يحلو لبعض من يستهويهم الاستبداد لأنه يُمكّن من إصدار قرارات سريعة وحاسمة ويحفظ الأمن والاستقرار، ومن تُغريهم مظاهر تدل على فاعليته، المقارنة بين ما يعدونه تمدداً روسياً في ظل نظام سياسي مستبد وانكفاءً أميركياً يرجعونه إلى النظام الديموقراطي المأزوم.
وتعطي حملة الانتخابات الرئاسية الأميركية لأمثال هؤلاء مادة كثيفة يربطونها بالأزمة التي يمر فيها النظام الديموقراطي في معقله الغربي عموماً، فيبدو السعي إلى مثله كأنه عبث لا طائل منه. وهم إذ يتوقعون أن تُعّمق هذه الانتخابات أزمة النظام الديموقراطي الأميركي وتزيده ضعفاً، يقصدون أن العملية السياسية التنافسية الحرة تُنتج أزمات لا حاجة إلى مثلها في بلاد يرون أنها تحتاج إلى غير ذلك. كما يجدون في تهديد المرشح الجمهوري دونالد ترامب بعدم الاعتراف بنتيجة الانتخابات إذا لم تحمله إلى البيت الأبيض الدليل الذي يظنون أنه لا يُدحض على عدم جدوى الديموقراطية. وعندئذ تبدو «الانتخابات» المحسومة نتيجتها قبل عامين على موعدها، كتلك التي ستُجرى في روسيا عام 2018، النموذج الذي ينبغي أن يُحتذى.
لم يتعرض النظام الديموقراطي منذ أن عرفه العالم لمثل هذا الطعن في مقوماته الأساسية، على رغم كثرة أزماته في مختلف البلدان التى حققت تقدمها في ظله. ولم يحدث في أي وقت أن اهتزت الفكرة الديموقراطية في العالم إلى حد أن يشك بعض أنصارها في ما كانوا يرونه النظام السياسي الأفضل، أو الأقل سوءاً وفق بعض أنصاره، لأنه يتيح فرصاً للاختيار بين بدائل متعددة، ويضمن آليات لمراقبة السلطة المنتخبة ومساءلتها ومحاسبتها، ويوفر إمكانات لمراجعة سياساتها ومعالجة أخطائها، بل لتصحيح اختيارات من انتخبوها إذا لم تُحسن إدارة الشأن العام ما دامت هناك انتخابات تالية معلوم موعدها.
ولعل أخطر ما في هذا التطور هو الانتقال من نقد أوجه القصور المعروفة في النظام الديموقراطي إلى تفضيل نظام استبدادي عليه عبر مقارنة في غير موضعها بين السياسة الهجومية لروسيا وخصوصاً في الشرق الأوسط، والانكفاء الأميركي أمامها. فالمقارنة بين حالتين، أياً كانتا، لا تصح منهجياً إذا اعتمدت على اجتزاء أو انتفاء أو عزل عن السياق. وهذا مصدر الخلل الأول في حصر المقارنة بين روسيا وأميركا في السياسة الخارجية، بل في جانب منها، لخلق صورة توحي بأن الأولى أكثر حيوية وإنجازاً من الثانية في مختلف المجالات. أما المصدر الثاني لخلل هذه المقارنة فهو الربط الآلي بين السياسة الخارجية للدولتين والنظام السياسي فيهما، حيث تتسم هذه السياسة في الحالة الروسية بحيوية لا سابقة لها منذ نحو أربعة عقود، فيما تبدو في الحالة الأميركية متراجعة ومنكفئة للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية.
ولكي تصح المقارنة، ينبغي أن تشمل أداء النظام السياسي في مختلف المجالات التي تُشكل ما أصبح يُعرف بـ «القوة الشاملة للدولة»، وفي مقدمها حجم التراكم المعرفي، وتطوير التكنولوجيا، والإمكانات الاقتصادية، فضلاً عن العسكرية.
ويمكن الإشارة إلى خلل ثالث في المقارنة التي يقفز أصحابها إلى استنتاج عدم أفضلية النظام الديموقراطي، وهو أن أزمته الراهنة في الولايات المتحدة وغيرها ليست الأولى من نوعها منذ أن عرفه العالم. وهذه أزمة جمود أو ركود تحدث عندما تضعف قدرة النظام الديموقراطي على تجديد نفسه وتوسيع نطاق تفاعلاته لتستوعب المستجدات أجيالاً وأفكاراً وأنماط حياة. وهي لا تختلف في جوهرها عن أزمات الركود الاقتصادي التي تتكرر بدورها في أكبر الاقتصادات وأقواها في العالم.
ويمر النظام الديموقراطي الأميركي بأزمة جمود حاد منذ أكثر من عقدين. وما السجالات المتهافتة والمعارك المتدنية في الحملة الانتخابية الراهنة إلا عرضاً من أعراضها التي يوجد ما يُعد أهم منها وأخطر. وعلى رغم أن هذه الحملة هي الأسوأ في تاريخ الانتخابات الأميركية، تظل حرية الناخبين في الاختيار بين مرشحين أفضل من فرض مرشح واحد عليهم رسمياً أو فعلياً، واضطرارهم إلى تصديق أنه لا بديل عنه ولا مثيل له، أو الانصراف بعيداً من الشأن العام والتقوقع حول الذات، أو تحمل كلفة رفضه أو نقده.
ربما يكون الاختيار في الانتخابات الأميركية الراهنة بين سيء وأسوأ. غير أن إدراك كثير من الناخبين ذلك لا يُقارن بعدم السماح لنظرائهم في النظم الاستبدادية حتى بتقييم المرشح الذي لا بديل عنه. وإذا كان تهديد ترامب بعدم الاعتراف بنتيجة الانتخابات يُسدّد طعنة قوية لإحدى أهم آليات النظام الديموقراطي، فليس في النظام الاستبدادي ما يُتيح حتى مثل هذا الطعن لأنه مطعون بما يكفي ويزيد بسيوف الطاغية وأتباعه وإعلامه وأجهزته الأمنية.
ولا يعني ذلك إنكار أن هذا التهديد يُشوّه صورة النظام الديموقراطي ويتيح لخصومه فرصة تاريخية لشن حملة تهدف إلى القضاء على جاذبيته. وحتى إذا رفض ترامب فعلاً نتيجة الانتخابات في هذه الولاية أو تلك (وهو ليس احتمالاً وحيداً لأنه أحد كبار المستفيدين من النظام الذي يهدد بأن يطعن فيه)، لن يؤدي ذلك إلا إلى توتر قد يطول، لكنه ربما يدفع إلى معالجة عوامل جمود هذا النظام. وفي كل الأحوال لن يحول ذلك دون وجود رئيس في البيت الأبيض في 20 كانون الثاني (يناير) القادم.
لذلك ينبغي أن تشمل المقارنة بين النظامين الديموقراطي والاستبدادي قدرة كل منهما على الاستمرار وتجنب الانهيار، خصوصاً حين يكون صانعو المقارنة ممن يعشقون الاستقرار مُعرَّفاً لديهم بأنه استمرار سلطة توفر لهم حياة دجاجات لا تُريد سوى أن تأكل وتبيض، إلى جانب تأمينها من «الذئب».
وحين تجرى هذه المقارنة وفق الأصول المنهجية، ينبغي استحضار كيف انهارت الدولة السوفياتية وليس النظام الاستبدادي فيها فقط، وكيف اندلعت حروب طاحنة في مثيلتها اليوغوسلافية إثر تفككها، على رغم ملايين الصفحات التي كُتبت عن فضائل الاستقرار المعتمد على القهر في كل منهما.
وعندما نستحضر دروس التاريخ التي كثيراً ما تغيب، أو تُغيَّب، في لحظات التحولات الدراماتيكية، نجد بينها درساً ملخصه أن النظام الديموقراطي قابل للإصلاح مهما اشتد جموده، بخلاف النظام الاستبدادي مهما بدت جاذبيته لبعض الناس في لحظات كهذه.