أكتب هذه السطور قبل أن تعلن النتائج النهائية للانتخابات الرئاسية الأمريكية. واقع الأمر هو أن اهتمامي في هذه الأيام الأخيرة من الحملة كان مركزاً على مستقبل حال الولايات المتحدة كأمة ودولة ونظام سياسي بعد حملة انتخابية غير عادية وليس على فوز هذا الرجل أو تلك السيدة وتداعيات هذا الفوز. أدرك جيداً أن كلاً منهما يستحق الاهتمام كمرشح للرئاسة ثم كرئيس، ولكني أدرك أيضاً وجيداً أن ما كشفت عنه أو تسببت فيه هذه الحملة الانتخابية المثيرة للجدل من أمور وقضايا واستقطابات هو ما يستحق في الواقع التركيز عليه والاهتمام به. أعود إلى تفاصيل ما انكشف أمامنا؟
أولاً: لاحظت، ولاحظ البعض منا، أن اضطرابات الهوية والانتماء في صفوف قطاعات عريضة في الشعب الأمريكي أوسع وأعمق مما كنا نعتقد. لم يخطر على بالي يوماً أن أرى فقراء أمريكا والعاطلين فيها ونسبة كبيرة من المضطهدين اقتصادياً يقبلون أن يقودهم رجل هو من عتاة طبقة أغنى الأغنياء في أمريكا. كون هؤلاء ينتمون إلى السلالة البيضاء التي يبجلها المرشح ترامب لا تبرر سلوك هؤلاء الفقراء وانقيادهم لبليونير لم يعرف عنه في السابق تعاطفه مع أفراد الطبقة الكادحة أو مع مظالم العاطلين والمحرومين أو حتى مع مشاعر النساء اللائي كان يتاجر بجمالهن ورشاقتهن.
لفت الانتباه أن يحدث هذا الانقياد غير المفهوم في وقت استطاعت فيه هويات أخرى تمكين انتماءاتها وتعزيز مكانتها في المجتمع الأمريكي. ففي أقل من عقدين وتحت تأثير مؤكد من العولمة وسياقاتها وصل إلى البيت الأبيض رجل أسود وتعامل المجتمع بأناقة وتحضر مع أول ترشيح نسوي للمنصب ذاته. لذلك لا يخالجني شك كبير في أن هاتين الإضافتين في تاريخ التطور الاجتماعي الأمريكي تتشاركان في مسؤولية تمرد الرجل الأبيض الأمريكي وصحوة حركات التمييز العنصري ومشاعره البدائية. حدث في الوقت نفسه، أي خلال عقدين لا أكثر، أن تمكنت الهوية «الهسبانية» من إثبات وجودها وفرض لغتها لغة ثانية في ولايات عديدة. حدث أيضاً وبسبب تطورات خارجية سلبية أن برزت وبقوة في الساحة الأمريكية الهوية الإسلامية، والمثير للانتباه أن الأفراد المسلمين لم يكونوا هم الذين استفادوا من بروزها بل خصومها وبخاصة التيار الشعبوي منذ أن تولى قيادته دونالد ترامب خلال الحملة الانتخابية. هكذا تكون الهوية الإسلامية قد ولدت تحت الحصار ومقدر لها أن تبقى هكذا لأمد غير معلوم.
برزت أيضاً وبشكل مفاجئ، وربما صادم للكثيرين في دول الغرب، ملامح تيار شعبوي اشتراكي الهوية، تولى قيادته المرشح الديمقراطي السيناتور بيرني ساندرز. أن يظهر هذا التيار وبهذه القوة وأن يجد من يقوده متمرداً هو الآخر على المؤسسة السياسية الحاكمة لتطور بالغ الأهمية. لا يقلل من أهمية هذه الظاهرة المباغتة، ظاهرة ساندرز، انسحابه المبكر من ساحة الحملة الانتخابية مقابل تنازلات قدمتها قيادة الحزب الديمقراطي، فقد أثبت التيار وجوداً كحركة شعبوية يسارية لن يكون تأثيرها أقل من تأثير الحركة الشعبوية الأخرى التي خرجت من القمقم لتبقى، ألا وهي تيار التمرد اليميني الذي يقوده ترامب. أتصور أن السنوات القليلة القادمة سوف تشهد احتلال اليسار لقيادة الحزب الديمقراطي أو نزوح اليساريين عن الحزب وانتقالهم إلى الشارع كحركة شعبوية.
ثانياً: فيما أرى، لن يكون للتيارين الشعبويين تأثير مباشر أو قوي في مسارات السياسة الخارجية الأمريكية رغم أنهما نابعان من حال تمرد على المؤسسة الحاكمة في الولايات المتحدة. فمثلاً عندما تنادي حركة ترامب باستعادة عظمة أمريكا فإنها لا تقصد انتهاج سياسات عدوانية في الخارج أو نشاط أوفر بل على العكس يطالب ترامب بعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى ويرفض فرض الديمقراطية أو دعمها وينتقد تمويل حركات حقوق الإنسان ولم يخف تشجيعه للحكومات الديكتاتورية في العالم النامي. ما يقصده ترامب باستعادة عظمة أمريكا هو استعادة أسبابها، أي مصادر قوتها الداخلية والتخلص من عناصر ضعفها مثل كثرة المهاجرين وهيمنة ضغوط قوى التجارة الحرة ومصالح المستثمرين الأمريكيين العاملين في الخارج وأنصار حرية انتقال العمالة وتبديد نفوذ أمريكا على دعم قضايا ليست حيوية لأمريكا.
ثالثاً: لا خلاف على أن المؤسسة الحاكمة في أمريكا سوف تخرج من هذه الحملة الانتخابية أضعف وأقل نفوذاً ولكن ليس إلى الحد الذي يمحو قدرتها على المحافظة على ثنائية التغيير والاستقرار في أداء النظام الأمريكي.
من جهة أخرى، أستطيع أن أستبعد تحولاً جذرياً أو هائلاً في مسيرة السياسة الخارجية الأمريكية في ظل العهد الجديد. أستبعده لأنني أختلف مع القائلين إن باراك أوباما أهان عظمة أمريكا وأنه مسؤول عن خفض مستواها ومكانتها بالسياسات الخارجية التي اختارها. ما السياسة الخارجية لدولة من الدول سوى محصلة توازن القوى في داخل الدولة كما في خارجها في فترة بعينها أو خلال عهد بعينه. الزيادة أو النقص في عناصر القوة الضروري توفرها للسياسة الخارجية هي التي تحدد درجة إيجابية ونشاط هذه السياسة وليس مزاج أو شجاعة أو تردد صانع السياسة. أرى أن عنصراً مهماً من عناصر القوة الأمريكية لم يتغير إلى الحد الذي يسمح للرئيس القادم بإجراء تغيير جذري أو هائل في السياسة الخارجية.
ومع ذلك أستطيع أن أتوقع تصعيداً «شعبوياً» أمريكياً في العمل المناهض للعولمة، يصحبه تصعيد أقل حدة في الدول الغربية الأخرى وتقابله رغبة مستمرة للتمسك بالعولمة في الدول النامية، وإن بحرص وانتقاء. أستطيع أيضاً أن أتوقع أن تواجه النخبة الحاكمة في أمريكا مشكلات صعبة. لا يجوز لنا أن نهمل أو نتجاهل أن المؤسسة الحاكمة، وكانت القلعة التي حافظت على نظام عتيد كالنظام الأمريكي طوال قرون عديدة، قد أصابها مؤخراً الوهن بسبب التحولات الكبيرة التي طرأت على المجتمع. مثال بسيط أشتقه من أحداث الحملة الانتخابية وأطرحه للتدبر والتأمل. رجل من خارج النظام ومن خارج المؤسسة الحاكمة استطاع بأمواله الخاصة أن يتحدى هذه المؤسسة الحاكمة ويهدد استقرار النظام السياسي ويهين الدستور الأمريكي الذي هو بمكانة «إنجيل» أمريكا المدني ووصل إلى منصب الرئاسة.
أولاً: لاحظت، ولاحظ البعض منا، أن اضطرابات الهوية والانتماء في صفوف قطاعات عريضة في الشعب الأمريكي أوسع وأعمق مما كنا نعتقد. لم يخطر على بالي يوماً أن أرى فقراء أمريكا والعاطلين فيها ونسبة كبيرة من المضطهدين اقتصادياً يقبلون أن يقودهم رجل هو من عتاة طبقة أغنى الأغنياء في أمريكا. كون هؤلاء ينتمون إلى السلالة البيضاء التي يبجلها المرشح ترامب لا تبرر سلوك هؤلاء الفقراء وانقيادهم لبليونير لم يعرف عنه في السابق تعاطفه مع أفراد الطبقة الكادحة أو مع مظالم العاطلين والمحرومين أو حتى مع مشاعر النساء اللائي كان يتاجر بجمالهن ورشاقتهن.
لفت الانتباه أن يحدث هذا الانقياد غير المفهوم في وقت استطاعت فيه هويات أخرى تمكين انتماءاتها وتعزيز مكانتها في المجتمع الأمريكي. ففي أقل من عقدين وتحت تأثير مؤكد من العولمة وسياقاتها وصل إلى البيت الأبيض رجل أسود وتعامل المجتمع بأناقة وتحضر مع أول ترشيح نسوي للمنصب ذاته. لذلك لا يخالجني شك كبير في أن هاتين الإضافتين في تاريخ التطور الاجتماعي الأمريكي تتشاركان في مسؤولية تمرد الرجل الأبيض الأمريكي وصحوة حركات التمييز العنصري ومشاعره البدائية. حدث في الوقت نفسه، أي خلال عقدين لا أكثر، أن تمكنت الهوية «الهسبانية» من إثبات وجودها وفرض لغتها لغة ثانية في ولايات عديدة. حدث أيضاً وبسبب تطورات خارجية سلبية أن برزت وبقوة في الساحة الأمريكية الهوية الإسلامية، والمثير للانتباه أن الأفراد المسلمين لم يكونوا هم الذين استفادوا من بروزها بل خصومها وبخاصة التيار الشعبوي منذ أن تولى قيادته دونالد ترامب خلال الحملة الانتخابية. هكذا تكون الهوية الإسلامية قد ولدت تحت الحصار ومقدر لها أن تبقى هكذا لأمد غير معلوم.
برزت أيضاً وبشكل مفاجئ، وربما صادم للكثيرين في دول الغرب، ملامح تيار شعبوي اشتراكي الهوية، تولى قيادته المرشح الديمقراطي السيناتور بيرني ساندرز. أن يظهر هذا التيار وبهذه القوة وأن يجد من يقوده متمرداً هو الآخر على المؤسسة السياسية الحاكمة لتطور بالغ الأهمية. لا يقلل من أهمية هذه الظاهرة المباغتة، ظاهرة ساندرز، انسحابه المبكر من ساحة الحملة الانتخابية مقابل تنازلات قدمتها قيادة الحزب الديمقراطي، فقد أثبت التيار وجوداً كحركة شعبوية يسارية لن يكون تأثيرها أقل من تأثير الحركة الشعبوية الأخرى التي خرجت من القمقم لتبقى، ألا وهي تيار التمرد اليميني الذي يقوده ترامب. أتصور أن السنوات القليلة القادمة سوف تشهد احتلال اليسار لقيادة الحزب الديمقراطي أو نزوح اليساريين عن الحزب وانتقالهم إلى الشارع كحركة شعبوية.
ثانياً: فيما أرى، لن يكون للتيارين الشعبويين تأثير مباشر أو قوي في مسارات السياسة الخارجية الأمريكية رغم أنهما نابعان من حال تمرد على المؤسسة الحاكمة في الولايات المتحدة. فمثلاً عندما تنادي حركة ترامب باستعادة عظمة أمريكا فإنها لا تقصد انتهاج سياسات عدوانية في الخارج أو نشاط أوفر بل على العكس يطالب ترامب بعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى ويرفض فرض الديمقراطية أو دعمها وينتقد تمويل حركات حقوق الإنسان ولم يخف تشجيعه للحكومات الديكتاتورية في العالم النامي. ما يقصده ترامب باستعادة عظمة أمريكا هو استعادة أسبابها، أي مصادر قوتها الداخلية والتخلص من عناصر ضعفها مثل كثرة المهاجرين وهيمنة ضغوط قوى التجارة الحرة ومصالح المستثمرين الأمريكيين العاملين في الخارج وأنصار حرية انتقال العمالة وتبديد نفوذ أمريكا على دعم قضايا ليست حيوية لأمريكا.
ثالثاً: لا خلاف على أن المؤسسة الحاكمة في أمريكا سوف تخرج من هذه الحملة الانتخابية أضعف وأقل نفوذاً ولكن ليس إلى الحد الذي يمحو قدرتها على المحافظة على ثنائية التغيير والاستقرار في أداء النظام الأمريكي.
من جهة أخرى، أستطيع أن أستبعد تحولاً جذرياً أو هائلاً في مسيرة السياسة الخارجية الأمريكية في ظل العهد الجديد. أستبعده لأنني أختلف مع القائلين إن باراك أوباما أهان عظمة أمريكا وأنه مسؤول عن خفض مستواها ومكانتها بالسياسات الخارجية التي اختارها. ما السياسة الخارجية لدولة من الدول سوى محصلة توازن القوى في داخل الدولة كما في خارجها في فترة بعينها أو خلال عهد بعينه. الزيادة أو النقص في عناصر القوة الضروري توفرها للسياسة الخارجية هي التي تحدد درجة إيجابية ونشاط هذه السياسة وليس مزاج أو شجاعة أو تردد صانع السياسة. أرى أن عنصراً مهماً من عناصر القوة الأمريكية لم يتغير إلى الحد الذي يسمح للرئيس القادم بإجراء تغيير جذري أو هائل في السياسة الخارجية.
ومع ذلك أستطيع أن أتوقع تصعيداً «شعبوياً» أمريكياً في العمل المناهض للعولمة، يصحبه تصعيد أقل حدة في الدول الغربية الأخرى وتقابله رغبة مستمرة للتمسك بالعولمة في الدول النامية، وإن بحرص وانتقاء. أستطيع أيضاً أن أتوقع أن تواجه النخبة الحاكمة في أمريكا مشكلات صعبة. لا يجوز لنا أن نهمل أو نتجاهل أن المؤسسة الحاكمة، وكانت القلعة التي حافظت على نظام عتيد كالنظام الأمريكي طوال قرون عديدة، قد أصابها مؤخراً الوهن بسبب التحولات الكبيرة التي طرأت على المجتمع. مثال بسيط أشتقه من أحداث الحملة الانتخابية وأطرحه للتدبر والتأمل. رجل من خارج النظام ومن خارج المؤسسة الحاكمة استطاع بأمواله الخاصة أن يتحدى هذه المؤسسة الحاكمة ويهدد استقرار النظام السياسي ويهين الدستور الأمريكي الذي هو بمكانة «إنجيل» أمريكا المدني ووصل إلى منصب الرئاسة.
جميل مطر
صحيفة الخليج