ثمة ذوبان للجليد في التوتر القائم بين تركيا وروسيا، فيما يدفع كلا البلدين قدماً بجهود المصالحة في الفترة الأخيرة. وبدءاً من اعتذار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان للرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن إسقاط الطائرة الروسية في العام الماضي، أظهرت الدولتان إرادة سياسية لإقامة تعاون أوثق بينهما في سورية. لكن السؤال يبقى: إلى أي مدى يمكن أن يذهب التقارب في سورية؟
أثار التنسيق الأوثق بين الدولتين في سورية خلال الأسابيع القليلة الماضية بعض الآمال. فحتى وقت قريب، كانت أنقرة تحاول إقناع روسيا بعدم اشتمال الجماعات التي تدعمها تركيا، مثل “جبهة النصرة” و”أحرار الشام” في قائمة أهدافها. لكن أردوغان وبوتين اتفقا في الأسابيع الأخيرة على إخراج تنظيم “جبهة النصرة” التابع للقاعدة من حلب. وقال وزير الخارجية التركي، مولود تشاويش أوغلو، أن على “جبهة النصرة” الانسحاب من مواقعها العسكرية في حلب على الفور، مضيفاً أن على قوات المعارضة السورية أن تفصل نفسها عن المجموعة الإرهابية.
ومن جهته، ظل أردوغان ملتزماً الصمت إزاء العملية التي تنفذها روسيا وقوات الأسد في شرق حلب. وفي افتتاح السنة التشريعية الجديدة، تناول أردوغان الوضع في حلب وألقى باللوم على الغرب من دون أن يذكر هجوم النظام أو المشاركة الروسية فيه.
في المقابل، يبدو أن روسيا تغض الطرف عن القصف التركي للمقاتلين الأكراد حول حلب. وفي الأسبوع قبل الماضي، استهدفت الغارات الجوية التركية مجموعة من مقاتلي وحدات حماية الشعب الكردية في ثلاث قرى، إلى الشمال الشرقي من مدينة حلب. وبالنظر إلى السيطرة الروسية على الأجواء في شمال غرب سورية، يعتقد مسؤولو وحدات حماية الشعب أن من غير المرجح أن تكون تركيا قد شنت الضربات من دون إبلاغ موسكو.
بينما تشير التحركات الحالية في سورية إلى أن أنقرة وموسكو مستعدتان لتقديم تنازلات من أجل تعزيز التقارب بينهما مؤخراً، فإن لتعاونهما حدودا في نهاية المطاف. ربما تكون روسيا قد أعطت أنقرة الضوء الأخضر لضرب أهداف من وحدات حماية الشعب الكردية، لكن من غير المعروف ما إذا كانت أنقرة تستطيع الاعتماد على موسكو في احتواء وحدات حماية الشعب، حيث كان لروسيا تاريخ طويل في دعم حزب العمال الكردستاني الذي تتبعه المجموعة.
في السابق، كان الاتحاد السوفياتي قد قدم ملاذات آمنة للأكراد وسهل عمل وسائل الإعلام والدعاية الكردية بدءاً من الأربعينيات. وكان قد عُرض على زعيم حزب العمال الكردستاني المسجون حالياً، عبد الله أوجلان، الملاذ في سورية المتحالفة مع السوفيات حتى تم طرده وسعى إلى الحماية في روسيا في العام 1998. وعمل حزب العمال الكردستاني بشكل قانوني في روسيا ما بعد الاتحاد السوفياتي خلال التسعينيات. وفي الآونة الأخيرة، سمحت روسيا لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي بفتح مكتب له في موسكو، واستخدمت المجموعة الكردية لدق إسفين بين تركيا والولايات المتحدة.
في الربيع الماضي، قالت الحكومة الروسية أنها أرسلت قوات للقتال إلى جانب الوحدات الكردية حول حلب، وأنها تهدف إلى الاحتفاظ بموطئ قدم في المنطقة عن طريق استثمار العلاقات مع الأكراد السوريين من خلال صفقات السلاح والذخيرة والنفط.
ثمة عامل تعقيد آخر أمام التقارب التركي-الروسي، والذي قد يكون حرص تركيا على استعادة بلدة الباب التي يسيطر عليها “داعش” في سورية. وتشكل البلدة آخر معقل رئيسي لـ”داعش” في محافظة حلب، وستكون استعادتها حاسمة في استعادة الرقة والقتال من أجل حلب. وبالنسبة للأكراد، توفر بلدة الباب فرصة للربط بين كانتوناتهم في الشرق والغرب لتشكيل منطقة حكم ذاتي متصلة. وتجعل هذه التطلعات الكردية من بلدة الباب ذات أهمية خاصة لأنقرة التي تريد أن تعرقل الجهود الكردية لتأسيس منطقة كردية موحَّدة على طول حدودها الجنوبية.
وقد دفعت الأهمية الاستراتيجية لهذه البلدة النظام وداعميه، والجيش السوري الحر وداعميه الأتراك، وقوات سورية الديمقراطية التي يهيمن عليها الأكراد، إلى التنافس جميعاً للسيطرة على الباب. وأعلنت تركيا مؤخراً أن الهدف التالي لعمليتها “درع الفرات”، التي احتلت بموجبها جرابلس ومناطق حدودية أخرى بمساعدة من الجيش التركي وتحالف من الثوار العرب، سيكون الاستيلاء على بلدة الباب. لكن من غير المرجح أن تمنح روسيا لتركيا إمكانية تحقيق رغبتها في احتلال الباب، لأن ذلك سوف يضع مقاتلي الثوار على مسافة الضرب من حلب التي يحاول النظام وروسيا الاستيلاء عليها حالياً.
تلتزم روسيا بشكل كبير بتأمين مكاسب النظام السوري حول حلب. وبعد إعلان الولايات المتحدة عن تعليق المحادثات مع روسيا حول تطبيق وقف الأعمال العدائية، يقال أن مجلس الأمن الدولي شرع في مناقشة توجيه ضربات محتملة إلى الجيش السوري لوقف الضربات الجوية السورية حول حلب. وحذرت موسكو الولايات المتحدة من أن روسيا نشرت أنظمة صواريخ (أس-300) و(أس-400) حول منشآتها في سورية. وأدى تصاعد التوتر بين الولايات المتحدة وروسيا في سورية إلى تصلب الموقف الروسي حول حلب. ولكن، إذا قامت روسيا بتكثيف عملياتها العسكرية حول المدينة، بحيث لا تقوي شوكة النظام فحسب، وإنما تتسبب في سقوط المزيد من الضحايا المدنيين، هل تستطيع أنقرة تحمل مؤونة التزام الصمت؟
على الرغم من النشوة التي يثيرها أفق قدوم “ربيع تركي-روسي” في الأوساط الموالية للحكومة في تركيا، فإن للتقارب بين أنقرة وتركيا في سورية حدوده. وربما تكون الجهود التركية لاستعادة بلدة الباب أول محك لاختبار التعايش الذي تم التوصل إليه حديثاً بين موسكو وأنقرة في الموضوع السوري.
غونول تول
صحيفة الغد