يشكل تصويت بريطانيا لصالح الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، تلاه انتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة، تطوراً سياسياً عملاقاً واحداً -تطوراً يجعل من العام 2016 عاماً متميزاً في التاريخ، والذي ستتم دراسته لوقت طويل. وعادة ما تكون للتطورات السياسية الكبيرة أسباب كثيرة. وكنت عاكفاً في الأعوام الثلاثة الماضية على وضع كتاب حول ما يحدث أسفل السطح -في عملية السمكرة ومد الأسلاك في العالم- والذي يعكر السياسة في الكثير جداً من الأماكن. ويبدأ جوابي بسؤال: ماذا حدث بحق الله في العام 2007 وما حوله؟
2007؟ كان ذلك عاماً حميداً غير ضار. ولكن، دعونا ننظر مرة أخرى.
أطلق ستيف جوبز وشركة “أبل” أول هاتف نقال من نوع “آي فون” في العام 2007، مستهلين ثورة الهاتف الذكي الذي يضع الآن جهاز حاسوب مربوط بالإنترنت في راحة يد كل إنسان على سطح الكوكب. وفي أواخر العام 2006، فتح موقع “فيسبوك” الذي كان مقصوراً على الجامعات والمدارس الثانوية نفسه أمام أي شخص يمتلك بريداً ألكترونياً، وانتشر على نطاق عالمي. وكان “تويتر” قد ابتُكر في العام 2006، لكنه انطلق في العام 2007. وفي العام 2007 بدأ “هادوب” Hadoop، البرنامج الأكثر أهمية والذي لم تسمع عنه أبداً، في توسيع قدرة أي شركة على تخزين وتحليل كميات ضخمة من البيانات غير المهيكلة. وساعد ذلك في تمكين كل من “البيانات الكبيرة” Big Data وحوسبة السحابة. وفي الحقيقة، انطلقت “السحابة” فعلياً في العام 2007.
وفي العام 2007، أطلقت “كيندل” ثورة الكتاب الألكتروني، وطرحت غوغل “أندرويد”. وفي العام 2007، بدأت شركة “أي بي أم” تطبيق “واطسون”. أول حاسوب إدراكي، والذي يستطيع اليوم أن يستوعب الآن فعلياً كل ورقة كتبت عن السرطان في التاريخ، وأن يقترح للأطباء بشكل عالي الدقة خيارت التشخيص والمعالجة. وهل سبق لك أن ألقيت نظرة على فقرة تتحدث عن ترتيب تسلسل الجينات البشرية؟ إنها تبدأ من 100 مليون دولار في أوائل الألفية الثالثة، ثم تبدأ في الهبوط بشكل درامي حول… العام 2007.
كانت كلفة صنع لوحات للطاقة الشمسية قد بدأت في التدني في العام 2007. وقد تم تخيل موقع Airbnb في العام 2007، والمنصة العالمية للتغيير Change.org في العام 2007. وكانت GitHub، التي تعتبر الآن أضخم مكتبة في العالم لاقتسام البرامج مفتوحة المصدر قد افتتحت في العام 2007. وفي العام 2007، طرحت “إنتل” لأول مرة مواد غير سيليكونية في داخل الشرائح الصغيرة للدوائر في أجهزتها الترانزيستور، ممدة بذلك فترة “قانون مور”- توقع أن تتضاعف قوة الشريحة الصغيرة كل عامين تقريباً. وكنتيجة لذلك يستمر النمو التكويني في الحوسبة حتى هذا اليوم. وأخيراً، في العام 2006، غطى الانترنت أكثر من مليار مستخدم في أنحاء العالم.
بمرور الزمن، قد ينظر إلى العام 2007 على أنه واحد من أعظم نقاط الانعطاف التكنولوجي في التاريخ. وقد فوتنا ذلك تماماً.
لماذا؟ 2008.
مع ذلك، تماماً عندما قفزت تقنياتهنا الفيزيائية المادية قدماً، فإن الكثير مما يدعوه اقتصادي أوكسفورد، إريك بينهوكر “تقنياتنا المجتمعية” –كل القواعد، والقوانين، والمؤسسات والأدوات المجتمعية التي احتاج إليها الناس لاستخلاص الأفضل من هذا التسارع التكنولوجي والتخلص من الأسوأ- تجمدت أو تخلَّفت. وفي أفضل الأوقات، واجهت التكنولوجيات المجتمعية وقتاً عصيباً وهي بصدد مواكبة التقنيات المادية. ولكن، مع الركود العظيم في العام 2008 والشلل السياسي الذي ولده تحولت هذه الفجوة إلى صدع. وقد انتُزع الكثير من الناس من أماكنهم نتيجة لتلك العملية.
وكيف لا تفعل؟ إن ما حدث حول العام 2007 هو أن اتصال الناس والحوسبة أصبحا سريعين جداً، ورخيصَين ودائمي الوجود ومتمتعين بالتأثير، لدرجة أنهما غيرا ثلاثة أشكال من السلطة -بطرق مختلفة في الحقيقة- وكل ذلك مرة واحدة: قوة الواحد، وقوة الآلات، وقوة الأفكار.
إن ما يستطيع الفرد أو المجموعة الصغيرة فعله الآن -قوة الواحد- لإنجاح الأشياء أو إفشالها هو شيء ظاهراتي. عندما يريد الرئيس المنتخب ترمب أن يُسمع، فإنه يستطيع الآن أن يرسل رسالته مباشرة من بنتهاوس نيويورك من خلال تويتر إلى 15 مليون ويزيد من أتباعه في أي ساعة من اليوم. وكذلك يفعل “داعش” من منطقة قصية في سورية. وتستطيع الآلات الآن –ليس مجرد هزيمة بني البشر في “الجيوباردي” أو الشطرنج فقط، بل إنها شرعت في أن تكون مبدعة حقاً –حيث تعرض التصاميم المعمارية وغيرها وتقوم بكتابة القصص الإخبارية وتأليف الأغاني والشعر بشكل لا يمكن تمييزه عن عمل البشر.
وفي الأثناء، تنساب الأفكار الآن رقمياً من خلال الشبكات الاجتماعية في أنحاء العالم على نحو أسرع وأبعد من ذي قبل. ونتيجة لذلك، تستطيع الأفكار الجديدة (بما في ذلك الأخبار الزائفة) أن تضرب لها جذوراً بشكل مفاجئ، بينما يمكن للأفكار التي تم اعتناقها طويلاً -مثل معارضة زواج المثليين وحقوق متحولي الجنس- أن تذوب وتذهب فجأة.
وهكذا، إذا نظرت من ارتفاع 30.000 قدم، فسيكون باستطاعتك أن ترى تلك التكنولوجيا والعولمة، وأضيف الطبيعة الأم (وبشكل خاص تغير المناخ وخسارة التنوع البيولوجي وأثر النمو السكاني) وهي تتسارع كلها في نفس الوقت وتغذي بعضها بعضاً. ويدفع المزيد من قانون مور نحو المزيد من العولمة؛ والمزيد من العولمة يدفع نحو المزيد من تغير المناخ. وكلها سوية، التغير المناخي والاتصال الرقمي، تدفع المزيد من الهجرة البشرية. وقد اجتمعت مؤخراً مع لاجئي الاقتصاد والمناخ في غرب إفريقيا الذين أوضحوا لي أنهم لم يريدوا مساعدات من حفلة لموسيقى الروك في أوروبا. إنهم يريدون القدوم إلى أوروبا التي يرونها في هواتفهم الخلوية -وهم يستخدمون تطبيق “واتساب” لتنظيم شبكات هجرة غير مشروعة وواسعة من أجل الوصول إلى هناك.
وعليه، لا غرابة في أن يشعر الكثيرون في الغرب بأنهم بلا مرساة. فالشيئان اللذان كانا يرسيانهم في العالم -مجتمعهم ووظائفهم- يبدوان وأنهما يعانيان من زعزعة الاستقرار. إنهم يذهبون إلى مخزن البقالة، فيتحدث إليهم أحد الناس هناك بلغة مختلفة -أو أنه يضع غطاء للرأس. وهم يذهبون إلى غرفة حمام الرجال، فيجدون هناك أحداً بجوارهم يبدو وأنه من جنس مختلف. وهم يذهبون إلى العمل، فيجدون هناك الآن روبوتاً يجلس بجوارهم ويبدو أنه يدرس وظيفتهم. وأنا أحتفي بهذا التنوع من الناس والأفكار –لكنه جاء بالنسبة للعديد من الآخرين على نحو أسرع مما يستطيعون التأقلم معه.
لذلك، فإن أغنيتي المفضلة هذه الأيام هي الأغنية الشعبية الراقصة لبراندي كارلايل، التي تدعى “العين”. ويقول المقطع الرئيسي فيها: “لففتُ حبك من حولي مثل السلسلة/ لكنني لم أخف أبداً من أنه سيموت/ إنك تستطيع أن ترقص وسط الإعصار/ وإنما فقط إذا استطعت الوقوف في عينه”.
هذه التسارعات في التكنولوجيا والعولمة والطبيعة الأم هي مثل الإعصار المطلوب منا جميعاً أن نرقص فيه. وقد أحس ترامب وأنصار الخروج البريطاني بقلق العديدين ووعدوا ببناء جدار يقاوم رياح التغيير الهادرة هذه. لكنني لا أوافق. أعتقد أن التحدي يكمن في إيجاد عَين الإعصار.
بالنسبة لي، فإن ذلك يُترجم إلى بناء مجتمعات صحية تكون مرنة بشكل كافٍ للتحرك في مع هذه التسارعات، وتستمد الطاقة منها -لكن توفر أيضاً منصة للاستقرار الديناميكي للمواطنين الذين في داخلهم. وثمة المزيد عن هذا في يوم آخر.
توماس فريدمان
صحيفة الغد