تلعب إيران في العراق لعبة الرجل الذي يريد توسعة بيته باقتحام بيت الجيران، فعلى مدى الأشهر القليلة الماضية أظهرت قدرة فائقة على التسلل -عبر التطورات الميدانية الجارية- على الأرض من أجل هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية، في محاولة لفرض نفسها لاعبا رئيسيا في المعركة الفاصلة في الموصل، المعقل الأخير لتنظيم داعش. فإيران، بعد سنوات من التغلغل في العراق والارتياح إلى أنها فتحت لها فسحة في المنطقة صارت بمثابة الأمر المكتسب، لا تريد تفويت فرصة معركة الموصل التي ستمكنها من نفوذ أكبر داخل العراق، وتسمح لها، من ثمة، بأن تكون طرفا لا يمكن القفز عليه في هندسة خارطة الشـرق الأوسط.
ظلت طهران تتستر على تدخلها في المعارك طيلة مسلسل المواجهة مع تنظيم الدولة الإسلامية، وتتكتم على دعمها اللوجستي والمالي للحشد الشعبي الذي يستمد قوته من إيران، ويأتمر بالأوامر الصادرة عن الجهات العليا في طهران، طالما أن العراق عمق إستراتيجي للدولة الإيرانية ومحور مهم في الدور الإيراني في المنطقة. لكنها اضطرت لاحقا إلى الاعتراف بهذا الدور، حين اعترفت على لسان الناطق باسم خارجيتها، حسين جابري أنصاري، بوجود قوات الحرس الثوري الإيراني بقيادة اللواء قاسم سليماني، قائد “فيلق القدس” بالحرس الثوري. ولتبقي على تقاليد الدبلوماسية المرعية أكدت أن ذلك جاء بطلب من الحكومة العراقية، هذا على الرغم من احتجاج العشائر العراقية في الموصل، المتوجسة من المخططات الشيعية الإيرانية، ومن تكرار المآسي التي حصلت في السابق على أيدي مسلحي الحشد الشيعي.
ولم يكن التدخل الإيراني في حاجة إلى اعتراف حتى ينكشف للجميع؛ ذلـك أن طهران منـذ عام 2003 تلعب لعبة الرجل الوحيد داخل العراق، بل إن الحشد الشيعي ليس وليد اليـوم، بعد ظهـور تنظيم داعش وتمـزيقه للعراق، إذ يعود إلى سنوات عديدة خلت. فعـدد كبير من مقـاتلي الحشـد مرتبطون بإيران منذ ثمانينات القرن العشرين، حين أنشأت إيران فيلقا خاصا خلال الحرب العراقية-الإيرانية بين 1980 و1988، وفرت له الدعم والتسليح والخبرة العسكرية والتدريب، وازداد نفوذ هذه المجموعة المسلحة بعد الغزو الأميركي للعراق عام 2003، وعندما انسحبت القوات الأميركية عام 2011 أصبحت إيران القوة الأجنبية الأولى مـن حيث النفوذ في السيـاسة الـداخلية للعـراق، ومـن هذا المنطلق لعبت أدوارا رئيسية في تشكيل المشهـد السياسي العـراقي، وباركت سيـاسات رئيس الوزراء السابق نوري المالكي تجاه السنة، وإثارة الفتنة الشيعية-السنية التي قضت على وحدة العراق السياسية، وفتحت الطريق بالنتيجة إلى ظهور تنظيم داعش الذي تغذّى في جزء كبير منه على واقع الانقسام العراقي والنفوذ الإيراني. لذلك فقد كانت إيران شريكا فعليا في ظهور هذا التنظيم، الذي يبرر لها اليوم التدخل من أجل صياغة واقع العراق السياسي الجديد.
اصطدم إصرار إيران على أن يكون لها دور في معركة الموصل وتحريرها، في البداية، برفض رسمي وشعبي داخل العراق، ورفض من البلدان المجاورة التي كانت تخشى أن ينفذ الحشد الشيعي عمليات تطهير في صفوف السنة العراقيين، خصوصا وأن الخصوصيات الديمغرافية في الموصل تميل إلى صالح الغالبية الشيعية.
لقد فهم الحشد الشيعي فتوى السيستاني، التي أطلقها من النجف عام 2014، وطالب فيها العراقيين بحمل السلاح والمشاركة في القتال، على أنها خاصة بالشيعة ويدخل فيها حمل السلاح في وجه أهل السنـة، وربما لذلك كان دخول الحشد إلى الفلوجة، ذات الغـالبية السنية، في يونيو الماضي، دخولا عاتيا مدفوعا بنزعة الانتقـام من المـدينة وسحق أهـل السنة، وصل إلى حد إطلاق حملة تحت شعار “من قتل فلوجيا دخل الجنة”. وكشفت منظمة الأمم المتحدة وقتها أن قوات الحشد الشيعي قتلت العشرات من السنة واحتجزت المئات منهـم، في عملية انتقـامية واضحة من مدنيين لا علاقة لهم بالإرهاب أو بجماعة أبي مصعب الزرقاوي التي كانت تستهدف الشيعة.
يريد الحشد الشيعي، وإيران من خلفه، أن يقوم بتبييض سجله الدموي من خلال معركة الموصل، والتغطية على جرائمه السابقة في الفلوجة ضد أهالي السنة، وإظهار نفسه بمظهر المخلص للعراق من شبح الدولة الإسلامية، لأنه ينظر إلى هذه المعركة باعتبارها المعركة الأخيرة التي سيكون العالم شاهدا عليها. الحشد الشعبي يريد أن يربح سياسيا هذه المرة في مدينة لا يتوجس منها خيفة، كونها ذات غالبية شيعية، ولكن سيناريو الفلوجة يبقى وارد الاحتمال، ويتعين النظر إلى معركة الموصل بوصفها معركة فقط في حرب تدور على مستوى العراق.
إدريس الكنبوري
صحيفة العرب اللندنية