على مدار مائة عام، كانت الولايات المتحدة قائداً للعالم الحر. ومع انتخاب دونالد ترامب، تكون أميركا قد تنازلت عن ذلك الدور. وقد حان الوقت لكي تملأ أوروبا وأنجيلا ميركل الفراغ.
* * *
حتى التاريخ يميل أحياناً إلى العاطفية المفرطة. وفي كانون الثاني (يناير) 2017، عندما يؤدي الرئيس دونالد ترامب اليمين القانونية ليكون الرئيس رقم 45 للولايات المتحدة، سوف يحتفي “العصر الأميركي” بعيد ميلاده المائة -وبجنازته أيضاً.
كان الغرب قد تأسس في شكله الحالي في كانون الثاني (يناير) من العام 1917. وفي ذلك الحين، كانت الحرب العالمية الأولى تستعر في أوروبا. وفي واشنطن العاصمة، قال الرئيس وودرو ولسون لبلده إن الوقت قد حان لأن يتولى الأميركيون المسؤولية عن “إحلال السلام والعدل”. وفي نيسان (أبريل) من ذلك العام، قال: “يجب أن يكون العالم آمناً من أجل إرساء الديمقراطية”. وأعلن الحرب على ألمانيا وأرسل جنوداً إلى أوروبا لضمان تحقيق النصر للديمقراطيات الغربية -وتولت الولايات المتحدة قيادة العالم الغربي. وكانت تلك مرحلة مبكرة من العولمة السياسية.
بعد مائة عام من ذلك: يأتي ترامب
ترامب الذي لا يريد أي شيء يتصل بالعولمة؛ ترامب الذي يبشر بالقومية الأميركية والانعزالية والانسحاب الجزئي من التجارة العالمية، وتحمل صفر مسؤولية عن المشاكل العالمية، مثل تغير المناخ. وكل هذا بعد حملة انتخابات شاذة منحرفة، تميزت بالسخط، والعنصرية والتحريض.
تشكل الكرامة الإنسانية محور المشروع الغربي. وبعد الثورات في فرنسا والولايات المتحدة في أواخر القرن الثامن عشر، بدأت الدول في ضمان حقوق الإنسان لأول مرة. ولحقوق الإنسان صبغة معيارية، كما قال هنريك أوغست فينكلر في عمله البارز الضخم “تاريخ الغرب”. ولا يستطيع شخص عنصري أن يجسد هذا المشروع المعياري. ولا يتوافر ترامب على أي إحساس بالكرامة -لا لنفسه ولا للآخرين، ولذلك، لا يبدو مؤهلاً لأن يكون قائداً للعالم الغربي لأنه غير راغب وغير قادر في آن على الاضطلاع بذلك الدور.
إننا نواجه الآن الفراغ -الخوف من الفراغ. ما الذي سيحصل للغرب، لأوروبا، لألمانيا من دون أن تكون الولايات المتحدة قوتها القائدة؟ لا يغيب عن البال أن ألمانيا تشكل طفلاً للغرب وخاصة الولايات المتحدة. وقد جُلبت إلى الحياة بفضل السخاء الأميركي وتغذية الملعقة الطويلة، وهي الآن في حالة صدمة عميقة. وكان الرئيس الأميركي، أي رئيس، هو رئيسنا نحن بالتزامن، قليلاً على الأقل، وكان باراك أوباما رئيساً جديراً للغرب. والآن، أصبحنا نتفق جميعاً على أن هناك افتقاراً للقيادة الغربية.
ماذا كانت تلك الأعوام المائة؟ من الممكن سرد التاريخ الخاص بالغرب الحديث بطرق عدة: كقصة بطولية، كقصة جشع، وكمهمة، أو كقصة خوف. ويتحدث هذا المقال عن 100 سنة من الخوف، خاصة الخوف على حريتنا، وعن رهاب أميركي بشكل خاص، والذي انتشر إلى باقي الغرب. ولا يتم استخدام الكلمة هنا بشكل سلبي: فنحن نتكلم عن الخوف كسور يقينا من الخطر. والمعروف أن هناك مخاوف جيدة وأخرى سيئة.
الصمغ الذي يبقي المجتمعات متماسكة معاً
تحت القيادة الأميركية، كانت الديمقراطيات المتحدة معاً ناجحة تماماً في توزيع وتقسيم الأنظمة المتنافسة. وقد تمكنت هذه الديمقراطيات من هزيمة الإمبراطورية الألمانية المحافظة والنمسا وهنغاريا في الحرب العالمية الأولى. وفي الحرب العالمية الثانية، تمكنت من إزالة الأنظمة الفاشية في الرايخ الألماني وفي إيطاليا. وفي الحرب الباردة، أفرغت الهواء من رئتي الاتحاد السوفياتي الشيوعي وأتباعه حتى انهاروا.
في مستهل العقد الأخير من القرن العشرين، كان كاسب التاريخ واضحاً: الغرب. فما الذي جعله قوياً جداً؟ من جهة، كانت الحرية نفسها. كان اقتصاد السوق متفوقاً بوضوح على النماذج الاقتصادية التي كانت تحت سيطرة الدولة بشكل أكثر مباشرة. وفي اللعبة الحرة للقوى، طور الغرب منتجات أفضل وأصبح أكثر ثراء، سوية مع امتلاك القوة لكسب الحروب وسباقات التسلح.
كما أن الخوف من فقدان الحرية كان الصمغ القوي الذي جعل المجتمعات تتماسك سوية. ومن الطبيعي أنها كانت هناك مناقشات ومظاهرات وتجهم، وكان هناك من فضل أن يكون أحمر بدلاً من أن يكون ميتاً، وإنما كان من الممكن دائماً تأسيس أغلبية للإجماع الغربي الأساسي: إننا سوف نحتفظ بحرياتنا في الوطن وفي الخارج، بل إننا قد نوسع هذه الحريات. وقد رصت هذه الفكرة المجتمعات مع بضعها بعضا. وفي ظل القيادة الأميركية، وتحت الدرع النووي الأميركي، كانت هذه المجتمعات قوية ومتحدة نسبياً -“كغرب”.
كان عقد التسعينيات أكثر أزمان الغرب سعادة. كان العالم الديمقراطي قد نما، كما أن الخوف على حريتنا تبدد مرة وإلى الأبد. ولم تعد هناك أي قوة رئيسية تتحدى الحرية وتتهددها.
دام ذلك حتى 11 أيلول (سبتمبر) من العام 2001، أي عندما بدأ كل شيء من البداية مرة أخرى. هاجم الإسلامويون المحاربون عاصمة الحرية، نيويورك، ووزارة الدفاع في واشنطن العاصمة. واستمر الإرهاب منذ ذلك الحين ومن دون انقطاع.
أصبح الخوف يسيطر حالياً أكثر من أي وقت مضى، لكنه ليس مجرد الخوف من الإرهاب وحسب. إنه الخوف أيضاً من فقدان الحرية كما كان الحال في الماضي، وإنما الخوف من الحرية نفسها. هذا هو التحول المعياري الذي مهد الطريق أمام دونالد ترامب للصعود إلى البيت الأبيض. وتوجد هاتان الصورتان من الخوف بالتزامن في المجتمعات الغربية. هناك يتم التمتع بالحرية والخوف منها. ويتم الدفاع عن الحرية والقتال ضدها، ويجري توسيع الحرية وتقييدها. ولعل الأمر مجرد تساؤل عن أي صورتي الخوف هي التي تسيطر على المجتمع المعني، ومن أي تيار في السلطة.
وحدهم مع مخاوفهم
يمكن للخوف من الحرية أن يتخذ أشكالا عدة. وهناك أيضاً الخوف من حرية المرء نفسه، لكنه في العادة خوف من حرية الآخرين. وكان الفيلسوف الوجودي الفرنسي، جان بول سارتر، قد قال: “جهنم هي الآخرون”. إذا كانوا أحراراً، إذا أحب المرء أن يضيف.
إذا كانوا أحراراً بما يكفي لاجتياز الحدود والتطلع إلى أماكن جديدة للاستقرار فيها. إذا كانوا أحراراً كفاية لتصدير سلعهم، وبالتالي منافسة سلع البلدان الأخرى. إذا كانوا أحراراً كفاية للقتال من أجل حقوقهم في المساواة، كنساء وكشاذين جنسياً ومن غير البيض. والآن، يُنظر إلى البيض، وخاصة كبار السن منهم، على أنهم صناع الملك ترامب. وكان دعمه في هذه المجموعة عالياً بشكل خاص في الانتخابات.
من دون شك، كان من الخطأ ترك هؤلاء الرجال، والنساء اللواتي يفكرن مثلهم، ليعيشوا وحدهم مع مخاوفهم -وعدم أخذهم على محمل الجد بما يكفي. المخاوف الكامنة تولد الغضب، وخاصة في أوساط أولئك المتهمين بعدم عمل شيء لإبعاد تلك المخاوف -بعبارات أخرى، المؤسسة- في السياسة والإعلام على حد سواء. ولأول مرة، زود الإنترنت هذا الغضب بحجرة للصدى، سامحاً له بأن يصل إلى جمهور أعرض، وبتعظيم أصوات أولئك الذين يتملكهم الخوف والغضب. وعندما وضع دونالد ترامب نفسه على رأس هذه الحركة من الغضب، وجد الدعم الذي يلزمه ليصبح رئيساً. ومن المتوقع منه الآن أن يحد من الحريات، بما في ذلك التجارة الحرة والهجرة. ومرة أخرى، يخشى العديد من الأميركيين، وخاصة أعضاء الأقليات، على حريتهم. لكن التهديد يأتي هذه المرة من الداخل. ويخشى هؤلاء أنهم سيواجهون تمييزاً أكبر ضد ثقافاتهم وطرق حياتهم في ظل رئاسة ترامب.
من الممكن تلخيص هذه الدراما كلها في هذه الجملة: ذلك الشيء الفريد في الغرب -الحرية- يُفهم على أنه تهديد. لا يمكن لأزمة أن تكون أكثر أساسية من ذلك وللمسوغات نفسها كما هي في الولايات المتحدة: الهجرة والعولمة والتجارة الحرة بشكل خاص. ولكن، عندما يتعلق الأمر باتفاقية التجارة الحرة عبر الأطلسي، فإن الأميركيين الذين يخشاهم الأوروبيون هم الأكثر خوفاً -كما يبدو- من الأوروبيين. ولكن لا يحتاج الأوروبيون ولا الأميركيون إلى القلق بعد الآن: من المرجح أن يضع ترامب حداً للاتفاقية.
في أوروبا الغربية، لم يستطع الخائفون والغاضبون حتى الآن من دفع واحد من ممثليهم إلى منصب رئيس الوزراء أو الرئيس، على الرغم من أن ذلك يمكن أن يحدث في الانتخابات الرئاسية القادمة في النمسا في وقت مبكر من كانون الأول (ديسمبر) المقبل.
لطالما شكلت أميركا المعيار الذي يحتكم إليه الغرب. ولكن، إذا حكم ترامب كما وعد خلال الحملة الانتخابية، فإن أرض الحرية ستتنازل عن دورها كقائد للعالم الحر. وعند ذلك، سيأتي دور أوروبا. على القارة أن تقاوم الشعبوية بمزيج ذكي من أخذ المخاوف على محمل الجد ومواجهة الغضب، وإنما من دون قمع الحريات.
الانجراف نحو الانفصال
حان الوقت لأن تضع أوروبا تأكيداً أقوى على الاتحاد الأوروبي. وقد قيل هذا الكلام سابقاً وكتب آلاف المرات، لكن صدمة ترامب قد تساعد في ضمان أن يحدث في نهاية المطاف.
لسوء الطالع، أصبحت أوروبا حالياً في أسوأ شكل لها في عقود. البريطانيون تركوا الاتحاد الأوروبي، في جزء منه خوفاً من حرية الآخرين في الاستقرار في بريطانيا العظمى. وثمة العديد من الحكومات التي تشدد على التقسيم بدلاً من توحيد القضايا. البلدان الأوروبية تتمزق.
بمفهوم معين، كانت هذه البلدان تستطيع القيام بذلك منذ وقت طويل. ففي السنوات المائة التي كانت فيها الولايات المتحدة القوة الحامية والقائدة للغرب، عاش حلفاؤها الغربيون في وجود مريح نسبياً، وكان لديهم ترف اعتناق الفكرة الأوروبية بنصف قلب، لأن الأميركيين كانوا هناك. وحافظ كل بلد على علاقته الخاصة مع الولايات المتحدة، واعتمد كل طرف على سلاحه وعلى عزيمته في حال الطوارئ. والآن، من المرجح أن تعتمد أوروبا على نفسها لتوفير أمنها الخاص -هذا في وقت وجود فلاديمير بوتين ورجب طيب أردوغان و”داعش” في الجوار الأوروبي.
الآن، يواجه قادة الغرب، ناقصين أميركا، مهاماً ضخمة في انتظارهم. وهي مهام تنتظر المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل. فهي تمثل بلداً قوياً وتتمتع بأساس أخلاقي قوي، كما أظهرت في أزمة اللجوء. ولا يجب عليها أن تكون وودرو ولسون آخر، لكن عليها أن تكون زعيمة حاسمة. وإذا لم تكن كذلك، فإن ذلك يعني أنها لم تميّز علامات هذا الزمان.
ترجمة عبدالرحمن الحسيني
صحيفة الغد