فاضت الصحف الإيرانية في اعتبار انتخاب العماد ميشال عون رئيسا للجمهورية اللبنانية نصرا لمحور إيران في المنطقة العربية وفي لبنان على وجه الخصوص، ولا شكّ أنّ التعطيل الذي مارسه حزب الله لمنع إجراء انتخابات رئاسية طيلة عامين ونصف العام تقريبا، أفضى، في نهاية المطاف، إلى انتخاب العماد ميشال عون رئيسا للبنان، لكن ذلك لا يعني أنّ مسار الانتخاب الذي أفضى إلى انتخاب رئيس للبلاد، عكس في نتائجه تلك الصورة التي حاول حزب الله والماكينة الإعلامية الإيرانية إبرازها، أي أنّ انتخاب عون كان نصرا لمحور إيران.
لن نذهب إلى تبنّ كامل لمقولة إنّ سياسة حزب الله تجاه الاستحقاق الرئاسي كانت تنطوي على إبقاء الفراغ الرئاسي، في محاولة لمقايضة هذا الاستحقاق بمقابل إقليمي ما، رغم أنّ في هذه المقولة الكثير ما يؤكدها، لا سيّما أنّ حزب الله يعتبر أنّ الأولويات الإقليمية تتقدم لديه على الحسابات الوطنية اللبنانية، وتكفي الإشارة إلى تورطه في الحرب السورية لتأكيد أنّه يقدم الحسابات الإقليمية على الوطنية.
ولن نتبنى في المقابل مقولة حزب الله أنّه فضل إبقاء الفراغ الدستوري في لبنان إلى ما لا نهاية، لمنع وصول أيّ شخصية إلى رئاسة الجمهورية حتى لو كانت قريبة منه، مادام العماد ميشال عون مرشحا لهذا المنصب ولم ينسحب من السباق. أي أنّه حافظ على الفراغ الدستوري رغم ما يسببه من تداعيات سياسية واقتصادية ومالية، كُرمى لشخص العماد ميشال عون. فهذه المقولة وإن كانت مبنية، كما يقول حزب الله على مصلحة البلد، فقد أدت إلى خسائر يصعب تعويضها في المدى المنظور.
يبقى أنّ عملية وصول العماد ميشال عون إلى الرئاسة الأولى، أظهرت إلى حدّ بعيد أنّ محور إيران يمكن أن يقول من خلال حزب الله إنّ له اليد العليا أمنيا وعسكريا في هذا البلد، لكنّها كشفت عن أنّه عاجز عن الإحكام بالبلد، رغم أنّه كان قادرا لو أراد أن يفرض انتخاب الرئيس عون بالقوة أن يفعل ذلك وهو فعلها في مرات سابقة عندما ألزم بطريقته الأمنية الإتيان برئيس الحكومة نجيب ميقاتي عام 2011 بديلا عن الرئيس سعد الحريري، رغم أنّ الأخير كان يحوز على أكثرية نيابية، لكن أمكن لحزب الله بوسائل الضغط الأمني جرّ النائب وليد جنبلاط ومعظم كتلته النيابية إلى صفّ الرئيس ميقاتي.
فحزب الله، على الرغم من سطوته الأمنية والعسكرية على لبنان، إلا أنه أدرك أنّ ذلك ليس كافيا ليحكم دولته، فنموذج حزب الله الذي سعت إيران إلى إنشائه في أكثر من دولة عربية، كشف أنّ هذا النموذج يمتلك كفاءة الانخراط في الحروب الداخلية، وكفاءة إجهاض الدولة، وخلق الثنائية القاتلة بين الدولة والدويلة. لكن للبنان، الذي تمّ فيه فرض هذه الثنائية التي تستنفر المؤسسات والمجتمع ولا تزال، برز مؤشر استثنائي جعل حزب الله يبدو أكثر قابلية لإيجاد تسوية لا تخلّ بدوره ولكنها تمنع الانهيار الذي يطال الجميع ومن ضمنهم بيئته. ما دفع حزب الله ومن خلفه إيران إلى هذه التسوية، هو أن حزب الله يريد للبنان باعتباره قاعدة انطلاق لقتاله في سوريا وغيرها، أن يبقى مستقرا، إذ لن يتحمل الحزب خوض مواجهات عدّة في نفس الوقت، كما لا يريد لقاعدة الانطلاق أن تكون عرضة للانهيار السريع، ولن يتحمل تداعيات أيّ انفجار اجتماعي لأنّه سيتسبب بضغوط عسكرية وأمنية على “القاعدة الآمنة”.
تدرك إيران كما حزب الله أنّ الأثقال المالية والاقتصادية على الدولة اللبنانية، ليست لدى إيران أيّ إجابة عليها، فلا إيران في وارد أن تعوّض الخسائر التي ستسببها في حال قررت القبض على السلطة، ولا هي أصلا قادرة على تحمل أعباء انفصال لبنان عن محيطه العربي الذي يشكل شريان الحياة الرئيس لهذا البلد.
الرسالة الأخطر التي تلقاها حزب الله من حاكم مصرف لبنان (البنك المركزي) رياض سلامة هي أنّ لبنان أمام حالة إفلاس فعلي منتصف العام المقبل إذا بقي الحال كما هو عليه قبل انتخاب العماد ميشال عون رئيسا. فحجم الالتزامات المالية على الدولة فاق قدرة لبنان على الإيفاء بها، وكان رياض سلامة قد أبلغ كل من يعنيه الأمر أنّه قام ببيع سندات خزينة بفائدة مالية تجاوزت الـ25 بالمئة، من أجل إيفاء بعض الاستحقاقات المالية للخزينة. وهذه النسبة العالية للفائدة وغير الموجودة في العالم اليوم، تكشف الحال الذي وصل إليه الوضع المالي والذي بات يفرض انتقالا من مرحلة المراوحة والفراغ الدستوري، إلى مرحلة جديدة أقلّها انتخاب رئيس وتشكيل حكومة.
هذا الواقع الذي وصل إليه لبنان بات يهدد وجود الدولة ولو الشكلي، ولأنّ هذا التهديد لن يقتصر على اللبنانيين من غير بيئة حزب الله، بل سيطال بيئة حزب الله التي تشكل الدولة اللبنانية ومواردها أحد مصادر تمويل هذه البيئة، فقد أبدى حزب الله تجاوبا غير مسبوق مع فكرة عودة رئيس الحكومة سعد الحريري إلى رئاسة الحكومة، وهذا التجاوب كان انقلابا على قرار استراتيجي اتخذه حزب الله والمحور الإيراني بمنع عودة الحريري إلى رئاسة السلطة التنفيذية.
القبول بالحريري كان لإدراكه بأنّ مثل هذه العودة يمكن أن تخفف من سرعة الانهيار المالي والاقتصادي إن لم تلجمه، بحيث أنّ حزب الله الذي لم يسمّ الحريري في الاستشارات النيابية هو نفسه من طلب من حلفائه تسميته، بحيث نال الحريري 112 صوتا من أصل 126 نائبا. وهو رقم يعكس مدى الاهتمام بعودة الحريري من كل الأطياف ومن بينها حزب الله.
من هنا كانت أهمية زيارة وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف إلى لبنان للتهنئة بانتخاب رئيس للجمهورية، تكمن في الزيارة التي أداها إلى الرئيس المكلف بتشكيل الحكومة سعد الحريري. خبر لقائه مع الحريري تصدر الأخبار الأولى، فإيران تدرك أنّ ظريف لا يجد مسؤولا عربيا يلتقيه، وإيران بحاجة إلى مثل هذا اللقاء. وفي معلومات مسربة أنّ السؤال الوحيد الذي حمله ظريف إلى الحريري، هو كيف يمكن لإيران أن تحل مشكلة العلاقة مع المملكة العربية السعودية؟ الرئيس الحريري الذي أكّد أنّ هذا شأن إيران، أكّد أيضا أنّ الأخيرة كان يمكن لها أن تلعب دورا إيجابيا على صعيد العلاقة مع الدول العربية، لكنّها اختارت طريق الانخراط في مشروع تدمير الدول الوطنية والتدخل في شؤون هذه الدول، فيما لم يسجّل على أيّ دولة عربية وخليجية على وجه التحديد أن تدخلت في شؤون إيران الداخلية خلال العقود الماضية.
العجز الإيراني عن تقديم نموذج جاذب يبرر تدخلها في المنطقة العربية، الذي كشف أنّ المشروع الإيراني يمتلك قدرة هائلة على التدمير، وعاجز تماما عن تقديم نموذج لدولة وطنية موحدة، لكنّه في لبنان الذي يمسك به أمنيا وعسكريا، يحاول أن يتلقّف الترحيب السعودي والخليجي عموما بانتخاب الرئيس، علّ محاولة إعادة التوازن إلى العملية السياسية اللبنانية تفتح أبوابا عربية لإيران.
علي الأمين
نقلا عن العرب