رغم أن نقاشاً واسعاً يدور حول تكوين «داعش» وتسليحه وتدريبه وتسهيل انتشاره، تدخل فيه سورية وإيران وتركيا وأميركا والنظام العراقي نفسه، كل طرف أراد توظيفه خدمة لمصالحه، إلا أن التنظيم تجاوز الحدود التي قد تكون مرسومة له، وبات يشكل مصدر قلق. لكن الوظيفة الأساسية من خلق التنظيم ومحاربته لاحقاً تكشفت أنها في خدمة إعادة رسم الجغرافيا العراقية. تم خلق ميليشيات مشابهة لداعش، فكراً وممارسة، هي الحشد الشعبي، ودخلت في صلبه قوات إيرانية. قبل الموصل، دارت معارك ضخمة في مناطق عراقية هيمن عليها «داعش»، انتهت بطرده. لكن ما استتبع طرده كان عملية تهجير للسكان أو منع من هربوا من العودة إليها، في مناطق نينوى وديالي وكركوك وحزام بغداد. كما جرت عمليات هدم لبيوت السكان الأصليين، مع استحضار قوى طائفية تابعة للحشد الشعبي وإسكانها في هذه المناطق. وقد نجحت حملة التغيير الديموغرافي إلى حد كبير في تكريس الصفاء الطائفي في هذه المناطق.
تهدف معركة الموصل اليوم، في جانب منها، إلى استكمال فرز طائفي، وسط نزاع دخلت تركيا على خطوطه تحت حجة منع قيام مناطق معادية لها. ما هو شبه مؤكد أن الوضع في العراق، بعد هذا الفرز الطائفي سيكون مقبلاً على مزيد من الصراعات والعنف، لأن الأحقاد الطائفية التي يجري تأجيجها سترتد وبالاً على الغالبية العظمى من الشعب العراقي وعلى مصير العراق نفسه.
خالد غزال
صحيفة الحياة اللندنية