جاري الذي كنت قد عرفته مؤمنا “تقليديّا” ينتمي إلى ما يعرف بـ”الإسلام الشعبي”، وذلك للتمييز عن الإسلام السياسي، وجدته يوما يكسر بغضب شديد كل ما وقعت عليه يداه وعيناه من لوحات وأوان تحمل اسم الجلالة أو بعض الآيات القرآنية المعلّقة في بيته، وكان كل ذلك يدور أمام اندهاش وتساؤل أفراد أسرته وأطفاله.
حاولت التهدئة من روع جارنا الغاضب، وقد بدأ يظهر على وجهه شبه الأمرد، “مشروع لحية” وأنا أسأل نفسي وألومها “لماذا يفعل ذلك؟ هل تخلى الرجل عن إيمانه؟ ربما تأثّر بي وفهم علمانيتي بشكل مغلوط”.
كانت الإجابة الصادمة أن أصبح “جهاديّا تكفيريّا”، ولا يجوز -في نظره- الاحتفاظ في البيت بالمجسّمات من التحف والتماثيل الصغيرة، بل وحتى كل “ذي ظل” مستندا إلى ما سمعه من إمام المسجد الذي يصلي فيه، وهو “أن الله في القلب، وتجب محاربة كل من يرفع اسم الله وكلامه مكتوبا بشكل جمالي مزوّق، إن كان ذلك منحوتا أو محفورا وسط أثاث بيته”.
هكذا يريد أن يرخى التكفيريون بسدولهم من المحيط إلى الخليج بعد أن توهموا بأن ثمارهم المسمومة قد نضجت واستوت، وآن لها أن تعطي أكلها في البرك الآسنة والبيئات الحاضنة التي يغذّيها الجهل والتخلّف.
لم يكن جاري الذي أصبح متجهما عبوسا بعد أن أصابته اللوثة الداعشيّة إلّا نموذجا مصغّرا لأولئك الذين يشنّون حربا على التاريخ والثقافة والجمال في تدمر والموصل وقبلها في المتحف الوطني التونسي، ولو كان بيده لمضى يدكّ بمطرقته “أصنام” القرطاجيين والنوميديين والرومان وغيرهم في متاحف البلاد طولا وعرضا، حتى لا يمجّد إلّا القبح، وتكتمل دائرة الخراب ويقف فوقها مع “إخوته الجهاديين” مغرّدا ومهلّلا بهذا النصر المبين.
يظنّ الإعلام الغربي الذي يظهر مشاهد تحطيم الذاكرة الإنسانية في المتاحف أنّ ما يبثّه أقلّ فظاعة ووحشية من صور الذبح والحرق وتمزيق أجساد الأبرياء التي حجبها “مشكورا “، ولكأن المرء يشتمّ أحيانا -وبعيدا عن نظرية المؤامرة- رائحة تشفّ تصدر عن اليمين العنصري مع كل منحوتة أثرية تسقط تحت مطارق المجرمين وفؤوسهم.
جاهل ومغفّل من يعتقد أنّ هؤلاء يريدون دولة بمفهومها السياسي، ومهما كانت عقيدتها فإنهم يسعون إلى ديمومة القتل واستمرارية الخراب حتى يرث الله الأرض ومن عليها
نعم، فربما وجدت أوساط عنصرية حاقدة في أوروبا وأميركا ممن يقوم بالمهمّة بدلا منها ودون عناء.
أوغل التكفيريون في احتقار الذات البشرية، وشغّلوا خيالهم المريض حتى بلغ النهاية في معاداة الإنسانية؛ أي معاداة الله كمفهوم مطلق للخير والجمال والمحبة فصبّوا جام غضبهم على كلّ من يمجّده في الفن والإبداع.
يحاول الظلاميون أن يتسرّبوا إلى مسام جلودنا عبر دعاتهم التجهيليين وأموالهم القذرة؛ احتلّوا بقاعا غير محصّنة في مجتمعاتنا المتأزّمة بفعل الفقر والجهل والتهميش. وكل ذلك يحدث تحت عيون دعاة الكراهية في البلدان الغربية، والذين ينظرون إلى مجتمعات العالمين العربي والإسلامي كجرار فخّارية تكسر بعضها بعضا.
جاهل ومغفّل من يعتقد أنّ هؤلاء يريدون دولة بمفهومها السياسي، ومهما كانت عقيدتها فإنهم يسعون إلى ديمومة القتل واستمرارية الخراب حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وتلك مسألة محيّرة في ظاهرها، لكنها تخفي مخطّطات جهنمية صنعتها جهات خفيّة لا تستوعبها أدمغتهم التي تمّ غسلها ثم ملؤها بالحقد والكراهية.
إنّ من يلاحظ تركيز القتلة في جرائمهم على سكّان مناطق الحضارات القديمة، والثقافات العريقة كالأقباط والآشوريين والكلدانيين والإيزيديين وغيرهم، سيكتشف دون شك حجم “الخدمة الكبيرة” التي يؤديها هؤلاء إلى الحركات الفاشية واليمينية المتطرفة، التي تسعى إلى تصوير نموذج العربي المسلم بشكل ممسوخ وهمجي ودخيل على الحضارة الإنسانية.
لم تكن تلك التحوّلات الدراماتيكية في شخصية جاري الذي ألفته بشوشا ومحتفلا بالحياة ثم عدت بعد سنوات فوجدته قد غيّر الطريق من المقهى سابقا إلى أحد جحور التطرّف.
لم تكن هذه التحوّلات إلاّ نذير شؤم عليه وعلى أسرته ومن حوله، ذلك أن “أوّل الرقص حنجلة” كما يقال، فلقد بدأ الرجل بتحطيم جماليات خطّ يسبّح باسم الله.. فما بالك بالنهاية وبئس المصير.
وبالفعل، لم تكن حادثة جارنا في منزله إلا “بروفة”، فلقد علمت في ما بعد أن جارنا “محطم اللوحات والتماثيل”، كان ضمن الجماعة السلفيّة والتكفيريّة التي أقدمت على حرق ونهب وإتلاف مقام وضريح الوليّ الصوفي الصالح أبي سعيد الباجي، والذي تسمّت باسمه أشهر ضاحية وميناء سياحيّ وهي قرية “سيدي بوسعيد” السياحية الشهيرة في تونس.
صنّفت اليونسكو هذه الضاحية كأحد أهمّ كنوز التراث المعماري والثقافي العالمي المطلّة على البحر المتوسط، قصدها وسكن فيها كبار الفنانين والمفكرين والشعراء وطالبي الراحة والاسترخاء كالاستشراقي “دي لاكروا” والروائي “فلوبير” والمفكّر الشاعر “سان جان بيرس” والبارون الألماني “ديرلونجي” الذي أسّس فيها التحفة الفنية المعروفة الآن بقصر “النجمة الزهراء” كمركز للموسيقى الشرقية والأندلسية بعد أن استقدم المبدع السوري الحلبي علي الدرويش بداية القرن الماضي، وكلّفه بجمع وتنويط وتدوين التراث الغنائي الشفهي القادم من الأندلس.
حاول الظلاميون (ومعهم جارنا الذي تربى في ضاحية سيدي بوسعيد الخلابة) طمس وإطفاء هذه المنارة المحبة للتسامح بذريعة محاربة مظاهر “الكفر والشرك بالله”.
من ولّى هؤلاء حماة للحمى والدين، من فوّضهم سدنة للتوحيد وإعلاء كلمة الحقّ وأيديهم ملطّخة بالدماء؟ جباههم تعلن شعارات التخلّف والكراهية وقلوبهم تفيض نقمة وعداء لكل ما هو جميل وأصيل.
جاري الذي أصبح متجهما بعد أن أصابته اللوثة الداعشية، لم يكن إلا نموذجا مصغرا لأولئك الذين يشنون حربا على التاريخ
لعلّ التاريخ في حركته اللولبية -شبه الدائرية- يذكّر بما كانت عليه ضاحية سيدي بوسعيد القريبة من ضاحية قرطاج، والمطلّة بهضبتها الشاهقة على بحر كان ولا يزال يفصل بيننا وبين الضفة الأخرى، وتمخر عبابه سفن محمّلة بالقمح والزيتون والكتب أيضا.. أما الآن فتحاول شق عرض هذا البحر أيضا، مراكب الهجرة المتهالكة، والتي تضم في ما بينها أيضا شبانا قد يسقطون في فخاخ الإرهاب وجماعات الإسلام السياسي.
لجأ إلى ضاحية سيدي بوسعيد القراصنة المحاربون كـ”عرّوج” و”بربروس” في حربهم مع الأسبان بعد الخروج من الأندلس، وما تلا ذلك من معارك الاستنزاف والملاحقة ثمّ اعتلى قمّتها الشيخ الصوفي أبوسعيد الباجي المعروف لدى حلقات مريديه في أناشيد حضرته الشهيرة بـ”ريّس البحار” أي ما يعادل كلمة “قدّيس البحار” الذي يتبرّك به الصيادون في الضفّة الأخرى من المتوسّط.
أمّا المفارقة الأكثر حضورا فهي ما تتحدّث عنه الرواية الشعبية حول السجال الذي دار بين شيخي مدينة تونس آنذاك: أبوسعيد الباجي ومحرز بن خلف، الملقّب بسلطان المدينة، إذ حبّذ الأخير الاعتكاف وسط مغريات المدينة على عكس الأوّل الذي لجأ إلى أعلى جبلها تقرّبا من الصفاء الروحي والتأمل الصوفي.
هكذا تنسق أيادي الإرهاب -والتي طالت مقامي هذين الشيخين الصوفيين- في ما بينها من خلف البحر، لتتآمر على الثقافة والجمال وسمو الفكر الإنساني.
حكيم مرزوقي
صحيفة العرب اللندنية