لا توسّط في الحكم على القادة التاريخيين، ولا مواقف رمادية حيالهم.
مع القادة التاريخيين الحكم قاطع.. والإعجاب مثل الكراهية فوق النقاش.
فيدل كاسترو من هؤلاء، وكذلك نيلسون مانديلا، وماو تسي تونغ، وهو شي منه. إنهم نمط من الساسة الثوريين الذين لا يجوز إدراجهم في خانة واحدة مع «سارقي الثورات»، والمتاجرين بالشعارات، ووارثي النضالات الزائفة، كبعض مَن يحاول اليوم التستّر على فظائعه بحق شعبه بنعي الزعيم الراحل، وادعاء الانتماء إلى معسكره.
كاسترو، وغيره من الثوريين التاريخيين لم يَرثوا أنظمة انقلابية عن آبائهم، ولا عُدّلت من أجلهم دساتير تُكتب وتُعدّل وتمحى حسب الطلب. وبصرف النظر عما إذا كان الزعيم الكوبي الراحل قد نجح في الانتقال ببلاده من منطق الثورة المحاصَرة (بفتح الصاد) إلى واقع الدولة، أم ظل أسير قناعات آيديولوجية عنيدة، فإنه كان شاهدًا على مرحلة غيّرت معايير السياسة في العالم الثالث.
ما كان نموذجًا في الديمقراطية الليبرالية ذلك النظام الذي قاد فيدل كاسترو الثورة عليه، والذي يترحّم عليه اليوم ماركو روبيو، السيناتور الأميركي الكوبي الأصل، والمرشح الذي أخرجه دونالد ترامب من حلبة تنافس الجمهوريين للوصول إلى البيت الأبيض.
وكوبا التي يتحدر منها الآلاف من المنفيين وأبناء المنفيين وأحفادهم الذين تظاهروا في ولاية فلوريدا الأميركية فرحًا بموت كاسترو وانقشاع غمامة أسطورته السياسية، لا هي حاليًا «ملعب» عائلات المافيا الأميركية و«ماخور» ديكتاتورية فولهنسيو باتيستا، كما كانت قبل كاسترو… ولا هي نسخة عن «كولخوزات» بلاشفة موسكو، أو «الثورة الشعبية» الدائمة التي بشّر ومات تحت بنودها إرنستو «تشي» غيفارا، الذي كان لفترة رفيق درب «فيدل».
كوبا تغيّرت، كما تغيّرت روسيا وأميركا. تبدّلت المعايير السياسية من دون أن تتبدّل الطموحات والأطماع. واختلفت موازين اللعبة، واختفت جدران عزل فوق ألمانيا لتهدد بالظهور عند نهر الريو غراندي بين أكبر خزّانين للمهاجرين الأوروبيين في أميركا.. الولايات المتحدة والمكسيك.
في شوارع هافانا العتيقة ما زالت هناك سيارات ستوديبيكر، وناش ودي سوتو، وبونتياك وميركوري التي حكم على ماركاتها بالإعدام في ما باتت تعرف بولايات «حزام الصدأ» الأميركية التي أسقطت هيلاري كلينتون في انتخابات الرئاسة هذا الشهر.
لفترة طويلة توقف الزمن في كوبا، التي اعتبرتها ماكينة الإعلام الأميركية في حمأة الحرب الباردة نموًا سرطانيًا ينتشر في القارة الأميركية، ومخلب قط توسعيًا للشيوعية العالمية، واختراقًا مرفوضًا للهيمنة القارية الأميركية المنصوص عنها في «شرعة مونرو» (1823). ولفترة طويلة أيضا صدّق العالم نظرية المؤامرة «من دون رتوش»، لا سيما، بعد أزمة الصواريخ الكوبية التي اضطر نيكيتا خروتشوف عام 1962 لسحبها بعد إنذار جون كيندي.
إلا أن الحقيقة التي رفضت واشنطن الإقرار بها أن فيدل كاسترو لم يأتِ إلى السلطة على ظهر دبابة انقلابية، كحال معظم «رجالها» من ديكتاتورات أميركا اللاتينية إبان حقبة الحرب الباردة، وقبلها أيضًا. كان كاسترو نتاج ثورة شعبية وقائدًا لها ومعبّرًا عنها، ولهذا استمر نظامه حتى بعد انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991.
بكل بساطة، مهما قيل في الأسباب، ورغم كل عيوب نظام كاسترو البنيوية والجزيئية، ولا سيما في مجال الحريات العامة، فإنه نجح بالصمود في وجه حصار خانق استمر لأكثر من نصف قرن فرضته على «دولة – جزيرة» أقوى قوة كبرى عرفها العالم.
أكثر من هذا، بمواجهة هذا الحصار الاقتصادي والسياسي والتنموي، حققت «كوبا كاسترو» أفضل منجزات في مجالات مكافحة الأمية، والتقدم الطبي، والقضاء على وفيات الأطفال.. وغيرها على مستوى دول أميركا اللاتينية.
وأخيرًا، لا آخرًا، اكتشفت واشنطن – ربما متأخرة بعض الشيء – أن اللجوء إلى الثورة اضطرار لا خيار. فأي إنسان في أي مكان من العالم، يفضل العيش في دعة وسلام وبحبوحة، ويستحيل أن يفكر في المغامرة بحياته واستقرار عائلته… إذا ما توافرت له ظروف العيش الكريم، وتأمنت سلامته، وكُفلت له ولعائلته شبكة أمان ضد الجهل والجوع والمرض.
في أعقاب انهيار الاتحاد السوفياتي، ارتاحت واشنطن وما عادت مضطرة للتعايش مع هاجس صراع الشرق والغرب. وبنتيجة خفوت هذا الهاجس، و«تبشير» الغرب بقيادة واشنطن بانتصار الديمقراطية على الشيوعية… كان لا بد من إتاحة الفرصة لوضع الحقيقة موضع التنفيذ. وهكذا، اتخذ القرار بوقف رعاية الانقلابات العسكرية على امتداد القارة الأميركية وجزر الكاريبي.
قرّرت واشنطن إعطاء الديمقراطية فرصة مع انتفاء الحاجة لإطاحة قيادات تقدمية أو ليبرالية بانقلابات جنرالات وكولونيلات تموّلهم تارة شركات ووكالات أميركية، وتتواطأ معهم طورًا بعض القيادات الكنسية، إبان قلق الإكليروس من شبح الشيوعية. فماذا كانت النتيجة؟
خلال سنوات قليلة فاز اليسار تقريبًا بالحكم عبر صناديق الاقتراع في كل دول أميركا الجنوبية باستثناء كولومبيا والباراغواي. ومع أن بعض التجاوزات وحالات الفساد أعادت التوازن بين اليسار واليمين في بعض الدول، وتعثرت مسيرة تداول السلطة بسلاسة في دول قليلة، فإن هذه المسيرة غدت جزءًا أساسيًا من الثقافة السياسية لهذه الدول، وغدت القاعدة لا الاستثناء كما كانت من قبل.
حتى كوبا نفسها تخلت عن «ذهنية الحصار»، وطوت صفحة الخوف من الانفتاح، واستقبلت على أرضها بابا الفاتيكان ورئيس الولايات المتحدة، وانطلقت في نشاطات تطبيعية واسعة في مختلف المجالات مع «الجار» الأميركي الكبير، سواءً على مستوى القطاع الخاص أو القطاع العام. ومن ثم، لا يمكن النظر إلى شخص فيدل كاسترو وإرثه السياسي إلا من منظور تاريخي متكامل. والكوبيون قبل غيرهم من حقهم إطلاق الأحكام على تجربتهم السياسية.
في المقابل، على الأميركيين أيضًا أن يراجعوا تعامل مؤسستهم السياسية مع الشعوب التي تقاسمهم نصف الكرة الأرضية الغربي. فالجدار الفاصل الذي يدعو دونالد ترامب لبنائه على الحدود مع المكسيك، سينهار – ولو بعد حين – تمامًا مثل فرض الحصار على كوبا. وطبعًا لن يكون سهلاً بناء جدران مماثلة داخل كاليفورنيا وأريزونا وتكساس ونيومكسيكو.
الحرب على العولمة مسألة خطرة، وعواقبها قنبلة موقوتة.
إلياس أبو شقرا
صحيفة الشرق الاوسط