لم يكن يخطر ببال أي من الآباء المؤسسين للولايات المتحدة أنه سيأتي يوم على بلادهم يترأسها فيه رجل بمواصفات دونالد ترامب، فالرجل القادم من عالم المال والأعمال تخلو سيرته من سطر واحد يفيد بأنه مارس السياسة أو حتى اهتم بها في يوم من الأيام.
وحتى جورج بوش الابن الذي يعد أسوأ الرؤساء الذين عرفتهم أميركا، بالمصادفة لم يبد إعجابا بنظيره الجمهوري الذي يتهيأ لسكنى البيت الأبيض، وآثر أن يترك بطاقة تصويته الرئاسية خالية. لكنه فاز.
لم يفز ترامب بالانتخابات الرئاسية فقط لكنه فاز أيضا في كشف فهمنا لأميركا في طبعتها الجديدة سياسة وإعلاما واقتصادا ونفوذا، وفاز في كشف مغالطات وأوهام كثيرة في الداخل والخارج، وهذا ما لم يفز به سابقوه سواء من رضع السياسة مبكرا ومارسها طويلا أو درس في هارفارد ومارس المحاماة.
لعل الأقرب نسبيا في صناعة الرؤساء الأميركيين في الخبرة الحديثة هو رونالد ريغان الذي قدم من هوليود مقتحما البيت الأبيض في ظرف تاريخي قريب في أحد ملامحه من الحالة التي نعيشها الآن دوليا وعربيا.
مطابخ صناعة الرؤساء الأميركيين قدمت طبخات فريدة في عصور مختلفة، فكان جون كيندي أول كاثوليكي يشغل المنصب، كما كان الديمقراطي باراك أوباما أول رئيس أسود يشغل المكتب البيضاوي.
طبخة وصناعة
في المقابل نجح أحد المطابخ الأخرى في تقديم ترامب كسابقة لا تقل عن كينيدي أو أوباما، وإن كانت لها طبعة وطبيعة خاصة تتعلق بفجاجة الخطاب واستعداء الجوار، في مشهد يستدعي صورة راعي البقر في أفلام الغرب الأميركي.
ترامب الذي يدخل عقده الثامن من العمر حرص ليس فقط على لياقته البدنية، بل أيضا على لياقته في إطلاق العبارات الحادة كإعادة احتلال العراق، ووقف دخول المسلمين إلى الولايات المتحدة، وبناء جدار عازل على الحدود مع المكسيك لمنع تدفق المهاجرين الذين يكن لهم عداء وعنصرية شديدين، جعلته يدعو إلى وقف إعطاء الجنسية لأطفال المهاجرين الذين يولدون في الأراضي الأميركية.
تثبت نتائج الانتخابات أن خطاب ترامب -الذي اعتبره البعض عنوانا لمرحلة “الجنون السياسي” الذي يجسد واقعا في أكثر من بقعة من عالمنا- له مكان أثير في الإمبراطورية الأميركية التي تقدم نفسها بوصفها معلمة القيم الديمقراطية ورائدتها في العالم.
مفاجأة فوز ترامب تستدعي البحث عن “سر الطبخة” في صناعة الرؤساء الأميركيين، والتفتيش عن الخلطة السرية التي جاءت به رغم سيل الاتهامات التي لاحقاته، خصوصا حول تباهيه بالتحرش بالنساء وسجله الحافل الذي استعدى الكشف عنه النساء والرجال وشخصيات بارزة وسيادية في الحزب الجمهوري.
البراغماتية تتغافل
النظام الأميركي والعقلية البراغماتية الأميركية تتغافل عن أية سقطات أخلاقية للشخصيات، كما سبق أن حدث مع بيل كلينتون زوج منافسته هيلاري في أواخر تسعينيات القرن الماضي، حيث لم تكن مساءلة الرئيس كلينتون عن فضيحة علاقته بالمتدربة في البيت الأبيض مونيكا لوينسكي، بل عن “تضليل العدالة والكذب تحت القسم” في علاقته بها.
أيضا لم يؤثر حديث تحرشات ترامب على نتائج الانتخابات كما صورتها استطلاعات الرأي الأميركية التي تتطلب إعادة النظر في صناعتها، وثبت أن هذا الحديث لا يعني “عقل الملأ الأميركي البراغماتي”، أي النخبة المسيطرة، كما تثبت أن الناخب الأميركي غير معني ببلادنا كما نحن معنيون ببلاده.
سرّ الطبخة إذن هو استمالة ترامب لبراغماتية الناخب الأميركي الذي خاطبه بما يطربه ووعده بتحصيل أموال من جميع الدول التي تقدم أميركا دعما أمنيا وعسكريا لها، سواء كانت السعودية أو الاتحاد الأوروبي أو اليابان أو كوريا الجنوبية.
وترامب هنا وكأنه يستعير حديث الرز الذي أطلقه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، ولكن على طريقة أقل فجاجة تداعب خيال الأميركيين الذين خسر خمسة ملايين منهم بيوتهم، و15 مليونا منهم وظائفهم في السنوات السبع الماضية.
عقلية الناخب الأميركي طبعة 2016 يفتنها قانون جاستا الذي يمثل قرصنة غير مسبوقة، تتيح للولايات المتحدة سرقة الأمانات الموجودة في بنوكها من الدول العربية وغيرها، كما يفتنها أيضا إعادة تبني مبدأ مونرو -الذي صدر في رسالة من الرئيس جميس مونرو إلى الكونغرس في الثاني من ديسمبر/كانون الأول 1823، وتبنى فكرة عزلة نصف الكرة الأرضية الغربي- وتدخل في حالة عزلة جديدة تعيد بها ترتيب أوضاعها بعد أن تدهور اقتصادها بصورة لا ترضي الملأ.
الناخب الأميركي يدغدغه حديث المنافع والخدمات والمصالح والعائد في دولة اختارت تعبير “إدارة” بدلا من “حكومة”، ورئيس الإدارة هنا ملياردير كبير يرى أن ماله يشفع لهيئته وخطابه، ويبدو واثقا من نفسه وهو يرى لسان جموع الملأ من حوله يقول: يا ليت لنا مثل ما أوتي ترامب.
مجدي مصطفى
الجزيرة