مقدمة
اعتبر مدير الاستخبارات البريطانية، أندرو باركر، في حوار مع صحيفة الغارديان، 1 نوفمبر/تشرين الثاني 2016 أن روسيا خطر على أمن بلاده وأمن أوروبا جميعًا، وأنها تستعمل لذلك أنواعًا هجينة من التكتيكات القديمة والمستجدة مثل الحرب السيبرية أو الإلكترونية. ومَاثَله النائب السابق للقائد العام للحلف الأطلسي، الجنرال البريطاني، السير ريتشارد شيريف، في روايته، الحرب مع روسيا 2017، إذا ما استمر الغرب في خفض نفقاته الدفاعية، وتلكَّأ في التصدي للكرملين. وتصب في نفس الاتجاه تقارير من مصادر صحفية سويدية، 26 أكتوبر/تشرين الأول، تفيد بقيام روسيا بنقل سفينتين، مسلحتين بصواريخ نووية، من أسطولها في البحر المتوسط إلى أسطول البلطيق. في جيب كليننغراد الروسي، المنفصل عن جسم روسيا الرئيس والمطل على البلطيق، أعلنت موسكو نصب صواريخ قابلة لحمل رؤوس نووية، للمرة الأولى منذ نهاية الحرب الباردة. في أحد وجوهه، يبدو هذا التحرك الروسي ردًّا على قرار حلف الناتو بزيادة قوات الحلف في منطقة حوض البلطيق، بما في ذلك جمهوريات بولندا، ولاتفيا، وليتوانيا، وإستونيا، إضافة إلى نشر لواء في رومانيا، لتعزيز قدرات الحلف في حوض البحر الأسود. وكانت النرويج وافقت، لأول مرة في تاريخها، 25 أكتوبر/تشرين الأول، على نشر مئات من الجنود الأميركيين، التابعين للحلف، على أرضها في العام المقبل، بعد شعورها بالتهديد من طبيعة المناورات الروسية في الجوار.
منذ الثورة الأوكرانية في نهاية 2013، والإطاحة بالرئيس الموالي لموسكو، قامت روسيا بضم شبه جزيرة القرم بالقوة، في بداية 2014، ودعمت المتمردين على كييف، الموالين لها في شرق أوكرانيا. ويدَّعي الروس، بعد تعزيز أسطولهم الجنوبي، أنهم باتوا يمتلكون تفوقًا شاملًا في البحر الأسود.
من جهة أخرى، اتهمت الأوساط الأمنية الأميركية روسيا بالقيام بالتجسس على قيادة الحزب الديمقراطي ونشر رسائل متبادلة بين قيادات الحزب، في محاولة للتأثير على مسار الانتخابات الرئاسية الأميركية. وخلال أسابيع قليلة، قامت مجموعة هاكرز أوكرانية، لم يُسمَع بها من قبل، بنشر رسائل من مكتب أحد أبرز مساعدي بوتين، ومبعوثه للشؤون الأوكرانية، تُظهر دورًا روسيًّا مباشرًا في التحكم بالمنشقين المناهضين لكييف في شرق أوكرانيا. ويُعتقد أن المجموعة الأوكرانية المزعومة ليست سوى غطاء لعملية أميركية قُصد بها توجيه رسالة إنذار للكرملين، بأن ذراع الولايات المتحدة الإلكترونية أطول بكثير من ذراع موسكو.
ولكن التوتر بين روسيا والقوى الغربية بلغ في سوريا مستوى من التصعيد غير مسبوق منذ بداية التسعينات من القرن الماضي. في سبتمبر/أيلول 2015، فاجأت روسيا العالم بتشغيل قاعدة جوية في حميميم، وبدأت انخراطًا عسكريًّا مباشرًا في الأزمة السورية. بدون كبير اكتراث بالرأي العام العالمي والانتقادات الغربية، تعهَّد سلاح الجو الروسي حملة مستمرة ضد الثوار والمدنيين السوريين، على السواء، مُوقعًا دمارًا وخسائر فادحة بالأهالي وخصوم نظام الأسد، سيما في مدينة حلب وريفها. وبالرغم من الاتهامات الغربية والأممية لروسيا ونظام الأسد بارتكاب جرائم حرب، تبدو موسكو مصممة على الحفاظ على الأسد ونظامه، مهما كانت التكاليف.
في أكتوبر/تشرين الأول، أعلنت موسكو رسميًّا عن أنها توصلت إلى اتفاق مع دمشق لتحويل القاعدتين الروسيتين، البحرية في طرطوس والجوية في حميميم، إلى قواعد دائمة. بذلك، أصبحت القاعدتان أول تواجد عسكري روسي، منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، خارج ما يعرف في موسكو بالجوار القريب، أي دول الاتحاد السوفيتي السابقة، المحيطة بروسيا.
في عددها الأخير، وضعت مجلة الإيكونوميست البريطانية الرصينة صورة لبوتين على غلافها، مظهرة الرئيس الروسي بوجه شيطاني أسود وعيون لامعة مخيفة. ليس ثمة ود مفقود في الدوائر الغربية تجاه الرئيس الروسي، المتهم منذ سنوات بإجهاض الديمقراطية الروسية وتصفية المعارضين. ولكن الصحافة الغربية، في الأسابيع القليلة الماضية من سبتمبر/أيلول وأكتوبر/تشرين الأول، حفلت بعشرات المقالات التي تنذر بحرب باردة جديدة، وبخطر روسي متصاعد، قد يصل حتى إلى صدام عسكري مباشر في أوروبا أو الشرق الأوسط. على المستوى الإعلامي، على الأقل، تبدو العلاقات الروسية-الغربية وكأنها عادت إلى الثمانينات من القرن الماضي، عندما وصلت الحرب الباردة إحدى ذرواتها.
كيف ترى روسيا الغرب؟ وكيف يرى الغرب روسيا؟ وإلى أي حدٍّ يمكن القول: إن العالم يتجه بالفعل إلى طور جديد من الحرب الباردة؟
تصور روسيا للغرب
في 27 أكتوبر/تشرين الأول، ألقى الرئيس الروسي كلمة أمام منتدى فالداي للحوار بمدينة سوتشي. فقال، بخصوص الأزمة السورية، إن اتفاقه الشخصي مع الرئيس الأميركي أوباما حول سوريا لم ينجح، وإن هناك في واشنطن من لا يريد إمضاء الاتفاق، وإنه ليس من المتوقع، بالتالي، وقف سفك الدماء في سوريا. ووجَّه بوتين اتهامات لقوى دولية، لم يُسمِّها، بأنها خلقت المنظمات الإرهابية، عندما قررت أن تغيِّر أنظمة الحكم في بعض الدول، وقال: إن العالم يشهد إعادة توزيع للقوة العسكرية، وعلى روسيا مواجهة التحديات التي تعترضها في هذا المجال. وذكر الرئيس الروسي أن بعض البلدان اعتقدت أنها ربحت الحرب الباردة، ورأت أن تعيد ترتيب العلاقات الدولية وفق أهوائها، مؤكدًا على أن حلف الناتو استُخدم كأداة لتحقيق مصالح سياسية. ولمن لم يستطع التقاط الإشارة، أوضح بوتين أن توسع حلف الناتو قرب الحدود الروسية، ونشر الأسلحة بجوارها، لا يدعو للسرور؛ فروسيا لا تشكِّل تهديدًا لأحد. يمثِّل خطاب بوتين هذا مثالًا واضحًا على الطريقة التي ترى بها موسكو مقاربة القوى الغربية، سيما الولايات المتحدة، للعلاقات مع روسيا. ويمكن القول: إن شكوك موسكو تجاه الغرب بدأت في التبلور منذ الأزمة الجورجية في صيف 2008. رأى بوتين، الذي كان آنذاك رئيسًا لحكومة ميدفيديف، أن الغرب شجَّع الحكومة الجورجية على استخدام القوة المسلحة ضد المنشقين، المؤيدين لموسكو، في أوسيتيا وأبخازيا، وقرر بالتالي استخدام القوة لردع الحكومة الجورجية الموالية للغرب. جورجيا، في نظر موسكو، تمثِّل بوابة روسيا الاستراتيجية في شمال القوقاز، وكان من الصعب السكوت على انتقال الحكم فيها من الموالين لروسيا إلى الموالين للغرب، والتخلي، من ثم، عن أصدقاء روسيا في الشمال الجورجي.
خلال السنوات القليلة التالية، وبالرغم من أن هيلاري كلينتون، وزيرة خارجية أوباما، أعلنت في 2009، بموسكو، رغبة الإدارة الأميركية الجديدة في فتح صفحة جديدة في علاقات البلدين، فإن سياسات أوباما عزَّزت من مخاوف موسكو. ويمكن القول: إن هذه المخاوف تتمحور حول التالي:
- مضي الولايات المتحدة، بدون اكتراث للاعتراضات الروسية، بنشر نظام الصوراريخ المضادة للصواريخ في أوروبا وتركيا، الذي تقول واشنطن: إنه مخصص لحماية أوروبا من دول مارقة مثل إيران وكوريا، بينما تقول موسكو: إنه موجَّه ضد السلاح الروسي، ويخل بتوازن القوى في أوروبا بصورة فادحة.
- التوسع المستمر للناتو في شرق ووسط أوروبا وفي البلقان، الذي تقول موسكو: إنه يمثِّل نكوصًا عن وعود أميركية في نهاية الحرب الباردة بعدم توسع الحلف في دول حلف وارسو والاتحاد السوفيتي السابقة، بينما تقول واشنطن: إن مثل هذه الوعود لم تُقدَّم قط. خلال إدارات بيل كلينتون وجورج بوش الابن وباراك أوباما، توسَّع حلف الناتو ليطول معظم دول أوروبا الشرقية والبلقان، وأصبحت روسيا، سواء في البلطيق أو البحر الأسود تواجه وضعًا استراتيجيًّا أسوأ بكثير حتى من وضع روسيا القيصرية في القرن التاسع عشر.
- إن القوى الغربية هي التي نظَّمت وشجعت ما بدا أنه ثورة شعبية للإطاحة بالنظام الأوكراني المتحالف مع موسكو في نهاية 2013، بدون أن تأخذ في الاعتبار مصالح روسيا الحيوية في بوابتها الاستراتيجية الغربية، ولا الوشائج الثقافية والتاريخية التي ربطت بين الشعب الروسي وأوكرانيا. وبالرغم من أن موسكو أبدت استعدادًا لحل أزمة التمرد العسكري ضد كييف في شرق أوكرانيا، فإن الغرب يرفض الاعتراف بضم روسيا لشبه جزيرة القرم، التي تعود أصلًا إلى روسيا، ويرفض تقديم تعهدات ببقاء أوكرانيا دولة محايدة وعدم ضمها لحلف الناتو.
- تحاول الكتلة الغربية، بقيادة الولايات المتحدة، فرض القيم الليبرالية باعتبارها قيمًا عالمية؛ وقد استخدمت “الأيديولوجيا الليبرالية”، كما أشار بوتين في خطابه للجمعية العامة للأمم المتحدة في خريف 2015، للإطاحة بدول وأنظمة حُكم في القوقاز وأوروبا والشرق الأوسط، بدون أن تضع حسابًا للعواقب الوخيمة خلف هذه السياسة. وليس ثمة شك في أن المجموعة المحيطة ببوتين تتخوف من أن “الأيديولوجيا الليبرالية” تُستخدم أداة للتوسع الغربي، وأنه ما لم تقف روسيا بصلابة في مواجهتها، فستصل إلى قيام القوى الغربية بالعبث بشؤون روسيا الداخلية ومحاولة إعادة بناء روسيا على الصورة التي تريدها.
- أحجمت الدول الغربية، منذ منتصف التسعينات، بالرغم من تصريحات الصداقة الغربية بعد نهاية الحرب الباردة، عن تقديم المساعدة الضرورية لروسيا من أجل إعادة بناء قاعدتها الصناعية وتحديث اقتصادها، مستهدفة بقاء روسيا أسيرة لدخلها من مصادر الطاقة، وجعلها مجرد سوق إضافية للمنتجات الصناعية الغربية. وحتى بعد أن ساعدت مدخولات النفط والغاز المرتفعة على انتعاش روسيا الاقتصادي، تآمر الغرب، في رأيه، منذ 2014 من أجل تراجع أسعار مصادر الطاقة، وفرض عقوبات مالية واقتصادية قاسية على روسيا، بهدف دفعها إلى حافة الانهيار.
الغرب، يقول الروس، باختصار، تعامَلَ مع روسيا، منذ ما بعد نهاية الحرب الباردة، باستهتار فادح، وباعتبارها قوة من الدرجة الثالثة. وتعكس السياسات الغربية في ربع القرن الماضي رغبة واضحة، كما يقول ألكسندر دوغين، أحد علماء السياسة الروس المقرَّبين من بوتين، في السيطرة على الكتلة الأورو-آسيوية بالكامل، بدون كبير اعتبار لوضع روسيا في ميزان القوى وللخصوصية الروسية التاريخية والثقافية. وما لم تتبنَّ روسيا سياسة دفاع نشطة عن موقعها ودورها ومصالحها، فستتحول في النهاية إلى مجرد دولة ثانوية، تدور في الفَلَك الغربي الأطلسي.
تصور الغرب الأطلسي لروسيا
ليس خافيًا أن الولايات المتحدة، وحليفاتها الأوروبيات، نظرت إلى نهاية الحرب الباردة باعتبارها نصرًا حاسمًا للغرب، سلاحًا واقتصادًا وقيمًا. ولكن العقل الغربي تجاه النتائج المباشرة للحرب الباردة، سيما في أوساط النخبة السياسية والاستراتيجية الأميركية، كان منقسمًا.
ثمة من اعتقد أن انتصار الحرب الباردة مثَّل انتصارًا كونيًّا للغرب، “نهاية التاريخ”، حسب عنوان كتاب المفكِّر الأميركي، فرانسيس فوكوياما، وأن هدف الغرب في روسيا ما بعد الحرب الباردة، التي عاشت سنوات ثقيلة الوطأة على المستوى الاقتصادي، لابد أن يتمحور حول مساعدتها على تجنب مجاعة، وتحولها من ثم إلى مشكلة أمنية أو مشكلة هجرة كثيفة، أو مصدر تسرب للسلاح النووي. ولكن آخرين رأوا أن النصر لم يكن حاسمًا؛ ليس مثل الانتصار على النازية، مثلًا، وأن روسيا لم تزل تمتلك ترسانة نووية هائلة، الثانية بعد الولايات المتحدة؛ وأن ضَعف روسيا وانهيارها الاقتصادي مؤقت، ولن تلبث أن تعود من جديد لتشكِّل خطرًا استراتيجيًّا على أوروبا والغرب. وربما كان التعامل الغربي خلال العقدين التاليين لنهاية الحرب الباردة انعكاسًا لهذه الرؤية المزدوجة لروسيا.
من جهة، تصرف الغرب خلال السنوات القليلة التالية لانتصار الحرب الباردة بدون اكتراث كبير لروسيا، سواء في حرب الخليج الأولى، وفي حروب البلقان، أو في حروب بوش الابن المتعددة في الشرق الأوسط. ومن جهة أخرى، أُجبرت روسيا على دفع ثمن باهظ للهزيمة في الحرب الباردة، ليس بتفكيك حلف وارسو، وحسب، ولكن بتفكيك الاتحاد السوفيتي، أيضًا. في الوقت نفسه، تمددت حدود حلف الناتو إلى أقصى مدى ممكن في أوروبا الشرقية والبلقان. وعملت الآلة الغربية، الإعلامية، وربما الاستخباراتية، كذلك، على تشجيع الثورات، والمجموعات ليبرالية التوجه، في جورجيا، وأوكرانيا، ووسط آسيا، بل وفي روسيا نفسها. ولكن، مع الأزمة الجورجية، وأزمة أوكرانيا، على وجه اليقين، بدأت روسيا تحتل موقعًا بارزًا من الجدل الغربي حول النظام الدولي، ولم تلبث التحركات الروسية ذات الطابع الهجومي، سيما في أوكرانيا وسوريا، أن جعلت هذا الجدل أكثر حدَّة.
ثمة تباين بين الدول وبين كبار المفكرين الاستراتيجيين في الرؤية الغربية لروسيا؛ بل وحتى داخل الدولة الواحدة، كما هي الحال في الولايات المتحدة، مثلًا. لكن، وبالرغم من هذه التباينات، فربما يمكن رصد توجه غالب في هذه الرؤية خلال السنوات الثمانية الماضية، تمثِّله إدارة أوباما بصورة رئيسة، وعدد من كبار الفاعلين في صناعة السياسة الخارجية الأميركية وخبراء النظام الدولي:
- يرى أوباما، كما أوضح في حديثه المطوَّل مع جيفري غولدبرغ (ذي أتلانتك، إبريل/نيسان 2016)، أن روسيا دولة ضعيفة، وأنها لا تمثِّل خطرًا داهمًا على الغرب، إلا من جهة التصرفات غير المتوقعة من رئيسها المسكون بمحاولة الرد على ضعف بلاده، ومحاولة توكيد سلطته ومحاصرة شكوك الرأي العام الروسي في قدرته على البقاء والحكم. ولا يُخفي أوباما، الذي وصف بوتين مرة بأنه “نذل وأحمق وقصير”، أن بعضًا من مواقف الرئيس الروسي لابد من تفهمه، مثل ردَّة فعله على خسارة أوكرانيا، التي ينكر الأميركيون أن لهم أي دور في ثورتها ضد النظام الموالي لموسكو. ولكن بعضًا من خطوات بوتين الأخرى، مثل تدخله العسكري في الأزمة السورية، يرى أوباما، لا يمكن وصفها سوى بالحُمق، وأنها ستورط روسيا وتجعلها تدفع ثمنًا باهظًا في النهاية.
- مثَّلت هذه الرؤية، بجانبيها، المرجعية الرئيسة لسياسة أوباما تجاه روسيا طوال سنوات عهديه الرئاسيين. تصَرَّف أوباما على أساس أن التحدي المستقبلي الرئيس لموقع ودور الولايات المتحدة في العالم سيأتي من الصين، وليس روسيا، وبذل جهودًا كبيرة، ومثمرة في أغلب الأحيان، لإعادة بناء الاستراتيجية الأميركية في حوض الباسيفيك. عقدت إدارة أوباما اتفاقات لقواعد، أو تسهيلات، عسكرية، مع عدة دول آسيوية، كما مع أستراليا؛ ووقَّعت اتفاقية تجارية واسعة النطاق مع الدول على جانبي الباسيفيك؛ وساعدت على انتقال ميانمار إلى نظام ديمقراطي صديق؛ وأسست لعلاقات وثيقة مع دول مثل إندونيسيا وماليزيا وفيتنام؛ وحافظت على سياسة العلاقات الدافئة مع الهند وباكستان. وفي الوقت نفسه، لم يتردد في مواجهة التحديات الروسية المستجدة في أوروبا، مستخدمًا، بصورة أساسية، حلف الناتو، بنشر مزيد من قواته في دول البلطيق والبحر الأسود. وعندما تطلَّب الأمر، فرضت الولايات المتحدة عقوبات مالية واقتصادية ثقيلة الوطأة على روسيا، وضغطت على حليفاتها الأوروبيات لتبني الموقف نفسه.
- ثمة توافق بين اتجاهات السياسة والقرار الغربية على أن روسيا دولة في أزمة، أولًا: لأن النظام الروسي، الذي بناه بوتين، نظام رجل واحد، أكثر بكثير مما كان عليه الأمر في العهد السوفيتي. وبينما أرسى السوفيت، بصورة أو أخرى، ما يشبه الأسس المتعارف عليها لتسيير عملية الخلافة السياسية وضمان الاستمرارية، فإن أحدًا في مجموعة بوتين لا يعرف ما الذي سيجري من بعده. روسيا، باختصار، دولة محافظة، ليس بمعنى استدعاء مواريث الماضي وحكمته، بل لأنها تخاف المستقبل وتخشاه. ثانيًا: لأن روسيا لم تستطع تحديث اقتصادها وآلتها الصناعية، وستبقى أسيرة لتقلبات أسعار النفط والغاز لفترة طويلة قادمة، ربما حتى إلى أن تتراجع قيمة النفط والغاز كسلع استراتيجية بفعل التقدم المطَّرد في تقنيات توليد الطاقة البديلة. وروسيا في أزمة، ثالثًا، لأنها لم تزل تُصرُّ على تميزها واختلافها، بدون أن تجد لها رسالة أو دور مميز في المسرح العالمي.
- هذا الشعور المتفاقم بالأزمة، يقول هؤلاء، ينعكس في محاولة لنشر القوة واستعراضها، سواء في البلطيق أو الشرق الأوسط، ليس بدوافع استراتيجية دائمًا، ولكن لأسباب أخرى، مختلفة كلية. أحد دوافع هذا الاستعراض للقوة يتعلق بالرأي العام الداخلي، ومحاولة حماية النظام واستقراره، من عواقب التدهور المالي/الاقتصادي والتراجع الجيوسياسي، بتصعيد المشاعر القومية وصناعة صورة بديلة لروسيا: روسيا النِّد للولايات المتحدة. ولكن ثمة هدف آخر لاستعراض القوة هذا، ويتعلق بالتأثير على القوى الاقتصادية والإقليمية الصاعدة، مثل: البرازيل وجنوب إفريقيا والهند وإيران وتركيا، التي لا تتفق مصالحها دائمًا مع المصالح الغربية، والتي يمكن أن تصبح حليفة ما، أو شريكة اقتصادية مستديمة، لروسيا.
- إن سياسة استعراض القوة وصناعة الأزمات التي يتعهدها بوتين تواجه واحدًا من مصيرين: الأول: هو المزيد من التصعيد، إلى أن ينفد صبر الغرب، ويوجِّه لروسيا ضربة مؤلمة. والثاني: أن يدرك بوتين، أو خليفته، التكاليف الباهظة لهذه السياسة، ويعود، من موقع الاعتراف بمقدَّرات روسيا المتواضعة، للتفاوض العقلاني حول حدود مصالح روسيا الحيوية.
حرب باردة جديدة؟
بصورة من الصور، يُنظر عادة إلى الاتحاد الروسي باعتباره وريث الاتحاد السوفيتي. ولكن الاتحاد السوفيتي، الطرف الرئيس في الحرب الباردة، كان شأنًا آخر تمامًا. تحكَّم الاتحاد السوفيتي، سواء ضمن حدوده أو بقيادته لحلف وارسو، بمجال جيوستراتيجي هائل، امتد من بحر البلطيق إلى شمال المحيط الهاديء، ومن سيبيريا إلى وسط آسيا والبلقان. ولم ينافس الاتحاد السوفيتي الغرب في مجال الترسانة العسكرية والنووية وحسب، بل وامتلك سلاحًا أيديولوجيًّا، وفَّر قدرًا كافيًا من الشرعية في الداخل، واختراقات في قلب المجتمعات الغربية ذاتها وفي أنحاء العالم الأخرى، في الخارج. ولأن الاتحاد السوفيتي كان عضوًا دائمًا في مجلس الأمن، من ناحية، ولم يكن طرفًا في مؤسسات النظام الاقتصادي والمالي العالمي، المهيمَن عليها غربيًّا، من ناحية أخرى، فقد أفاد من نفوذه الأممي وحافظ على الشروط الذاتية الضرورية لمقاومة الضغوط الغربية المالية/الاقتصادية، في الوقت نفسه. بهذه المقدَّرات، أصبح الاتحاد السوفيتي منافسًا عالميًّا للغرب، وليس فقط في الساحة الأوروبية؛ وأجبر الولايات المتحدة، في مناسبات عدَّة، على التفاوض حول تقاسم النفوذ في هذه المنطقة أو تلك من العالم.
ولكن، وحتى بهذه المقدرات، خسر الاتحاد السوفيتي الحرب الباردة في النهاية، وتعرَّض، منذ 1989، لانهيار حثيث في منظومة تحالفاته، وفي تأثيره الأيديولوجي، وفي مرتكزاته الجيوسياسية.
روسيا ليست الاتحاد السوفيتي، لا تملك مقدَّراته ولا تستطيع تحمل أعباء المواجهة الطويلة التي تحمَّلها طوال أربعة عقود من المواجهة مع الغرب. صحيح أن روسيا، منذ لاحظت عوامل القصور في أداء جيشها خلال الحرب الجورجية، قامت بعملية تحديث غير مسبوقة لأداتها العسكرية بكافة أذرعها. ولكن النجاح في عملية التحديث العسكري لم يلبث أن تبعه تأزم اقتصادي مؤلم. تعاني روسيا، مثلًا، من تراجع اقتصادي وتراجع في دخلها القومي على مدى العامين الماضيين. وطبقًا للأرقام الرسمية، بات الاحتياطي النقدي الاستراتيجي للدولة، الذي بلغ أكثر بقليل من 91 مليار دولار في سبتمبر/أيلول 2014، مهددًا بالنفاد في 2017. وليس ثمة أفق واضح لإمكانية تحرر الاقتصاد الروسي من أسر أسعار موارد الطاقة، المصدر الرئيس لدخل روسيا من العملات الأجنبية، والذي أتاح فائضه النقدي في العقد الأول من القرن تعزيز القوة العسكرية الروسية وصناعة مناخ من الرخاء الاقتصادي.
روسيا ما بعد الاتحاد السوفيتي، إضافة إلى ذلك، باتت جزءًا من السوق الاقتصادي والمالي والأنظمة المالية والاقتصادية الدولية، حيث تتمتع الولايات المتحدة وحليفاتها في أوروبا الغربية بنفوذ كبير؛ وهذا ما يجعل العقوبات التي تفرضها الكتلة الغربية على روسيا، كما على أية دولة أخرى، ذات أثر مؤلم وفعَّال. لا تريد الدول الغربية أن ترى انهيارًا ماليًّا واقتصاديًّا لروسيا، فانهيار ثاني دولة نووية في العالم لن يكون بلا عواقب ضارة. ولكن الكتلة الغربية تستطيع أن تُبقي روسيا مستهلَكة بتدبير شأنها المالي والاقتصادي لزمن طويل.
وليس من الصعب رؤية حجم الانفعال وفقدان البوصلة في ردود الفعل الروسية على ما تراه موسكو حصارًا غربيًّا استراتيجيًّا حثيثًا وتجاهلًا لمصالح روسيا الحيوية. إن وضع حجم العقوبات التي فرضها الغرب على روسيا في الاعتبار، يجعل تكلفة تشجيع موسكو للانشقاقيين في شرق أوكرانيا وضمها لشبه جزيرة القرم تبدو باهظة. الحشود الروسية على حدود دول البلطيق، وهي أعضاء في حلف الناتو، لن توصِّل إلى نتيجة مثمرة لروسيا، ولن تؤدي إلا إلى زيادة التواجد العسكري للحلف في الساحة الأوروبية وتصعيد التوتر في القارة. مثل هذا التطور لن يكون في صالح روسيا، وسيجبرها على زيادة الإنفاق العسكري، في وقت تأزم اقتصادي، يبدو أنه سيطول قليلًا، ولكن المغامرة الروسية في سوريا هي ما يثير معظم الاستغراب.
روسيا، أصلًا، ليس لها مصالح حيوية في سوريا؛ وهي ليست جورجيا ولا أوكرانيا. أعلنت موسكو مؤخرًا أنها ستجعل القاعدتين الروسيتين في حميميم وطرطوس قواعد دائمة. ولكن هذا لا يبدو كسبًا استراتيجيًا لروسيا. طرق إمداد القاعدتين طويلة، ولابد أن تمر بالمضايق التركية، التي تخضع لسيطرة الناتو، على أية حال. ومهما بلغ التواجد الروسي البحري في المتوسط، فسيظل تواجدًا متواضعًا إنْ قورن بالأسطول السادس الأميركي. من جهة أخرى، لم تنظر الولايات المتحدة وحليفاتها، أصلًا، إلى سوريا باعتبارها أولوية، أو حتى كدولة مهمة للغرب. ولم تلعب الدول الغربية أي دور ملموس في مجريات الثورة السورية، لا في اندلاع الثورة، ولا في تقديم أية مساعدة ذات تأثير للقوى المعارضة للنظام السوري. سوريا، باختصار، لم تكن ساحة يمكن لروسيا أن تُظهر فيها تحديًا للإرادة الغربية. وبعد انخراط عسكري في سوريا لأكثر من عام، تحيطه شبهات جرائم الحرب، لم تستطع روسيا فرض تغيير جوهري في مسار الأزمة السورية، ولا أجبرت الغرب على تقديم تنازلات جوهرية في أوكرانيا، إن كان هناك في موسكو من حسب أن سوريا قد تكون أداة ضغط في أوكرانيا.
في النهاية، الواضح أن إدارة أوباما اتبعت مقاربة لروسيا ذات وجهين: من ناحية، استمر أوباما في تعزيز المصالح الغربية في أوروبا، بما في ذلك توسع حلف الناتو ونشر منظومة الصواريخ المضادة للصواريخ، واضعًا في الاعتبار إمكانية بروز تهديد روسي ملموس في المستقبل. ومن ناحية أخرى، لم ينظر أوباما إلى استفزازات روسيا حتى الآن باعتبارها مدعاة لاستخدام القوة. يمكن أن يكون تعامل الرئيس الأميركي الجديد، دونالد ترامب، أقرب إلى التعاون من الصدام مع الرئيس بوتين، مما يخفض احتمالات الصدام دون أن يستبعدها نهائيًّا، لأن مجالات التعاون محدودة في مجال ضيق وهو قتال تنظيم الدولة بمنطقة الشرق الأوسط، لكن خلافاتهما ستظل قائمة حول الأمن الأوروبي، وأمن دول الجوار الروسي التي التحقت بالحلف الأطلسي، والأوضاع في آسيا الوسطى. وقد تتغير الأولويات بين عشية وضحاها من التعاون المحدود إلى الصراع المفتوح. وبغضِّ النظر عن هذا التطور الجزئي المتعلق بالقيادة الأميركية الجديدة، لن يستطع ترامب أن يتنكر بين ليلة وضحاها للطوق الذي ضربه أسلافه حول روسيا، ووعدوا أعضاءه بالحماية والأمن، وفي المقابل، لا يمكن لبوتين أن يرضخ لما يعتبره خطرًا داهمًا على أمن بلاده. هذا ما يجعل أسباب النزاع بين البلدين قائمة، وتميل الغلبة في كسبها للولايات المتحدة.
ولكن، وبالرغم من أن عددًا من المقربين من الرئيس بوتين يقرون بهذا الميزان للقوة، فإنهم يطرحون تصورًا للمستقبل مختلفًا إلى حدٍّ ما. يقول هؤلاء: إن روسيا تدرك أنها لا تستطيع منفردة تغيير ميزان القوى العالمي، ولكن عين موسكو تنظر إلى ما هو أبعد من اللحظة الراهنة. ليست روسيا، وحسب، هي من ينظر بقلق لسعي الولايات المتحدة إلى تشكيل العالم على صورتها، وإلى التحكم المنفرد بالنظام الدولي. دول مثل: تركيا، وصربيا، والهند، وإيران، وكوريا، وعدد متزايد من القوى الإقليمية الأصغر، تُظهر هي الأخرى قلقًا متزايدًا من الهيمنة الأميركية. هذا، بدون حتى وضع الصين، صاحبة ثاني اقتصاد عالمي والتي لم تزل تُحكَم من حزب شيوعي، في الحساب. وعلى روسيا أن تُظهر للعالم أنها على استعداد للوقوف أمام التفرد الأميركي، وأنها شريك يمكن الاعتماد عليه لبناء نظام عالمي متعدد القوى.
مثل هذه الرؤية لا يمكن الاستهانة بها، مهما كان توازن القوى العالمي الراهن. وفي حين يبدو من المبالَغ فيه توقع أن تتعهد روسيا حربًا باردة جديدة في مواجهة الغرب، سيما أن موسكو أظهرت في مناسبات، مثل المشروع النووي الإيراني وأزمة مخزون نظام الأسد الكيماوي، قدرًا كبيرًا من العقلانية والاستعداد للتعاون مع واشنطن، خاصة بعد فوز دونالد ترامب بالرئاسة، فليس من الصعب رؤية مضي العالم نحو نظام دولي تعددي. ولكن من المبكر، على أية حال، محاولة تصور ديناميات مثل هذه التعددية. هل ستبقى الولايات المتحدة، مثلًا، الدولة الرئيسة في النظام الدولي؟ ولأي مدى زمني؟ كيف ستكون المسافة بين القطب الأميركي والأقطاب التالية له؟ وهل ستنجح الأقطاب المتعددة في مأسسة نظام عمل وتعاون دولي تعددي؟ وأي دور ستلعبه القوى الإقليمية المهمة في نظام دولي تعددي؟ كل هذه أسئلة تصعب الإجابة عليها الآن، كما يصعب تحديد اللحظة التي يمكن القول عندها: إن العالم بات بالفعل متعدد الأقطاب.
مركز الجزيرة للدراسات