ظلت جميع الأطراف الدولية والإقليمية والعربية، المعنية بالصراع في سوريا، تتحدث منذ سنوات عن أنه لا يوجد حل لهذا الصراع سوى بالسياسة والمفاوضة والتسوية، وهذا الكلام ينطبق على النظام والمعارضة، بيد أن الواقع يقول عكس ذلك، إذ أن كل هذه الأطراف تتصرف على أساس أن الحل العسكري هو الأساسي، وأن الحل السياسي التفاوضي سيأتي نتيجة له أو نتيجة موازين القوى العسكرية على الأرض.
بيد أن هكذا حال لا يفيد إلا بإدامة الصراع، أي باستمرار نزيف مختلف الأطراف، وإمعان القتل في السوريين وتدمير عمرانهم وتشريد المزيد منهم، إذ لا يوجد طرف من الأطراف المتصارعة قادر على الحسم لوحده، وقد شهدنا أن روسيا عجزت عن ذلك منذ تدخلها عسكريا في سوريا، قبل أكثر من عام، رغم هول ووحشية القصف الجوي والقصف بالصواريخ الفراغية والارتجاجية، التي أمطرتها على السوريين، من قواعدها البرية والبحرية. في السابق كنا نتحدث عن معادلة سائدة مفادها أن لا خاسر ولا رابح من الصراع الجاري، لا النظام ولا المعارضة، لكن هذا بات يشمل اليوم حتى روسيا، التي فشلت في فرض أجندتها (كما فشلت قبلها إيران).
إذا كانت شرعية النظام تآكلت إزاء السوريين والعالم، فإن مشكلة الثورة أنها لم تستطع فرض شرعية بديلة
في مقابل ذلك نلاحظ أيضا أن المعارضة التي لم تستسلم ولم تنهزم غير قادرة على الانتصار أو تغيير الأوضاع على الأرض، وهو ما شهدناه في الصراع الدامي والمدمر الجاري في حلب منذ عدة أشهر، والسبب أن الأطراف المؤيدة للمعارضة لم تحسم أمرها بعد، وهذا ينطبق بشكل خاص على الولايات المتحدة الأميركية، التي يبدو أنها لا تتخذ موقع من يدير الصراع فحسب، وإنما هي تستثمر في هذا الصراع، لجهة إضعاف وإنهاك وتوريط الدول المناوئة لها، ويأتي في ذلك استدراجها روسيا وإيران وتركيا والسعودية وغيرها من الدول للتصارع وجها لوجه، في حين تقف هي موقف المتفرج أو اللامبالي، تمهيدا لاتخاذ موقف الحكم، أو موقف موزع الغنائم.
ثمة مشكلة أخرى مفادها أن التوافق على الذهاب نحو الحل السياسي في الصراع السوري بين الفاعلين، الدوليين والإقليميين، لا يعني بالضرورة توافقهم على نوعية هذا الحل، وهذه عقدة أخرى. ويستنتج من كل ما تقدم أن سوريا ستبقى، على الأرجح مجالا مفتوحا للتصارع بين هذه الأطراف التي باتت بمثابة من يحدّد أحوالها ويرسم مستقبلها. بناء على ذلك يمكن الإقرار بأن أكبر مسؤولية عن هذا الاستعصاء، بعد النظام وحليفيه (إيران وروسيا)، إنما تقع على عاتق الإدارة الأميركية، كونها بمثابة القوة الوحيدة القادرة على فرض الحل الذي تريد، على مختلف الأطراف الدولية والإقليمية والمحلية، لكن المشكلة مع الولايات المتحدة أنها تشتغل وفقاً لرؤيتها السياسية لا وفقا لمصالح السوريين، وهذا ينطبق على عهد أوباما وعهد ترامب الرئيس الأميركي الجديد.
الآن قد يعتقد البعض، عن حقّ، بأن النظام تضعضع، واستنفد طاقته، وأنه يستمر بفضل الدعم السياسي والعسكري والاقتصادي المتأتّي من روسيا وإيران و”حزب الله”، لكن ذلك لا يفيد، لأن الوضع على الجهة المقابلة ليس أحسن حالاً، إذ أن طاقة الثورة استنزفت أيضاً، واستنزفت معها طاقة المجتمع بمجمله، بواقع تعذّر تحقيق مكتسبات جديدة على الأرض، والحصار المفروض على العديد من المناطق التي تعتبر بمثابة بيئات حاضنة للثورة.
إضافة إلى هذا إذا كانت شرعية النظام تآكلت إزاء السوريين والعالم، فإن مشكلة الثورة أنها لم تستطع فرض شرعية بديلة بل إن هذه الثورة تواجه معضلة كبيرة، فإطارها السياسي لم يثبت ذاته، بسبب الخلافات بين أطرافه، وضعف علاقته مع الناشطين في الداخل، وبسبب توتّر علاقاته مع الجماعات العسكرية. أما الإطار العسكري فهو في مشكلة ناجمة عن انتهاجه إستراتيجية السيطرة على مناطق واسعة، ما يحمّله مسؤولية إدارتها، وتأمين حاجاتها، والحفاظ على أمنها، ناهيك عن أن ذلك يزيد ارتهانه بالدعم الخارجي، مع ما يستتبع ذلك من إملاءات سياسية.
ما ينبغي إدراكه أن المفاوضات تنعقد عادة لسبب بسيط مفاده عدم قدرة طرف ما على حسم الأمر لمصلحته، إن بإزاحة الطرف الآخر، أو بفرض إملاءاته عليه، بوسائل الحرب أو الصراع المسلح. وفي الحالة السورية، مثلاً، ما كان يمكن لطرفي الصراع، أي النظام والمعارضة، أن يقبلا بالذهاب إلى مفاوضات جنيف 1 و2 و3 لو كان أي منهما يعتقد أن الأحوال تخدم مصلحته، في المدى المنظور، وبالاعتماد على قواه الخاصّة.
يفترض التعامل مع الحل السياسي باعتباره الطريق الذي تنتهجه المعارضة وتؤمن به لاستعادة سوريا وحقوق السوريين من الطغمة الحاكمة
لكن التوجه إلى المفاوضات لا يعني أن الطرفين المتصارعين باتا جاهزين للتسوية، أو أن كل واحد منهما بات مقتنعاً بالتسليم للآخر، إذ تفيد التجارب بأن التسويات، التي تنبثق عن المفاوضات، تنبثق من عدة محددات؛ أولها موازين القوى في اللحظة المعيّنة. وثانيهما قدرات كل طرف وإمكاناته، الكامنة والظاهرة. وثالثها المعطيات المحيطة ومداخلات الفاعلين الدوليين والإقليميين. ورابعها قوة إرادة كل طرف، ومهارات التفاوض لدى كل منهما.
بديهي أن النظام يشتري الوقت في المفاوضات، وأنه يشتغل على محاولات التملص من استحقاق الهيئة الانتقالية ذات الصلاحيات الكاملة، مع مواصلته القصف والحصار، لذا ربما الأجدى للمعارضة الاشتغال على خطين متوازيين، أي الحض على تشكيل الهيئة الانتقالية، لإحداث التغيير في سوريا، وتحدي النظام بوضعه في دائرة الاختبار إزاء المجتمع الدولي، بالمطالبة بوقف القصف الجوي والمدفعي وفتح ممرات إنسانية للإغاثة، والإفراج عن المعتقلين،.
في غضون ذلك يجدر انتباه المعارضة إلى عدة قضايا أساسية؛ أولها، أنه من دون ترتيبها لبيتها (السياسي والعسكري والمدني) لن يتعامل معها أي أحد بشكل جدي، ولن يعطيها أحد ثقته كي تكون مسؤولة عن مصير السوريين، ويدخل ضمن ذلك تقديمها خطابات سياسية مقنعة لشعبها وللعالم، تتأسس على قيم الحرية والعدالة والمواطنة والمساواة والديمقراطية. وثانيها، التعامل مع المفاوضات باعتبارها شكلا من أشكال الصراع، لكشف النظام وإضعافه، وكسب ثقة السوريين والرأي العام العالمي.
وثالثها، يفترض التعامل مع الحل السياسي باعتباره الطريق الذي تنتهجه المعارضة وتؤمن به لاستعادة سوريا وحقوق السوريين من الطغمة الحاكمة، وأن الطريق العسكري فرضه النظام مع حلفائه لقتل الثورة وإجهاضها. ورابعها، الانتباه إلى أن أي حل سياسي لا يمكن أن يتم دون فرض الولايات المتحدة الأميركية لموقفها، فهي التي تمتلك القوة والقدرة على فرض موقفها على مختلف الأطراف، ومن دون ذلك سنبقى في المربع ذاته.
ماجد كيالي
صحيفة العرب اللندنية