قامت لجنة “يوروستات”، المعنية بجمع البيانات الاقتصادية والديمغرافية وغيرها من المساقات، بعملية إحصاء للسكّان في جمهورية البوسنة والهرسك خلال عام 2013، تمهيدًا لانضمامها إلى المنظومة الأوروبية، الملف الذي حدّثته ووضعته بروكسل قيد التنفيذ في الوقت الراهن. عملية الإحصاء المذكورة هي الأولى منذ قرابة ربع قرن. تفيد البيانات التي توصّلت إليها اللجنة إلى خسارة الجمهورية نحو 20% من تعداد سكانها، إثر حرب البلقان التي شهدها الإقليم في تسعينيات القرن الماضي، حيث بلغ تعداد السكّان عام 1991 نحو 4.4 ملايين نسمة قبل الانفصال عن يوغوسلافيا الاتحادية، وفقدت الجمهورية الشابّة، حسب إحصائيات عام 2013 قرابة 824 ألفاً من مواطنيها، وتسبّبت هذه النتائج بجدلٍ كبير بشأن مبدأ التوزيع الإثني في البوسنة والهرسك.
الأغلبية المسلمة والرفض الصربي
رفض صرب البوسنة الاعتراف بهذه النتائج، علمًا أنّ الإحصائيات المذكورة هي الأولى من نوعها منذ 1991، مؤكّدة أنّ قرابة 3.5 ملايين من تعداد السكّان هم من المسلمين. وحسب الصرب، فإنّ وكالة يوروستات رفعت نسبة المسلمين بحوالي 200 ألف مواطن، غير مقيمين عمليًا في جمهورية البوسنة، ولا يجوز قانونيًا تسجيلهم مواطنين ذوي عناوين إقامة دائمة في البلاد. وبدونهم، فإنّ تعداد المسلمين لن يتجاوز 50% فقط. وحسب البيانات الأخيرة، فإنّ ما يزيد على نصف السكان في البوسنة هم من المسلمين، نسبة تفوق ما شهدته البلاد خلال عام 1991، حيث بلغ تعداد المسلمين 43.5%. وتعداد الصرب 30.8% بعد الحرب، وبلغ تعداد الأقلية الكرواتية نحو 15.4% بعد حرب البلقان الأخيرة.
أودت الحرب الدموية التي شهدها الإقليم بحياة ما يزيد على 100 ألف شخص، وتهجير قرابة مليوني مواطن، بعيدًا عن منازلهم. وبعد نهاية الصراع الإثني، تمّ تقسيم الجمهورية إلى دولتين، تتمتع كلّ منهما بحكم ذاتي، جمهورية صرب البوسنة وفيدرالية البوسنة والهرسك. تتمتّع جميعها ببرلماناتٍ مستقلة، تجمعها مؤسساتٌ مركزيةٌ ضعيفةٌ تفتقد لسلطة إدارية قوية وفاعلة.
كما أشارت نتائج الإحصاءات التي ورد ذكرها إلى تبعات التطهير العرقي والهجرة الداخلية
التي شهدتها البلاد في مرحلة الحرب. عمليًا ما يزيد على 81% من مواطني جمهورية صرب البوسنة، في الوقت الراهن، هم من الصرب الإثنيين الذين قرّروا الهجرة خارج البوسنة والهرسك، في الوقت الذي يبلغ تعداد المسلمين في البوسنة والهرسك نحو 70%. خلال شهر يونيو/حزيران الماضي، قرّر نواب جمهورية صرب البوسنة رفض الاعتراف بنتائج الإحصائيات، وهدّد رئيس صرب البوسنة، ميلوراد دوديك، سحب ممثلي الأقلية الصربية من المؤسسات المركزية، الأمر الذي قد يؤدّي إلى أزمةٍ سياسية. ومع هذا، أفادت مؤسسة “يوروستات” المختصة بأنّ الآلية المستخدمة في الإحصائيات تتوافق تمامًا مع التوصيات الدولية. وحثّ الاتحاد الأوروبي ساراييفو نشر بيانات الإحصائيات واعتمادها، حتى بداية شهر يوليو/تموز الماضي، كي تتمّ دراسة طلب الجمهورية للانضمام للاتحاد الأوروبي ودراسته.
الاتحاد الأوروبي يوافق مبدئيًا
عملية الانضمام للمنظومة الأوروبية طويلة، وتمرّ بآليات إدارية عديدة. مبدئيًا، وافق الاتحاد على انضمام البوسنة والهرسك، وتأمل سراييفو بأن تصبح إحدى العواصم الأوروبية خلال السنوات القليلة المقبلة، علمًا أنّ البوسنة حقّقت تقدّمًا في هذا الاتجاه منذ فبراير/شباط الماضي. ويطالب المجلس الأوروبي المفوضية بتحديد موقفها، والتعبير عن رأيها، بشأن استعداد سراييفو للانضمام، ما يعني استلام البوسنة والهرسك قائمةً تشمل آلاف الأسئلة التي يتوجّب عليها الإجابة عنها بالتفصيل. تهدف هذه الآلية إلى معرفة ما إذا كانت الجمهورية جاهزة للترشّح للمنظومة، والمضيّ إلى توقيع اتفاقية الانضمام، وقد تستمرّ عملية الترشّح إلى أمدٍ غير مسمّى، لكنّها عادة ما تمتدّ إلى قرابة العام، حسب “أسوشييتد برس”، واعتمادًا على الإجابات التي ستحصل عليها المفوضية الأوروبية، ستقدّم تقييمها بشأن قضايا عديدة أهمّها واقع اقتصاد البوسنة ومعدّل المعايير الديمقراطية وسيادة القانون والحفاظ على حقوق الإنسان وقدرة البلاد على الالتزام بالشروط والمتطلبات الخاصّة للانضمام للاتحاد الأوروبي.
أحد الشروط الأساسية المطلوبة للانضمام للاتحاد، تنفيذ القرار الصادر عام 2009 عن المحكمة الأوروبية بشأن حقوق الإنسان الملزم للبلاد بالدفاع عن حقوق الأقليات الإثنية، كاليهود والغجر، وتمكينهم من الحصول على مناصب حكومية رفيعة. لم تتخذ البوسنة خطواتٍ جادّة في هذا المجال، وما يزال الصرب والبوسنيون والكروات يملكون صلاحية المشاركة وأحقيتها في المسابقات الحكومية لشغل المناصب العليا في البلاد، ما يعتبر حجر عثرةٍ أمام البوسنة للانضمام للاتحاد الأوروبي.
تنامي التوجّهات والمشاعر القومية
يرى مراقبون عديدون أنّ البلقان يشهد عملية تنامٍ للتوجّهات والمشاعر القومية، ويمكن لزوّار كرواتيا المجاورة للبوسنة والهرسك والدولة العضو في الاتحاد الأوروبي منذ عام 2013،
مشاهدة التوجّهات القومية في الشوارع والمتنزّهات، حيث يلقي الناشطون القوميون خطبًا ساخنة، تدعو إلى إحياء الحركات القومية المتطرّفة، مثل حركة أوستاشكو (أوستاتي باللغة الكرواتية تعني أتمرّد) النازية التي تأسّست عام 1929، وسعت إلى الاستقلال عن يوغوسلافيا الاتحادية، بعد ضمّ كرواتيا ليوغوسلافيا عام 1945. وخلال المرحلة الانتقالية بعد عام 1992، ظهرت تياراتٌ تطالب بإحياء حركة أوستاشكو النازية، على الرغم من حظرها في البلاد. ولا يختلف الأمر في باقي دول أوروبا الشرقية، إذ ظهرت منظمات شبابية نازية “حليقو الرؤوس”، الرافضة وجود الغرباء والمختلفين في العقيدة والانتماء الإثني في البلاد. يهاجمون الأجانب في الأماكن المظلمة، حيث يتعذّر وجود رجال أمن ومواطنين وعابري طريق في الأنحاء.
كرواتيا خاضعة لتيارات يمينية متطرفة، بدا ذلك واضحًا منذ عام 2013، مع ارتفاع معدّلات اللاجئين القادمين من إقليم الشرق الأوسط. ولا يختلف الأمر كثيرًا في دول أوروبا الشرقية والوسطى، كالتشيك وبولندا ورومانيا وبلغاريا وغيرها. تجدر الإشارة إلى أنّ الحزب الكرواتي المحافظ بذل جهودًا كبيرة حتى عام 2013، لإقناع بروكسل بتوجّهاته الليبرالية، لكنّ التوجهات القومية سرعان ما عادت بعد الانضمام، وانتشرت في معظم دول البلقان، والبوسنة والهرسك ليست استثناءً، ومن المتوقّع أن تطالب جمهورية صرب البوسنة بالحكم الذاتي، والانفصال عن البوسنة والهرسك التي تأسّست وفقًا لمعاهدة دايتون عام 1995، من خلال استفتاء شعبي قد يقوّض هذه المعاهدة.
سيطالب رجال السياسة الكروات بحماية الأقلية الكرواتية في البوسنة والهرسك، حال عقد استفتاء شعبي لاستقلال الصرب، معتبرين البوسنة والهرسك دولة فاشلة من دون أسس. تعني هذه التطوّرات، إلى حدّ ما، إحياء الصراعات الإثنية في هذه المنطقة القادرة على الانفجار لأتفه الأسباب، بالتزامن مع الأزمة الاقتصادية في المنظومة الأوروبية، وارتفاع معدّلات القلق والتوتّر الناجم عن أزمة اللجوء في معظم أنحاء دول المنظومة الأوروبية، خصوصاً طريق البلقان.
البلقان – روسيا والصراع الإثني
تجدر الإشارة إلى أنّ النفوذ والدعم الروسي قد رفع من أثر التوجّهات القومية في صربيا وجمهورية صرب البوسنة. ويبدو البلقان، في الوقت الراهن، جبهة دبلوماسية ومواجهة أكثر مما كان عليه في 1995، حين توقّعت القوى العظمى نجاح العولمة والنمو الاقتصادي، ومضيّ الوقت على التئام الجروح الناتجة عن حرب البلقان، لكن يبدو أنّ هذه الآمال صعبة المنال في ظلّ الظروف والتطوّرات الراهنة.
إذا قرّر صرب البوسنة عقد استفتاء للاستقلال عن البوسنة، وأقدم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، على دعم الأقلية، فإنّ الكرملين سيزيد من رصيد أتباعه، وأنصار لعبته مع الغرب في صراعه لفرض سيادته في سورية وأوكرانيا ودول البلطيق. أدت وضعية الاستقطاب في اليمين واليسار في إقليم البلقان إلى غياب أثر الطبقة المثقّفة، وعدم قدرتها على ترجيح العقل والمنطق في القضايا المصيرية. يصفق اليسار في هذه الأنحاء بحرارة للأبطال القوميين الذين سقطوا خلال الحروب المختلفة، ويرون في روسيا الخلاص في المساقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية كافة، بصورة خاصّة. اليمين في حالة من التخبّط، ولا يجد بديلاً عن نسخ النموذج الغربي، بكلّ إيجابياته وسلبياته، من دون الأخذ بالاعتبار خصوصيات الإقليم والتنوّع الإثني المعقّد. أمّا اليمين المتطرّف “القوميون” فلديهم نظريتهم الضيقة التي لا ترى مكانًا لأيّ تنوّع ثقافي أو إثني في البلقان.
خفض الاتحاد الأوروبي مستوى المعايير المطلوبة للانضمام إلى المنظومة، سعيًا إلى توسيع
رقعة مساحة الاتحاد وبعده الجغرافي، ليضمّ دولاً جديدة في شرق أوروبا من دون فهم أبعاد توجّهات الدول المعنية، ومحاولة حلّ المشكلات الديمغرافية والإثنية ذات البعد التاريخي والعقائدي. وأقدمت دولٌ راغبةٌ بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي في البلقان على رفع حواجز تقنية على الحدود المجاورة للدول الأوروبية مثالاً على ذلك “مقدونيا – اليونان”.
تتركز أهمّ متطلبات بروكسل للانضمام في مقدرة الدول المرشّحة على إنجاز عمليات إصلاح وتحديث في المجالات الاقتصادية، وتعديل الدستور بما يتوافق مع القوانين والمعايير الأوروبية، ويرى محلّلون كثيرون، وبمعزل عن الفساد والشوفينية المستشرية في دول شرق وجنوب شرق أوروبا، أنّ الدول المعنية تفتقر للكوادر والقادة ورجال السياسة الأكفّاء القادرين على القيام بهذه المهام، وتحاول بروكسل غضّ البصر عن هذه الحقائق. لكن، عليها الوقوف في وجه التيارات الداعمة للفاشية والتطرّف، إذا رغبت بتحقيق أهداف الاتحاد على المستويين، المنظور والبعيد، والحفاظ على وحدة المنظومة.
الاتحاد الأوروبي يقرّر
تنتظر البوسنة والهرسك قرار وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي، بشأن طلبها بالانضمام للاتحاد، الذي قد يواجه بالرفض، إذا ما طالب صرب البوسنة بالحصول على سلطةٍ ذاتية مستقلة، ما يعني عمليًا انهيار الدولة الشابّة، وتنامي الصراع الإثني، حسب وكالة رويترز.
هذا هو الطلب الأول لانضمام البوسنة للاتحاد، لكن وحدة الدولة، وللمرّة الأولى، تتعرّض لمخاطر الانهيار، نتيجة فقدان التنسيق والتفاهم بين حكومات المكوّن الإثني. ومع ذلك، يتوقّع وزير خارجية البوسنة، إيغور تسيرناداك، قبول طلب الانضمام، لأنّ بلاده نفّذت كل متطلبات الاتحاد وتوصياته. تكامل دول غرب البلقان هدفٌ رئيسي للاتحاد الأوروبي، وترى بروكسل أنّ عملية الانضمام هي أكبر ضمان للحفاظ على الأمن والسلام في الإقليم الذي ما يزال يعاني من تبعات الحروب المدمّرة التي صاحبت انهيار يوغوسلافيا الاتحادية، في تسعينيات القرن الماضي، وستأخذ بروكسل بالاعتبار خضوع صرب البوسنة لمطلبها لتوسيع معاهدة التبادل التجاري مع كرواتيا، العضو في الاتحاد الأوروبي، في شهر يوليو/ تموز الماضي، كأحد الشروط الأساسية للانضمام للاتحاد. على الرغم من أنّ التوجّهات الانفصالية ما تزال تهدّد سيادة البوسنة، حتى بعد مرور 20 عامًا على تأسيسها، عدا عن تردّي الأوضاع الاقتصادية، وعدم القدرة على تهيئة المناخ اللازم لاجتذاب رؤوس الأموال والاستثمارات الأجنبية.
نجح الاستفتاء الذي طالب صرب البوسنة البالغ تعدادهم قرابة 1.2 مليون مواطن بعقده، لاعتماد التاسع من يناير/كانون الثاني عيداً وطنياً وعطلة رسمية. على الرغم من حظر المحكمة الدستورية في سراييفو عقده، لما فيه من تمييز عنصري تجاه المسلمين والكروات الكاثوليك. يتطابق هذا التاريخ مع يوم إعلان الصرب قيام جمهوريتهم داخل البوسنة عام 1992. وزير الخارجية تسيرناداك، وهو من صرب البوسنة، أوضح أنّ الاستفتاء لن يؤثّر على طلب البوسنة للانضمام للاتحاد الأوروبي، وسيتمّ العثور على إطار قانوني للاحتفال بالعيد الوطني في التاسع من يناير. لكنّ هذه الحقائق مجتمعة تدلّ على وجود خلافٍ واستقطابٍ إثنيٍّ شديد الوضوح في البوسنة، ولا بدّ لبروكسل من التعامل معها بحذر وحسم في الوقت نفسه، تفاديًا لانهيار الدولة الشابّة، وإنجاز عملية الانضمام، بما يضمن سيادتها وأمن مواطنيها.
خيري حمدان
صحيفة العربي الجديد