تتردّد في وسائل إعلام غربية وغيرها «بشارة» اندلاع قريب لموجة ثانية من «الربيع العربي»، ويقدَّم هذا البلد أو ذاك على أنه المرشح لافتتاح الموسم الجديد، وتوظّف أحداث مختلفة لإعطاء الانطباع بقرب ساعة الحسم.
قد تكون المسألة مجرد بالونات إعلامية، وقد تكون تعبيراً عن رغبات متباينة الأهداف والغايات، لكن الأكيد أن أي طرف لا يستطيع أن يقرّر قيام أيّ شيء من هذا القبيل (ولا منعه)، فلم يكن ما دُعي بالربيع العربي سنة 2011 مؤامرة محبوكة من طرف معين وإنما جاء نتيجة التقاء عوامل عدّة في آن. وفي المحصلة، لم يكن ربيعاً، لأنه لم يضع البلدان التي حصل فيها على سكة الحكم التــشاركي الناجع، أو طريق التحديث الاقتصادي المنصف، عدا عن أنه أردى ثلاثة بلدان من خمسة في حروب أهلية طاحنة.
ولئن نجح حدث الثورة ذاته في بعض الــبلدان فلأنه جمع بين طموحات متناقضة: طموحات الليبراليين بالديموقراطية، والإسلام السياسي بالوصول إلى الحكم، ورجال الأعمال بالتخلص من ضغط الدولة، والعمّال بالحصول على رعاية أكبر من الدولة، والمؤســـسات الاقتصادية العالمية بتعزيز دخولها إلى أسواق المنطقة، والمؤسسات المحلية بحماية نفسها من عولمة منفـــلتة وغير متـــكافئة، الخ.
ولم يكن من السهل بعد ذلك إيجاد توافقات بين هذه الطموحات كلها، ولم يكن سهلاً تحقيق ذلك ولن يكون، هذا إذا لم ينتهِ الأمر إلى الانفجار الكامل.
مع ذلك، واهم من يظنّ أن ما حصل كان قوساً عابرة. فالعالم تغيّر تغيراً عــميقاً في العــقدين الأخيرين ولا بدّ من التكيُّف إيجاباً مع هذا التغير والقــبول بإصلاحات كثيرة تخالف المألوف في طرق الحكم وإدارة الاقتصاد ومسالك التعليم والرعاية الصحية والاجتماعية، فلم يبق مجال خارج هذه التغيرات الهائلة التي تراكمت بسرعة وأصبحت ضاغطة على الجميع. ومن يظنّ أن الثورة في ذاتها هدف، واهم أيضاً، فهي مجرد انفجار ناتج من تعطل الإصلاح، وقد تكون في أحسن الحالات وسيلة لتحقيقه لكنها في ذاتها لا تحلّ مشاكل الناس ولا تتقدّم بهم.
الإصلاح والإصلاح ثم الإصلاح. هذا ما تحتاجه مجتمعاتنا اليوم. إنّ الإصرار على مواصلة استعمال تعبير «الربيع العربي» يمثل في ذاته تعدياً على مئات الآلاف من الأبرياء الذين قضوا في السنوات الأخيرة نتيجة النزاعات والحروب واستعمال النساء والأطفال دروعاً بشرية والارتماء في أهوال البحار للهروب من جحيم الأوطان. ثم هو استخفاف بالذات أن يصوّر الدمار المحيط بالمنطقة على أنه ربيع سعيد.
لنتجاوز الاستعارات المضلّلة والثوروية المراهقة ولنذهب إلى صلب الموضوع: ما المطلوب اليوم؟
أن نصرّ على فرضِ مجتمعات أحادية أم نقبل بمبدأ التنوّع الاجتماعي على قاعدة الاشتراك في المواطَنة وإعلاء الولاء للوطن على العقيدة والمذهب والطائفة والعرق والقبيلة؟
أن نبقي اقتصاد الريع والرعاية أم أن نـــحرّر المـبادرة الفردية في إطار قانوني صارم يمنع الفساد والرشوة والمحسوبية والاحتكار الصريح والمقنع ولا يعترف بغير الكفاءة والنجاعة؟
أن نحافظ على أنظمة تعلـــيمية قائـــمة على الـــترديد والتكرار ومنفصلة عن الحاجات الحقيقية للمجتمع أم أن نوجهها لإعداد المواطن الحرّ المسؤول القادر على فهم محيطه المحلّي والعالمي واتخاذ القرارات الصائبة في ما يخصه وفي ما يخص وطنه؟
أن نتقاتل لمراجعة حدود الدول القائمة والتوزيعات السكانية الموروثة، ونبشر بسايكس بيكو جديدة، أم نعزّز التعاون والتآخي والانفتاح بين المجموعات البشرية حتى تصبح قضية الحدود رسماً إدارياً شكلياً لا يدفع إلى الصراع ولا يمنع من التواصل؟
أن نراهن على الإسلام السياسي ليكون بديلاً عن القومية بعد انهيارها أم أن نتخلص من ضغط الأيديولوجيا ونقطع مع الطوباويات ونتعامل مع القضايا بواقعية وعبر اقتباس التجارب البشرية الناجحة؟
سيحلّ الربيع علينا يوم نحسم اختياراتنا في هذه المعضلات الخمس المطروحة علينا بحدّة، ومنذ اندلاع الثورات العربية وقبلها أيضاً بفترة طويلة. فهذا هو السبيل إلى الإصلاح الحقيقي في مجتمعاتنا، وما عدا ذلك انفعالات للتنفيس لا للتغيير، ودوران في حلقة مفرغة، وعودات مخيبة إلى خانة الانطلاق… أو ما هو أسوأ.
محمد الحداد
صحيفة الحياة اللندنية