“لن أتقاعد أبدا من السياسة، السلطة عبودية وأنا عبدها”، هذا ما كان يؤكده الزعيم الكوبي فيدل كاسترو، الذي ظلّ اسمه حاضرا في عالم السياسة، حتى بعد أن نأى بنفسه عن الحكم اعتبارا من العام 2006. والجمعة 25 نوفمبر 2016 تقاعد كاسترو من الحياة، لكنه لن يتقاعد من ذاكرة التاريخ التي ستخلّده بسيجاره ولحيته الكثة وبزته العسكرية الخضراء الزيتونية، كأحد العمالقة السياسيين في القرن العشرين.
سيبقى التاريخ يذكر أشهر أعداء أميركا؛ كاسترو، صاحب اللحية الذي كان في الـ32 من العمر حين أطاح في 1959 بدكتاتورية الجنرال فولغنسيو باتيستا وجسّد آمال اليسار الثوري، وتحدى القوة الأميركية العظمى لأكثر من 50 عاما جعل خلالها من جزيرة صغيرة في الكاريبي محور اختبار قوة بين القوتين الأميركية والسوفييتية.
رغم أنه تحول إلى حاكم متسلط يقمع المعارضة ويحكم كوبا مثل رب عائلة، لم يفقد كاسترو رمزيته كزعيم ثوري شيوعي. ولم تؤثر الأوصاف التي أطلقها عليه معارضوه في المولعين به حول العالم خاصة الثوار الاشتراكيين في أميركا اللاتينية وأفريقيا والمنطقة العربية.
زعيم ثوري بستة وجوه
◄ خبير عسكري
في 1959 دخل فيدل كاسترو هافانا منتصرا. فصاحب اللحية السوداء والبزة العسكرية، الذي لم يخضع لأيّ تأهيل عسكري ويحمل دكتوراه في الحقوق في الثانية والثلاثين من العمر، هزم جيشا من ثمانين ألف رجل مع “ثواره الملتحين”، وأطاح بفولغنسيو باتيستا الرئيس المستبد.
◄ رجل جذاب
ميرسيدس غونزاليس الكوبية التي تبلغ من العمر 59 عاما لم تر “القائد الأعلى” عن قرب سوى مرتين لكنها استسلمت “لجاذبية فيدل”. وتقول “أعجبت به كثيرا! لم أستطع أن أمنع نفسي من النظر إليه والقول له: أحبك!”.
◄ العدو
تصفه المنشقة مارتا بياتريس روكي (71 عاما) بأنه “مغرور وأناني ونرجسي”. وتضيف أن الذين تجرّأوا على مقاومته عانوا “السجن والضرب والإقصاء”. وقالت روكي إن كاسترو الذي رفض الدعوات إلى الانفتاح ووصف معارضيه “بالمرتزقة”، “سيبقى ديكتاتورا”.
◄ الأسطورة
عندما أعلن فيدل انتصار الثورة الكوبية في 1959، كانت طيور حمام تحيط به وحطت واحدة على كتفه. رأى أحدهم حينذاك أنها إشارة خارقة للطبيعة. ومنذ ذلك الحين لم تتوقف الخرافات. وفي بلد تمتزج فيه المسيحية بديانات أفريقية، اعتقد الكوبيون أن فيدل تحميه “أوباتالا” أقوى آلهة “الأوريشا” في معتقدات شعب اليوروبا.
◄ مصدر وحي
لا يمكن الحديث عن تاريخ القرن العشرين بلا فيدل. في ستينات القرن الماضي دعم حركات التمرد في الأرجنتين وبوليفيا ونيكاراغوا. وفي نهاية تسعينات القرن العشرين تبنى سياسة الفنزويلي هوغو تشافيز. واليوم تستضيف كوبا محادثات السلام بين حركة التمرد “القوات المسلحة الثورية الكولومبية” والحكومة الكولومبية.
◄ وهم
كانت لكاسترو القدرة على نشر أفكاره وإن كان تحقيقها غير مرجّح في بعض الأحيان. فعلى الرغم من جهوده، لم يتمكن من إنتاج عشرة ملايين طن من السكر في 1970 ولا استعادة غوانتانامو التي تخلت عنها كوبا للولايات المتحدة قبل أكثر من قرن.
يصفه الصحافي نوربرتو فوينتيس، الذي أصبح أحد أشرس منتقديه بعدما كان صديقا له، بأنه “مستهتر وعديم الأخلاق”، فيما كتب عنه صديقه الكاتب الكولومبي الحائز على جائزة نوبل للآداب غابرييل غارسيا ماركيز “صبر لا يقهر. انضباط حديدي. قوة مخيلة تسمح له بقهر أيّ طارئ”.
ذلك هو فيدل كاسترو، يتساوى عدد محبيه بعدد من يكرهونه. كان عدوا شرسا بقدر ما كان يثير إعجاب النساء. نجا من أكثر من 600 محاولة اغتيال، لم تهزمه مؤامرات المخابرات الأميركية ولا انهيار الشيوعية السوفييتية، لكن هزمه المرض وأجبره على التقاعد عن السلطة.
تلميذ آباء يسوعيين
دخل ابن المهاجر الإسباني والتلميذ السابق للآباء اليسوعيين، التاريخ في الـ27 من عمره حاملا السلاح حين حاول السيطرة في يوليو 1953 على ثاني موقع عسكري في البلاد، ثكنة لا مونكادا في سانتياغو (جنوب شرق)، محاطا بمجموعة من مئة مناصر.
وإن كانت العملية فشلت وأدّت إلى سجن المحامي الشاب ونفيه، إلا أنها لم تضعف عزيمته. وبعد ثلاث سنوات على العفو عنه وإطلاق سراحه، باشر حرب شوارع استمرت 25 شهرا وأسقطت دكتاتورية باتيستا، وتكللت بانتصار ثورة أصحاب اللحى (باربودوس) في يناير 1959.
بات كاسترو يجسّد ثورة سرعان ما أبدت تقاربها مع موسكو، وعلى مسافة أقل من 200 كلم من الولايات المتحدة، في وسط الحرب الباردة، رفعت الشعارات الشيوعية. وفي 1961، عمد جون كينيدي، الرئيس الثاني بين الرؤساء الأميركيين الـ11 الذين تحداهم كاسترو، إلى إنزال كوبيين معادين له في جزيرة الخنازير، لكن العملية سجّلت فشلا ذريعا للأميركيين وحولت فيدل كاسترو إلى بطل اشتراكي جعل من مكافحة الإمبريالية ركيزة لسياسته.
كان خطيبا لا يكلّ، دخل التاريخ إلى جانب كبار الثوريين أمثال لينين وماو. تبناه نيكيتا خروتشيف وأراد نصب صواريخ نووية في كوبا، فنشبت “أزمة الصواريخ” في أكتوبر 1962، التي وضعت العالم على شفير نزاع ذري، وخرج منها فيدل كاسترو خاسرا، بعدما تمّ التوصل إلى اتفاق بين القوتين العظميين.
خرج كاسترو عن سياسته الحيادية بعد ذلك، ودعّم الثورات في الأميركيتين الجنوبية والوسطى وأفريقيا، وأصبح في الفترة نفسها أحد أهم قادة حركة عدم الانحياز، متحديا واشنطن وحتى الكرملين، فيما غادره رفيق سلاحه أرنستو تشي غيفارا للقيام بمهمة مستحيلة في بوليفيا حيث قتل عام 1967.
كان فيدل كاسترو رؤيويا أكثر ممّا كان إداريا، أطاح في 1968 بآخر ما تبقّى من الرأسمالية الكوبية. وحظى بالشعبية بعد أن جعل المدارس والمستشفيات في متناول الفقراء.
لم تقتصر رؤيته على كوبا، ففي 1975، أرسل كاسترو قواته إلى ما وراء المحيط الأطلسي في مغامرة أفريقية استمرت 15 عاما شاركت خلالها في ساحات معارك في أنغولا وإثيوبيا والجزائر؛ لكن إلى جانب المقاتلين، صدّر كاسترو “جيشا من الأطباء” إلى العالم.
ربطت الزعيم الكوبي، الذي توفي عن 90 عاما، علاقات جيدة بالعديد من الرؤساء العرب كجمال عبدالناصر وحافظ الأسد ومعمر القذافي وصدّام حسين الذين جمعهم أساسا الموقف من الولايات المتحدة الأميركية، وتبقى علاقته مع الجزائر الأشهر؛ فيما أكسبته مواقفه من القضية الفلسطينية حضورا مضاعفا لدى العرب.
في كتاب “عبدالناصر والعالم”، يشير الكاتب الراحل محمد حسنين هيكل إلى أن فيدل كاسترو كان معجبا بثورة يوليو 1952 عندما دخلوا العاصمة الكوبية هافانا عام 1958. وظلت العلاقة بين الزعيمين متينة، ولم تسجل خلافات كبرى بينهما، خلافا لعلاقة كاسترو بصدام حسين، التي تأثرت بغزو الكويت.
لم يساند كاسترو صدام حسين في قراره غزو الكويت ودعاه للانسحاب قبل أن تستغل الولايات المتحدة الوضع و”تضرب العراق بشدّة”. وقد ورد في رسالة وجّهها كاسترو لصدام حسين “لو كانت هناك أسباب مبرّرة ومنطقية، لكنت آخر من يطلب منك تفادي هذه التضحية، وإن التجاوب مع ما تطلبه منك الغالبيّة العظمى من الدول الأعضاء في الأمم المتّحدة، لا ينبغي أن تراه وكأنّه نوع من الإذلال وفقدان الشرف”.
وكان للزعيم الكوبي العديد من المواقف التي تصب في الدعوة للحفاظ على وحدة العرب ورفض تقسيم البلدان العربية. ويسجل له موقفه الرافض للتدخل العسكري الخارجي في ليبيا في 2011، حيث وصف كاسترو حلف شمال الأطلسي إثر تدخله في ليبيا بأنّه أصبح “آلة القمع الأكثر خداعا في تاريخ الإنسانية”.
مع سقوط الاتحاد السوفييتي، اضطر كاسترو في تسعينات القرن العشرين إلى تقديم تنازلات خجولة للرأسمالية، بعد أن واجه السكان نقصا كبيرا في التزويد. وأعلن فيدل كاسترو عندها “فترة خاصة في زمن السلم” وتكهّن الكثيرون بنهاية نظامه. لكن فيدل بطل الانبعاث السياسي، وجد مصدرا جديدا للدخل مع السياحة وخصوصا مع حليفين جديدين هما الصين وفنزويلا في عهد الرئيس هوغو تشافيز.
لم يعرف 80 بالمئة من الكوبيين زعيما سوى من يلقّبونه “فيدل”و”القائد”. وقال المحلل السياسي الكوبي رفاييل هرنانديز مدير نشرية تيماس “إن معظم الكوبيين يرتبط بعلاقة شخصية بفيدل. سواء من يدعمونه بالكامل أو من يختلفون معه، أو من يرون أنه سبب كل مشاكل كوبا”. وكثيرا ما يؤكد كوبيون يغامرون بالخوض في السياسة مع أجانب “لست شيوعيا أنا فيدالي”.
قريبا سينتهي أمري
لم يكن القرن الحادي والعشرون قرن فيديل كاسترو. واعتبارا من 2001، أصيب بسلسلة من النكسات الصحية. ففي يوليو 2006، أرغمته عملية جراحية على التخلّي عن السلطة لشقيقه الأصغر راوول، ذراعه الأيمن ووزير الدفاع منذ 1959. وفي فبراير 2008، نقل السلطة إليه رسميا وتحول القائد الأعلى فيدل إلى “جندي أفكار”، مكتفيا بنشر “تأملاته” في الصحافة الكوبية وباستقبال البعض من الشخصيات التي تأتي زائرة.
ووثقت لجنة تشيرش بمجلس الشيخ الأميركي سنة 1975 ثماني محاولات وضعتها المخابرات المركزية الأميركية لاغتيال كاسترو، بعضها وجد طريقه إلى التنفيذ العملي، بينما تم التخلّي عن البعض الآخر.
وقد ذكرت لجنة تشيرش في أغسطس عام 1960 أن المخابرات المركزية طلبت من مسؤول وضع مادة سامة في السيجار المفضل لكاسترو، يمكنها أن تؤدي إلى الوفاة بمجرد لمسه بالفم، إلا أنه لم يتضح ما إذا كان الصندوق وصل إلى كاسترو أم لا.
وحاولت المخابرات المركزية أيضا استخدام شخصيات بارزة في عالم الإجرام على مستوى العالم لاغتيال كاسترو. وقبل غزو خليج الخنازير، تمّ تمرير أقراص مسمومة في العديد من المناسبات إلى أفراد في كوبا يفترض أنهم على اتصال وثيق بكاسترو.
وفكرت المخابرات الأميركية في منح كاسترو بدلة غطس مسمومة، لكن لم تبرح هذه البدلة المعمل الذي أعدت فيه. ومن المحاولات الأخرى، تمرير أقلام مسمومة إلى عملاء في كوبا لتوصيلها إلى كاسترو.
ولم يتوقف الأمر عند حدّ اغتيال فيدل كاسترو، بل تفتق ذهن رجال المخابرات الأميركية عن أفكار وصلت إلى حد تدبير محاولات لإذلاله، ومن بينها مادة تؤدى إلى تساقط شعر لحيته، وعنصر كيميائي مشابه لمادة “أل أس دي” من شأنها التأثير على قدرته على الكلام.
على وقع نسمات التصالح التي تهب على كوبا قادمة من الولايات المتحدة، يحرق جثمان فيديل كاسترو، لتطوى نهائيا صفحة الحرب الباردة بين الجارة الكوبية الشيوعية المعادية للجارة الأميركية الرأسمالية. وما يدعم توجهات التصالح أن ملامح التقارب رسمت وكاسترو على قيد الحياة، حيث لم يعارض انعطافة الدبلوماسية التي اعتمدها شقيقه، وإن حافظ في مقالاته الأخيرة على النفس الثوري المعادي للإمبريالية.
فور إعلان نبأ وفاة فيدل كاسترو توقفت الموسيقى في جميع أنحاء هافانا حزنا على “الأب” وألغيت الحفلات وفرغت الشوارع المزدحمة فقد تحققت آخر وعود فيدل كاسترو، الذي قال بصوت يرتجف في ختام مؤتمر الحزب الشيوعي الكوبي في شهر أبريل الماضي “قريبا ينتهي أمري مثل جميع الآخرين. دورنا سيحين، كلنا”.