يعود سؤال الدولة، أي سؤال الماهية، مجدداً إلى الواجهة في العالم العربي، خصوصاً أن «الربيع العربي» كشف هشاشة الدولة في غير بلد عربي. وعودة سؤال الدولة، اليوم، هو ضرورة، ليس فقط بالمعنى النظري، وإنما بالمعنى العملي، أي أن فتح النقاش حول ماهية الدولة العربية أصبح أمراً لا غنى عنه، من أجل تجنب المزيد من الانزلاقات نحو الفوضى القابلة للتمدد، في ظل أوضاع إقليمية ودولية غير داعمة للاستقرار، بل إن بعض السياسات الدولية هي، بالفعل، مشجعة على الفوضى كخيار استراتيجي، من أجل إعادة رسم الخرائط في الشرق الأوسط.
وكشفت الحال العربية في البلاد التي شهدت انتفاضات «الربيع العربي» عن أزمات عديدة في بنية الدولة، خصوصاً لجهة التصرف بالقوة المحتكرة من قبلها، وإذا كان تعريف الدولة بحسب ماكس فيبر بأنها «تحتكر العنف المشروع» فإن احتكار العنف له غايات محددة ليست منفصلة عن حماية الفضاء العمومي، ورعاية مصالح الفئات الاجتماعية، وإلا فإن احتكار العنف يغدو وسيلة لحماية النظام السياسي الحاكم، وليس من أجل منع الفوضى والاضطراب، وبالتالي فإن النظام السياسي يصبح هو من يحتكر العنف وليس الدولة بوصفها جهازاً حيادياً تجاه جميع المواطنين.
إن الفشل الذريع ل «الدولة العربية» هو أنها ما زالت دولة النظام السياسي الحاكم، ومن هنا فإن الدولة لا تستطيع الادعاء بامتلاكها «الصراط المستقيم» الذي هو مبدأ الدولة، والذي يجب أن يتجلى في علاقة أجهزة الدولة مع مواطنيها، بحيث تكون الدولة بالفعل متعالية، وغير منحازة، وهو الأمر الذي لم يعرفه تاريخ الدولة العربية الحديثة، فقد ظلّت النخب الحاكمة فوق أي «صراط مستقيم»، وغير قابلة للمساءلة، ما جعل من فكرة الدولة نفسها مجرد فكرة هشة، منقوصة الشرعية، طالما أن منظومة القوانين لا تراعى من قبل النظام السياسي، بل إن طبقة النخبة لا تخضع للقوانين، وهي تستطيع أن تغيّرها بحسب تبدلات مصالحها.
لقد تصرّفت الدولة العربية الحديثة مع المجتمع وفقاً لمبدأ المقايضة الذي يصفه توماس هوبز بأنه «الأمن مقابل الحماية»، وهو ما يعني في التحليل الأخير أن العقد الاجتماعي القائم هو عقد إذعان بين المجتمع والدولة، وبشكل أكثر وضوحاً فإن العقد الاجتماعي هو عقد إكراه من قبل النظام السياسي، هذا النظام الذي اختزل الدولة به، وسخّر أجهزتها المختلفة لمصلحة الطبقة الحاكمة، وفي هذا السياق، فإن انتفاضات «الربيع العربي» ذهبت في مجملها نحو العنف، في ظل غياب الوسيط المحايد الذي يفترض أنه الدولة.
لقد قادت الآليات التي تعاملت بها النخب العربية مع الدولة إلى بناء أجهزة بيروقراطية تتعامل مع الفضاء العام من منطق الهيمنة، وليس من منطق أنها أجهزة خدمة عمومية، وتحوّل البيروقراطيون من موظفين مهمتهم تطبيق القوانين إلى أصحاب نفوذ، وتمكّنوا من بناء تحالفات مع الطبقات المسيطرة اقتصادياً وأمنياً وسياسياً، وهو ما ضرب استقلالية البنية البيروقراطية، فمن دون تلك الاستقلالية تتحول أجهزة الدولة إلى ذراع تنفيذي في يد النظام السياسي.
إن مسيرة الدولة العصرية هي مسيرة التحوّل من الإخضاع إلى الإجماع الذي يتبلور دستورياً، بحيث تكون المبادئ الدستورية كفيلة بفصل النظام السياسي عن الدولة، وتحقق الرضا العام، لكن هذا الانتقال من الإخضاع إلى الإجماع ليس مسألة نظرية محضة، بل سلسلة من التحولات التي تطال الفضاء العام نفسه، وتسمح بأكبر مشاركة ممكنة للقوى الاجتماعية في بلورة مصالحها وأهدافها، وهو ما يتطلب مناخاً من الحرية، التي تشكل شرطاً ضرورياً ولازماً من أجل تفكيك هيمنة منظومات الإكراه، وبناء منظومات مستقلة ونزيهة تعيد الاعتبار للدولة بوصفها دولة العموم.
إن التاريخ القريب يخبرنا بأن استمرار النظام السياسي في احتكار الدولة، وتجيير احتكار العنف لخدمة مصالحه، تحت بند «حق الدولة في احتكار القوة»، وتسخير النظام البيروقراطي لمصلحة القوة النافذة، لا بد أن يصل إلى وضع الجميع في مأزق يصعب الخروج منه، وهو ما نرى نتائجه اليوم في غير بلد عربي، حيث قادت لاعقلانية الأنظمة الحاكمة إلى استخدام العنف ضد شعوبها.
والحال كذلك، فإن طرح مسألة الدولة لم يعد ترفاً نظرياً، إذ لا سبيل إلى منع انزلاق الدول الوطنية العربية إلى أوضاع مشابهة لدول «الربيع العربي» من دون اتخاذ خطوات رئيسية في فتح الفضاء العام للنقاش حول ماهية «الدولة»، ومعنى «احتكار العنف»، وكيفية إعادة الاعتبار إلى الجهاز البيروقراطي بوصفه جهازاً عمومياً، وفك ارتباطاته مع القوة النافذة، ولن يكون ذلك، بالطبع، بالأمر اليسير، لكنه الطريق الذي لا مناص منه، إذا ما أرادت «الدولة العربية» أن تستفيد من خلاصات التاريخ الحديث، وولوج روح العصر.
حسام ميرو
صحيفة الخليج